فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قال أبو بكر الرازي: من الأمانات الودائع، ويجب ردها عند الطلب والأكثرون على أنها غير مضمونة.
وعن بعض السلف أنها مضمونة، روى الشعبي عن أنس قال: استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي، فضمنني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وعن أنس قال: كان لإنسان عندي وديعة ستة آلاف درهم فذهبت، فقال عمر: ذهب لك معها شيء؟ قلت لا، فألزمني الضمان، وحجة القول المشهور ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضمان على راع ولا على مؤتمن» وأما فعل عمر فهو محمول على أن المودع اعترف بفعل يوجب الضمان. اهـ.
قال الفخر:
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: العارية مضمونة بعد الهلاك، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: غير مضمونة.
حجة الشافعي قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} وظاهر الأمر للوجوب، وبعد هلاكها تعذر ردها بصورتها، ورد ضمانها ردها بمعناها، فكانت الآية دالة على وجوب التضمين.
ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» أقصى ما في الباب أن الآية مخصوصة في الوديعة، لكن العام بعد التخصيص حجة، وأيضًا فلأنا أجمعنا على أن المستام مضمون، وأن المودع غير مضمون، والعارية وقعت في البين، فنقول: المشابهة بين العارية وبين المستام أكثر، لأن كل واحد منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه، بخلاف المودع، فإنه أخذ الوديعة لغرض المالك، فكانت المشابهة بين المستعار وبين المستام أتم، فظهر الفرق بين المستعار وبين المودع.
حجة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضمان على مؤتمن».
قلنا: إنه مخصوص في المستام، فكذا في العارية، ولأن دليلنا ظاهر القرآن وهو أقوى. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن الأمانة عبارة عما إذا وجب لغيرك عليك حق فأديت ذلك الحق إليه فهذا هو الأمانة، والحكم بالحق عبارة عما إذا وجب لإنسان على غيره حق فأمرت من وجب عليه ذلك الحق بأن يدفعه إلى من له ذلك الحق، ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بغيره، لا جرم أنه تعالى ذكر الأمر بالامانة أولا، ثم بعده ذكر الأمر بالحكم بالحق، فما أحسن هذا الترتيب، لأن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} قال الضحاك: بالبيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.
وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل في ذلك بالمعنى جميعُ الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن المُقْسِطين يوم القيامة على منابَر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلوُا» وقال: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راعٍ على أهله وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنه والعبد راعٍ على مال سيّده وهو مسؤول عنه ألاَ فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كلَّ هؤلاء رعاة وحكامًا على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم؛ لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصَل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدَّى وحكم يُقضَى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم، فالواو للعطف، والظرف متعلق بما بعد أن وهو معطوف على {أَن تُؤدُّواْ} والجار متعلق به أو بمقدر وقع حالًا من فاعله أي: ويأمركم أن تحكموا بالإنصاف والسوية، أو متلبسين بذلك إذا قضيتم بين الناس ممن ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم، وهذا مبني على مذهب من يرى جواز تقدم الظرف المعمول لما في حيز الموصول الحرفي عليه، والفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وفي [التسهيل] الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلًا بالظرف والجار والمجرور جائز وليس ضرورة خلافًا لأبي علي، ولقيام الخلاف في المسألة ذهب أبو حيان إلى أن الظرف متعلق بمقدر يفسره المذكور أي وأن تحكموا إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ليسلم مما تقدم، ولا يجوز تعلقه بما قبله لعدم استقامة المعنى لأن تأدية الأمانة ليست وقت الحكومة، والمراد بالحكم ما كان عن ولاية عامة أو خاصة، وأدخلوا في ذلك ما كان عن تحكيم.
وفي بعض الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن رضي الله تعالى عنه بن علي كرم الله تعالى وجهه في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا بني أنظر كيف تحكم فإن هذا حكم والله تعالى سائلك عنه يقوم القيامة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} عطف {أن تحكموا} على {أن تؤدّوا} وفصل بين العاطف والمعطوف الظرف، وهو جائز، مثل قوله: {وفي الآخرة حسنة} [البقرة: 201] وكذلك في عطف الأفعال على الصحيح: مثل {وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين} [الشعراء: 129، 130].
والحكم مصدر حكم بين المتنازعين، أي اعتنى بإظهار المحقّ منهما من المبطل، أو إظهار الحقّ لأحدهما وصرَّح بذلك، وهو مشتقّ من الحُكْم بفتح الحاء وهو الردْع عن فعللِ ما لا ينبغي، ومنه سميّت حَكَمَة اللِّجام، وهي الحديدة التي تجعل في فم الفرس، ويقال: أحْكِمْ فُلانًا، أي أمْسِكْه.
والعدل: ضدّ الجور، فهو في اللغة التسوية، يقال: عَدَل كذا بكذا، أي سوّاه به ووازنه عدلًا {ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1]، ثمّ شاع إطلاقه على إيصال الحقّ إلى أهله، ودفع المعتدي على الحقّ عن مستحقّه، إطلاقًا ناشئًا عمّا اعتاده الناس أنّ الجور يصدر من الطغاة الذين لا يَعدّون أنفسهم سواء مع عموم الناس، فهم إن شاءوا عدلوا وأنصفوا، وإن شاءوا جاروا وظلموا، قال لبيد:
ومقسم يعطي العشيرة حقّها ** ومُغذمر لحقوقها هَضَّامها

فأطلق لفظ العدل الذي هو التسوية على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن، وذلك فك الشيء من يد المعتدي، لأنّه تظهر فيه التسوية بين المتنازعين، فهو كناية غالبة.
ومَظهر ذلك هو الحكم لصاحب الحقّ بأخذ حقّه ممّن اعتدى عليه، ولذلك قال تعالى هنا: {إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}، ثم توسّعوا في هذا الإطلاق حتّى صار يطلق على إبلاغ الحقّ إلى ربّه ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع.
والعدل: مساواة بين الناس أو بين أفراد أمّة: في تعيين الأشياء لمستحقّها، وفي تمكين كلّ ذي حقّ من حقّه، بدون تأخير، فهو مساواة في استحقاق الأشياء وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها، فالأوّل هو العدل في تعيين الحقوق، والثاني هو العدل في التنفيذ، وليس العدل في توزيع الأشياء بين الناس سواء بدون استحقاق.
فالعدل وسط بين طرفين، هما: الإفراط في تخويل ذي الحقّ حقّه، أي بإعطائه أكثر من حقّه، والتفريط في ذلك، أي بالإجحاف له من حقّه، وكلا الطرفين يسمّى جورًا، وكذلك الإفراط والتفريط في تنفيذ الإعطاء بتقديمه على وقته، كإعطاء المال بيد السفيه، أو تأخيره كإبقاء المال بيد الوصي بعد الرشد، ولذلك قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} إلى قوله: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 5، 6]؛ فالعدل يدخل في جميع المعاملات.
وهو حسن في الفطرة لأنّه كما يصدُّ المعتدي عن اعتدائه، كذلك يصدّ غيره عن الاعتداء عليه، كما قال تعالى: {لا تَظْلِمُون ولا تُظلمون} [البقرة: 279].
وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة تعيّن أن تسَنّ الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرّعين ومصطلحات المشَرَّع لهم، على أنّها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الْاحوال، فإنّ بعض القوانين أسّست بدافعة الغضب والأنانية، فتضمّنت أخطاء فاحشة مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متَولين الأمور قبلهم، وبعض القوانين المتفرّعة عن تخيّلات وأوهام، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية.
ونجد القوانين التي سنّها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبَرطة، وأعلى القوانين هي الشرائع الألهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم، وأعظمها شريعةُ الإسلام لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالّة، فإنّها لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بعوائد الفساد، ولأنّها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصّة، أو بلد خاصّ، بل تبتنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدوّنون بيان الحقوق حفظًا للعدل بقدر الإمكان وخاصّة الشرائع الإلهية، قال تعالى: {لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد: 25] أي العدل.
فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة فهو مدرج فيها وملحق بها.
وإنّما قيّد الأمر بالعدل بحالة التصدّي للحكم بين الناس، وأُطلق الأمر بردّ الأمانات إلى أهلها عن التقييد: لأنّ كلّ أحد لا يخلو من أن تقع بيده أمانة لغيره لاسيما على اعتبار تعميم المراد بالأمانات الشامل لما يجب على المرء إبلاغه لمستحقّه كما تقدّم، بخلاف العدل فإنّما يؤمر به ولاة الحكم بين الناس، وليس كلّ أحد أهلًا لتولّي ذلك.
فتلك نكتة قوله: {وإذا حكمتم بين الناس}. اهـ.

.قال الفخر:

أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} والتقدير: إن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.
وقال: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 90] وقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} [الأنعام: 152] وقال: {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26] وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت» وعن الحسن قال: ان الله أخذ على الحكام ثلاثا: أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.
ثم قرأ {يا داود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض} إلى قوله: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} [ص: 26] وقرأ {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون} إلى قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: 44] ومما يدل على وجوب العدل الآيات الواردة في مذمة الظلم قال تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم} [الصافات: 22] وقال عليه الصلاة والسلام: «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة، فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار» وقال أيضا: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} [إبراهيم: 42] وقال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ} [النمل: 52].