فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (58):

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما تقدم في هذه السورة الأمر بالإحسان والعدل في النساء واليتامى في الإرث وغيره، وفي غير ذلك من الدماء والأموال والأقوال والأفعال، وذكر خيانة أهل الكتاب وما أحل بهم لذلك من العقاب، وذكر أنه آتى هذه الأمة الملك المقتضي للحكم، وآتاهم الحكمة بعد جهلهم وضعفهم؛ أقبل عليهم بلذيذ خطابه بعد ما وعدهم على امتثال أمره من كريم ثوابه بما ختمه بالظل الموعود على العدل في حديث: «سبعة يظلمهم الله في ظله» فقال: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {يأمركم} أي أيتها الأمة {أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} أي من غير خيانة ما، كما فعل أهل الكتاب في كتمان ما عندهم والإخبار بغيره، والأمانة: كل ما وجب لغيرك عليك.
ولما أمر بما يحق للإنسان في نفسه، أمر بما يحق له في معاملة غيره، وحقق لهم ما لم يكونوا يرومونه من أمر الملك بقوله بأداة القطع عاطفًا شيئين على شيئين: {إذا حكمتم} وبين عموم ملكهم لسائر الأمم بقوله: {بين الناس} وبين المأمور به بقوله: {أن تحكموا بالعدل} أي السواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له، فإن ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل» الحديث.
ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله: {إن الله} معبرًا أيضًا بالاسم الأعظم {نعمَّا} أي نعم شيئًا عظيمًا {يعظكم به} وحثهم على المبادرة إلى حسن الامتثال بقوله: {إن الله} مكررًا لهذا الاسم الشريف ليجتهدوا في الترقي في طهارة الأخلاق إلى حد لم يبلغه غيرهم.
ولما كان الرقيب في الأمانات لابد له من أن يكون له من يد سمع وعلم قال: {كان} أي ولم يزل ولا يزال {سميعًا} أي بالغ السمع لكل ما يقولونه جوابًا لأمره وغيره ذلك {بصيرًا} أي بالغ البصر والعلم بكل ما يفعلونه في ذلك وغيره من امتثال وغيره. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم انه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى، وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات، أو من باب الدنيا والمعاملات، وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكان من أجل الأعمال الصالحة الأمانة لا جرم أمر بها في هذه الآية. اهـ.

.قال أبو حيان:

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين، وذكر عمل الصالحات، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين.
ولما كان الترتيب الصحيح أنْ يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار، ثم يشتغل بحال غيره، أمر بأداء الأمانة أولًا ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
استئناف ابتدائي قصد منه الإفاضة في بيان شرائع العدل والحكم، ونظام الطاعة، وذلك من الأغراض التشريعية الكبرى التي تضمّنتها هذه السورة، ولا يتعيّن تطلّب المناسبة بينه وبين ما سبقه، فالمناسبة هي الانتقال من أحكام تشريعية إلى أحكام أخرى في أغراض أخرى.
وهنا مناسبة، وهي أنّ ما استطرد من ذكر أحوال أهل الكتاب في تحريفهم الكلم عن مواضعه، وليّهم ألسنتهم بكلمات فيها توجيه من السبّ، وافترائهم على الله الكذب، وحسدهم بإنكار فضل الله إذ آتاه الرسول والمؤمنين، كلّ ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين، والعلم، والحقّ، والنعمة، وهي أمانات معنويّة، فناسب أن يعقب ذلك بالأمر بأداء الأمانة الحسيّة إلى أهلها ويتخلّص إلى هذا التشريع. اهـ.

.اللغة:

{نعما}: أصلها نعم ما أي نعم الشيء تعظيما له.
{تأويلا} مآلا وعاقبه.
{يزعمون} الزعم: الاعتقاد الظني، قال الليث: أهل العربية يقولون: زعم فلان إذا شكوا فيه فلم يعرفوا أكذب أو صدق، وقال ابن دريد: أكثر ما يقع على الباطل، ومنه قولهم: زعموا مطية الكذب.
{توفيقا} تأليفا والوفاق والوفق ضد المخالفة.
{بليغا} مؤثرا.
{شجر} اختلف واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه واختلاط بعضها في بعض.
{حرجا} ضيقا وشكا، قال الواحدي: يقال للشجر الملتف لا يكاد يوصل اليه: حرج. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار- وكان سادن الكعبة- باب الكعبة، وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه، وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى علي بين أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية، فأمر عليًا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه، فقال عثمان لعلي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهبط جبريل عليه السلام وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبدا.
فهذا قول سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق.
وقال أبو روق: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: أعطني المفتاح فقال: هاك بأمانة الله، فلما أراد أن يتناوله ضم يده، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك مرة ثانية: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأعطني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله، فلما أراد أن يتناوله ضم يده، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مرة ثالثة، فقال عثمان في الثالثة: هاك بامانة الله ودفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يطوف ومعه المفتاح وأراد أن يدفعه إلى العباس، ثم قال: يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس نصيبا معك، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: «هاك خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم» ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده اليوم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} في تصدير الكلامِ بكلمة التحقيقِ وإظهارِ الاسمِ الجليلِ وإيرادِ الأمرِ على صورة الإخبارِ من الفخامة وتأكيدِ وجوبِ الامتثال به والدِلالةِ على الاعتناء بشأنه ما لا مزيدَ عليه، وهو خطابٌ يعُمّ حكمُه المكلّفين قاطبة كما أن الأماناتِ تعمُّ جميعَ الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من حقوق الله تعالى وحقوقِ العبادِ سواءٌ كانت فعليةً أو قوليةً إو اعتقاديةً وإن ورد في شأن عثمانَ بنِ طلحةَ بنِ عبدِ الدارِ سادنِ الكعبةِ المعظمةِ وذلك أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكةَ يوم الفتح أغلق عثمانُ رضي الله عنه بابَ الكعبةِ وصعِدَ السطحَ وأبى أن يدفعَ المِفتاحَ إليه وقال: لو علمت أنه رسولُ الله لم أمنعْه فلوى علي بنُ أبي طالبٍ يدَه وأخذه منه وفتح ودخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباسُ أن يُعطِيَه المفتاحَ ويجمعَ له السِقاية والسِدانة فنزلت فأمر عليًا أن يُردَّه إلى عثمانَ ويعتذرَ إليه فقال عثمان لعليّ: أكرهتَ وآذيتَ ثم جئت ترفو فقال: لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنًا فقرأ عليه الآية فقال عثمانُ: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فهبَط جبريلُ عليه الصلاة والسلام وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن السِّدانةَ في أولاد عثمانَ أبدًا.
وقرئ الأمانةَ على التوحيد والمرادُ الجنسُ لا المعهودُ، وقيل: هو أمرٌ للولاة بأداء الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من المناصب وغيرِها إلى مستحقيها كما أن قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} أمرٌ لهم بإيصال الحقوقِ المتعلقةِ بذمم الغيرِ إلى أصحابها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات} هذه الآية من أمّهات الأحكام تضمنّت جميع الدَّين والشرع.
وقد اختُلِف مَن المخاطب بها؛ فقال علي بن أبي طالب وزيد بن أسلم وشَهْر بن حَوْشَب وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصَّة، فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأُمَرائه، ثم تتناول من بعدهم.
وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحَجَبي العَبْدَري من بني عبد الدّار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السِّدانة إلى السِّقاية؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية.
قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبلُ منه، فدعا عثمان وشيبة فقال: «خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» وحكى مَكِّي: أن شيبة أراد ألاّ يدفع المفتاح، ثم دفعه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: خذه بأمانة الله.
وقال ابن عباس: الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردُوهن إلى الأزواج.
والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات.
وهذا اختيار الطبري.
وتتناول مَن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرّز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة مّا ونحوه؛ والصلاةُ والزكاةُ وسائرُ العبادات أمانة الله تعالى.
ورُوي هذا المعنى مرفوعًا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلّها» أو قال: «كلّ شيء إلا الأمانة والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشدّ ذلك الودائع» ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية.
وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب قالوا: الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخّص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة.
قلت: وهذا إجماع.
وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرارِ منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر.