فصل: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (السياسة الشرعية) بعد الخطبة ما نصه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَا أَخَذْتَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ لِمَنْفَعَتِهِ.
الصَّحِيحُ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَمَانَةٌ؛ وَمَعْنَى الْأَمَانَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنَّهَا أُمِنَتْ مِنْ الْإِفْسَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى: بِأَدَائِهَا إلَى أَرْبَابِهَا:
وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَمْرُ السَّرَايَا؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَمَكْحُولٌ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي «عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الْمِفْتَاحَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُوهَا، فَدَعَا عُثْمَانُ، فَدَفَعَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ»، فَكَانَتْ وِلَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنَاهِيكَ بِهَذَا فَخْرًا.
وَرُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ تُجْمَعَ لَهُ السَّدَانَةُ وَالسِّقَايَةُ، وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ شَيْبَةُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عمومية الآية:
لَوْ فَرَضْنَاهَا نَزَلَتْ فِي سَبَبٍ فَهِيَ عَامَّةٌ بِقَوْلِهَا، شَامِلَةٌ بِنُظُمِهَا لِكُلِّ أَمَانَةٍ؛ وَهِيَ أَعْدَادٌ كَثِيرَةٌ، أُمَّهَاتُهَا فِي الْأَحْكَامِ: الْوَدِيعَةُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالرَّهْنُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْعَارِيَّةُ.
أَمَّا الْوَدِيعَةُ: فَلَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهَا حَتَّى تُطْلَبَ، وَأَمَّا اللُّقَطَةُ فَحُكْمُهَا التَّعْرِيفُ سَنَةً فِي مَظَانِّ الِاجْتِمَاعَاتِ، وَحَيْثُ تُرْجَى الْإِجَابَةُ لَهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْكُلُهَا حَافِظُهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا غَرِمَهَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا.
وَأَمَّا الرَّهْنُ: فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ أَدَاءٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ دَيْنَهُ.
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ: إذَا انْقَضَى عَمَلُهُ فِيهَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَهَا، وَلَا يُحْوِجُهُ إلَى تَكْلِيفٍ لِلطَّلَبِ وَمُؤْنَةِ الرَّدِّ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي الْإِجَارَةِ: يَرُدُّهَا أَيْنَ أَخَذَهَا إنْ كَانَ مَوْضِعُ ذَلِكَ فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}:
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَالَ أَبِي: هُمْ السَّلَاطِينُ، بَدَأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ؛ فَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا لَدَيْهِمْ مِنْ الْفَيْءِ، وَكُلُّ مَا يَدْخُلُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يُوصِلُوهُ إلَى أَرْبَابِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ، وَأَمَرَنَا بَعْدَ ذَلِكَ بِطَاعَتِهِمْ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.
قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْحُكْمِ عَامَّةً فِي الْوِلَايَةِ وَالْخَلْقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَالِمٌ، بَلْ كُلُّ مُسْلِمٍ حَاكِمٌ وَوَالٍ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُقْسِطُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ: أَلَّا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كُلَّ هَؤُلَاءِ رُعَاةً وَحُكَّامًا عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْعَالَمُ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ إذَا أَفْتَى يَكُونُ قَضَى، وَفَصَلَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْفَرْضِ وَالنَّدْبِ، وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ؛ فَجَمِيعُ ذَلِكَ فِيمَنْ ذَكَرْنَا أَمَانَةٌ تُؤَدَّى وَحُكْمٌ يُقْضَى، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (السياسة الشرعية) بعد الخطبة ما نصه:

وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى آيَتَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ وَهِيَ قَوْله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. قَالَ الْعُلَمَاءُ: نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُولَى فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ؛ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَنَزَلَتْ الثَّانِيَةُ فِي الرَّعِيَّةِ مِنْ الْجُيُوشِ وَغَيْرِهِمْ؛ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ الْفَاعِلِينَ لِذَلِكَ فِي قَسَمِهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمُغَازِيهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إلَّا أَنْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِذَا أَمَرُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ؛ فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وُلَاةُ الْأَمْرِ ذَلِكَ أُطِيعُوا فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأُدِّيَتْ حُقُوقُهُمْ إلَيْهِمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. وَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ قَدْ أَوْجَبَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَالْحُكْمَ بِالْعَدْلِ: فَهَذَانِ جِمَاعُ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلَايَةِ الصَّالِحَةِ.
أَمَّا أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ فَفِيهِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا الْوِلَايَاتُ: وَهُوَ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَتَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ طَلَبَهَا مِنْهُ الْعَبَّاسُ. لِيَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَسِدَانَةِ الْبَيْتِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَدَفَعَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ. فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلَحَ مَنْ يَجِدُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا وَهُوَ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ وَلَّى رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ: لِابْنِ عُمَرَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا لِمَوَدَّةِ أَوْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ. فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوِلَايَاتِ مِنْ نُوَّابِهِ عَلَى الْأَمْصَارِ؛ مِنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ نُوَّابُ ذِي السُّلْطَانِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ وَمِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَمُقَدِّمِي الْعَسَاكِرِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ وَوُلَاةِ الْأَمْوَالِ: مِنْ الْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَالشَّادِينَ وَالسُّعَاةِ عَلَى الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَسْتَنِيبَ وَيَسْتَعْمِلَ أَصْلَحَ مَنْ يَجِدُهُ؛ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إلَى أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُقْرِئِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ وَأُمَرَاءِ الْحَاجِّ وَالْبَرَدِ وَالْعُيُونِ الَّذِينَ هُمْ الْقُصَّادُ وَخُزَّانِ الْأَمْوَالِ وَحُرَّاسِ الْحُصُونِ وَالْحَدَّادِينَ الَّذِينَ هُمْ الْبَوَّابُونَ عَلَى الْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ وَنُقَبَاءِ الْعَسَاكِرِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَعَرْفَاءِ الْقَبَائِلِ وَالْأَسْوَاقِ وَرُؤَسَاءِ الْقُرَى الَّذِينَ هُمْ الدَّهَاقِينُ. فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُقَدِّمُ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ طَلَبَ الْوِلَايَةَ أَوْ سَبَقَ فِي الطَّلَبِ؛ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَنَّ قَوْمًا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَسَأَلُوهُ وِلَايَةً؛ فَقَالَ: إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ». «وَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا؛ وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ». رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنُ. فَإِنْ عَدَلَ عَنْ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ مُرَافَقَةٍ فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ جِنْسٍ: كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ؛ أَوْ لَرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ؛ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ أَوْ لِضَغَنِ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا؛ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثُمَّ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. فَإِنَّ الرَّجُلَ لِحُبِّهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِعَتِيقِهِ قَدْ يُؤْثِرُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ أَوْ يُعْطِيهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ فَيَكُونُ قَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ؛ وَكَذَلِكَ قَدْ يُؤْثِرُهُ زِيَادَةً فِي مَالِهِ أَوْ حِفْظِهِ؛ بِأَخْذِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْ مُحَابَاةِ مَنْ يُدَاهِنُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ. فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَانَ أَمَانَتَهُ. ثُمَّ إنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْأَمَانَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ هَوَاهُ يُثَبِّتُهُ اللَّهُ فَيَحْفَظُهُ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بَعْدَهُ وَالْمُطِيعُ لِهَوَاهُ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَيُذِلُّ أَهْلَهُ وَيُذْهِبُ مَالَهُ. وَفِي ذَلِكَ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ؛ أَنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ سَأَلَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَمَّا أَدْرَكَ فَقَالَ: أَدْرَكْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْفَرْت أَفْوَاهَ بَنِيك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَتَرَكْتهمْ فُقَرَاءَ لَا شَيْءَ لَهُمْ- وَكَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ- فَقَالَ: أَدْخِلُوهُمْ عَلَيَّ؛ فَأَدْخَلُوهُمْ؛ وَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا لَيْسَ فِيهِمْ بَالِغٌ فَلَمَّا رَآهُمْ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ وَاَللَّهِ مَا مَنَعْتُكُمْ حَقًّا هُوَ لَكُمْ وَلَمْ أَكُنْ بِاَلَّذِي آخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ فَأَدْفَعَهَا إلَيْكُمْ؛ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا صَالِحٌ فَاَللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ؛ وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا أُخَلِّفُ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ قُومُوا عَنِّي. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ بَنِيهِ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ يَعْنِي أَعْطَاهَا لَمِنْ يَغْزُو عَلَيْهَا. قُلْت: هَذَا وَقَدْ كَانَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ بِلَادِ التُّرْكِ إلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ جَزَائِرِ قُبْرُصَ وَثُغُورِ الشَّامِ وَالْعَوَاصِمِ كطرسوس وَنَحْوِهَا إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ. وَإِنَّمَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْئًا يَسِيرًا يُقَالُ: أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا- قَالَ وَحَضَرْت بَعْضَ الْخُلَفَاءِ وَقَدْ اقْتَسَمَ تَرِكَتَهُ بَنُوهُ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ؛ وَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَهُمْ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ- أَيْ يَسْأَلُهُمْ بِكَفِّهِ- وَفِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحِكَايَاتِ وَالْوَقَائِعِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَسْمُوعَةِ عَمَّا قَبْلَهُ؛ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ. وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةِ أَمَانَةٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي مَوَاضِعَ: مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ وَمِثْلَ «قَوْلِهِ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْإِمَارَةِ: إنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا إضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ». وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْنَى هَذَا؛ فَإِنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرَ الْوَقْفِ وَوَكِيلَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ؛ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ بِالْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وَلَمْ يَقُلْ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ حَسَنَةٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِيَ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ رَاعِي الْغَنَمِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ؛ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْوَلَدُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَا مِنْ رَاعٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَدَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الخولاني عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ؛ فَقَالُوا: قُلْ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ. فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ. فَقَالُوا: قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ. فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ. فَقَالُوا قُلْ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ. فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ. فَقَالَ: إنَّمَا أَنْتَ أَجِيرٌ اسْتَأْجَرَك رَبُّ هَذِهِ الْغَنَمِ لِرِعَايَتِهَا؛ فَإِنْ أَنْتَ هَنَأْت جَرْبَاهَا وَدَاوَيْت مَرْضَاهَا وَحَبَسْت أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا:
وَفَاك سَيِّدُهَا أَجْرَك وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَهْنَأْ جَرْبَاهَا وَلَمْ تداو مَرْضَاهَا؛ وَلَمْ تَحْبِسْ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا عَاقَبَك سَيِّدُهَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ عِبَادُ اللَّهِ وَالْوُلَاةُ نُوَّابُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُمْ وُكَلَاءُ الْعِبَادِ عَلَى نُفُوسِهِمْ؛ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَعَ الْآخَرِ؛ فَفِيهِمْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالْوِكَالَةِ؛ ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْوَكِيلُ متى اسْتَنَابَ فِي أُمُورِهِ رَجُلًا وَتَرَكَ مَنْ هُوَ أَصْلَحَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الْعَقَارِ مِنْهُ وَبَاعَ السِّلْعَةَ بِثَمَنِ وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهَا بِخَيْرِ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَقَدْ خَانَ صَاحِبَهُ لاسيما إنْ كَانَ بَيْنَ مَنْ حَابَاهُ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أَوْ قَرَابَةٌ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يُبْغِضُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ خَانَهُ وَدَاهَنَ قَرِيبَهُ أَوْ صَدِيقَهُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ إلَّا أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي مَوْجُودِهِ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ فَيَخْتَارُ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ فِي كُلِّ مَنْصِبٍ بِحَسْبِهِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ وَأَخَذَهُ لِلْوِلَايَةِ بِحَقِّهَا فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِي هَذَا وَصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ؛ وَإِنْ اخْتَلَّ بَعْضُ الْأُمُورِ بِسَبَبِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَيَقُولُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} وَقَالَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} فَمَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَقَدْ اهْتَدَى: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ مِنْهُ عَجْزٌ بِلَا حَاجَةٍ إلَيْهِ أَوْ خِيَانَةٍ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْأَصْلَحَ فِي كُلِّ مَنْصِبٍ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ: الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وَقَالَ صَاحِبُ مِصْرَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}. وَالْقُوَّةُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا؛ فَالْقُوَّةُ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ تَرْجِعُ إلَى شَجَاعَةِ الْقَلْبِ وَإِلَى الْخِبْرَةِ بِالْحُرُوبِ وَالْمُخَادَعَةِ فِيهَا؛ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْقِتَالِ: مِنْ رَمْيٍ وَطَعْنٍ وَضَرْبٍ وَرُكُوبٍ وَكَرٍّ وَفَرٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا وَارْكَبُوا وَإِنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَهِيَ نِعْمَةٌ جَحَدَهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْقُوَّةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ تَرْجِعُ إلَى الْعِلْمِ بِالْعَدْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ. وَالْأَمَانَةُ تَرْجِعُ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَأَلَّا يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا وَتَرَكَ خَشْيَةَ النَّاسِ؛ وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ حَكَمَ عَلَى النَّاسِ؛ فِي قَوْله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ. فَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ قَضَى بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَالْقَاضِي اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ خَلِيفَةً أَوْ سُلْطَانًا أَوْ نَائِبًا أَوْ وَالِيًا؛ أَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لِيَقْضِيَ بِالشَّرْعِ أَوْ نَائِبًا لَهُ حَتَّى مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخُطُوطِ. إذَا تَخَايَرُوا. هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرٌ.