فصل: من فوائد القاسمي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ): الْمُخَاطَبُونَ مَأْمُورُونَ بِأَدَاءِ الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا. فَلابد مِنْ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ وَأَهْلِ الأَمَانَاتِ إذَا جَعَلْنَا الْخِطَابَ شَامِلا لِكُلِّ الْعِبَادِ، فَكَيْفَ تَقَعُ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الأَمَانَاتِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ لِكُلِّ فَرْدٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَادِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الأَمَانَةِ إلَى أَهْلِهَا وَمَعَ هَذَا لا يُمْتَنَعُ الْعُمُومُ فِيهَا. فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُؤْتَمَنًا وَلَهُ أَمَانَةٌ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَأْمُورًا بِالأَدَاءِ إلَيْهِ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ): قَوْله تعالى: {أَنْ تُؤَدُّوا} مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيَأْمُركُمْ. وَأَصْلُهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ وَعَدَّى الْفِعْلَ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ نَزْعِ الْخَافِضِ فَإِنْ ذَلِكَ شَاذٌّ وَهَذَا فَصِيحٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْفِعْلِ لاسيما مَعَ أَنَّ وأَنْ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ حَذْفُ الْجَرِّ مَعَهُمَا وَهَذَا الْفِعْلُ مَعَ الاسْمِ هُوَ عَلَى الصَّرِيحِ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْتُك الْخَيْرَ وَمَعْنَاهُ: بِالْخَيْرِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْجَرِّ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَأْمُورِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْمَأْمُورُ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ الأَمْرُ وَالْمَأْمُورُ بِهِ مَا اُسْتُدْعِيَ حُصُولُهُ مِنْ الْمَأْمُورِ؛ فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ فَكَانَ حَذْفُ الْبَاءِ مِنْ الثَّانِي تَوَسُّعًا لا أَصَالَةً. وَابْنُ عُصْفُورٍ عَدَّ أَفْعَالا تَتَعَدَّى إلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهَا وَإِلَى الثَّانِي بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهِيَ أَصَارَ، وَاسْتَغْفَرَ، وَأَقَرَّ، وَسَمَّى، وَلَبَّى، وَدَعَا وَزَادَ غَيْرُهُ وَدَعَ، وَصَدَقَ وَزَادَ غَيْرُهُمَا أَفْعَالا أُخَرَ مِنْهَا وَعَدَ، وَأَنْذَرَ وَغَيْرَهُمَا، وَأَوْرَدَ ابْنُ عُصْفُورٍ عَلَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ ضَعِيفًا قَوِيًّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لا امْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعَيْنِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ): مُقْتَضَى الآيَةِ إذَا حَمَلْنَا الأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ أَنْ يَجِبَ أَدَاءُ الأَمَانَاتِ، وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: إنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوَدِيعَةِ التَّمْكِينُ لا التَّسْلِيمُ؛ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالأَدَاءِ الْقِيَامُ بِمَا يَجِبُ مِنْ أَمْرِهَا، وَذَلِكَ فِي الْوَدِيعَةِ حَاصِلٌ بِالتَّمْكِينِ وَالتَّخْلِيَةِ وَأَنْ لا يَجْحَدَهَا وَلا يَخُونَ فِيهَا وَلا يُفَرِّطَ، لَكِنَّ اسْتِعْمَالَ الأَدَاءِ فِي ذَلِكَ مَجَازٌ. وَأَمَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى جَوَابٍ آخَرَ، وَالأَقْرَبُ الأَوَّلُ. فَإِنَّ الأَمَانَاتِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا غُسْلُ الْجَنَابَةِ، وَالْوُضُوءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَلَوْ حَمَلْنَا الأَدَاءَ عَلَى الرَّدِّ لَمْ يَطَّرِدْ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ الْقِيَامِ بِوَاجِبِهَا وَذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ): مُقْتَضَى الآيَةِ الأَمْرُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ أَطَالَبَ بِهَا صَاحِبُهَا أَمْ لا، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُطْلِقُوا ذَلِكَ. وَمُقْتَضَى كَلامِهِمْ أَنَّهُ لا يَجِبُ إلا عِنْدَ الطَّلَبِ وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّيْنِ هَلْ يَجِبُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ لا؟ وَإِذَا كَانَتْ الآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي الأَمَانَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ فَفِي الدَّيْنِ أَوْلَى فَيَحْسُنُ فِي الآيَةِ أَنْ تُجْعَلَ دَلِيلا لأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، الْقَائِلُ بِوُجُوبِ أَدَاءِ الدَّيْنِ الْحَالِّ قَبْلَ طَلَبِهِ إلا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُهُ بِتَأْخِيرِهِ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً فَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً وَجَبَ.
(الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ): إذَا مَاتَ الْمُودَعُ وَلَمْ تُوجَدْ الْوَدِيعَةُ فِي تَرِكَتِهِ فَفِيهِ كَلامٌ طَوِيلٌ كَتَبْنَاهُ فِي تَصْنِيفٍ مُسَمًّى بِالصَّنِيعَةِ فِي ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ مِنْهُ أَنْ يَحْسُنَ أَنْ تُجْعَلَ حُجَّةً لِلتَّضْمِينِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَائِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ وَفَاتَ بِمَوْتِهِ وَعَدَمِ وِجْدَانِهَا فَيَضْمَنُهَا فِي تَرِكَتِهِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ): قوله: {الأَمَانَاتِ} يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ الَّذِي يُؤَدِّي فَيَكُونُ قَدْ عَبَّرَ عَنْ الْمُؤْتَمَنِ بِالأَمَانَةِ مَجَازًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ الأَمَانَةِ، وَأَدَاؤُهَا هُوَ الْقِيَامُ بِوَاجِبِهَا لأَنَّ الأَمَانَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالأَمَانَةُ اسْمٌ إمَّا لِلائْتِمَانِ وَإِمَّا لِقَبُولِ الأَمَانَةِ وَكِلاهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ قَوْلُهُ الأَمَانَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ}.
(السَّادِسَ عَشَرَ): قَوْله تعالى: {إلَى أَهْلِهَا} يُرَجَّحُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ لأَنَّهَا الَّتِي تُوصَفُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَنِسْبَتُهُ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ.
(السَّابِعَ عَشَرَ): قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَنَا أَنَّ الأَمْرَ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولا لِـ {تَحْكُمُوا} لأَنَّ مَعْمُولَ الْمَصْدَرِ لا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الظَّرْفِ وَغَيْرِهِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَعْمُولٌ لِـ {حَكَمْتُمْ} كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ فِي إذَا حَيْثُ وَقَعَتْ شَرْطًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ هُنَا لا يَجُوزُ ذَلِكَ لأَنَّهُ حِينَئِذٍ لابد لَهَا مِنْ جَوَابٍ. وَجَوَابُهَا إنَّمَا يَكُونُ جُمْلَةً، وَقوله: {أَنْ تَحْكُمُوا} لَيْسَ بِجُمْلَةٍ فَلا يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ هُنَا ظَرْفِيَّةً وَلَوْ كَانَ مَوْضِعُ {أَنْ تَحْكُمُوا} جُمْلَةً كَمَا لَوْ قَالَ: وَإِذَا حَكَمْتُمْ فَاحْكُمُوا بِالْعَدْلِ كَانَ الْكَلامُ فِي الْعَامِلِ فِي إذَا عَلَى الْخِلافِ الْمَشْهُورِ، هَلْ هُوَ الْجَوَابُ أَوْ الْفِعْلُ الْمُضَافُ إلَيْهِ إذَا هَذَا مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَالْحُكْمُ بِالْعَدْلِ مَأْمُورٌ بِهِ بِمُقْتَضَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الأَمَانَاتِ، فَيَكُونُ مَضْمُونُهَا مَأْمُورًا بِهِ أَيْضًا، وَمَضْمُونُهَا هَلْ هُوَ الْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، فَيَكُونُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ الْمَشْرُوطُ، أَوْ هُوَ رَبْطُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ غَيْرَهُ؟ فِيهِ نَظَرٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ.
(الثَّامِنَ عَشَرَ): الْعَدْلُ مَصْدَرُ عَدَلَ يَعْدِلُ عَدْلا؛ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. فَإِنَّ الْعَدْلَ قَدْ يَكُونُ قَوْلا غَيْرَ حُكْمٍ. قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وَقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} فَالإِقْرَارُ بِالْحَقِّ عَدْلٌ وَلَيْسَ بِحُكْمٍ، وَالْحُكْمُ قَدْ يَكُونُ عَدْلا وَقَدْ يَكُونُ جَوْرًا.
(التَّاسِعَ عَشَرَ) الْبَاءُ فِي بِالْعَدْلِ لِلاسْتِعَانَةِ وَقَدْ يُقَالُ: الاسْتِعَانَةُ أَوْ السَّبَبِيَّةُ إنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مُغَايِرٍ لِلْفِعْلِ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِهِ أَوْ يَكُونُ سَبَبًا فِيهِ؟ وَالْحُكْمُ لَيْسَ خَارِجًا مِنْ الْعَدْلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَدْلُ سَبَبًا أَوْ مُسْتَعَانًا بِهِ فِيهِ؟ وَالْجَوَابُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ نَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ نَوْعًا مِنْ الْحُكْمِ وَالنَّوْعُ أَخُصُّ مِنْ الْجِنْسِ وَالأَخَصُّ غَيْرُ الأَعَمِّ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا فِي حُصُولِ الأَعَمِّ أَوْ مُسْتَعَانًا بِهِ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِك: تَحَرَّكْت بِالْقِيَامِ. وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ الْعَدْلُ قَدْ نُقِلَ عَنْ الْمَصْدَرِ إلَى الْمُفْضِي بِهِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْقَوْلُ وَالْكَلامُ وَاللَّفْظُ وَمَا أَشْبَهَهَا تَارَةً وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ اللَّفْظِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَتَارَةً يُرَادُ بِهَا الْمَلْفُوظُ بِهِ فَلا يَكُونُ مَصْدَرًا وَحِينَئِذٍ تَدْخُلُ الْبَاءُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِك: تَكَلَّمْت بِكَلامٍ. وَعَلَيْهِ قَوْله تعالى: {أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا}.
(الْعِشْرُونَ): قَوْله تعالى: {إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} هِيَ نِعْمَ ومَا أُدْغِمَتْ إحْدَى الْمِيمَيْنِ فِي الأُخْرَى وَالْتُزِمَ كَسْرُ الْعَيْنِ لأَجْلِ ذَلِكَ انْتَهَى. اهـ.
قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ وَلَدُهُ تَاجُ الدِّينِ سَلَّمَهُ اللَّهُ هَذَا آخَرُ مَا وَجَدْته بِخَطِّ سَيِّدِي وَالِدِي أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ فِي الْكَلامِ عَلَى هَذِهِ الآيَةِ رَأَيْته بِخَطِّهِ فِي بَعْضِ الْمُسْوَدَّاتِ. وَقَدْ عُدِمَ بَاقِيهِ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالآيَةِ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرْكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي خَصْمَانِ وَظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ لأَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي ظَهَرَ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَبِيرًا يَخْشَى الْقَاضِي مِنْهُ وَهُوَ يَأْبَى قَبُولَ الْحَقِّ فَلا يَخْلُصُ الْقَاضِي مِنْ اللَّهِ إلا أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ، هَذَا شَيْءٌ لابد مِنْهُ، وَهُوَ فِي حَالَةِ حُكْمِهِ عَلَى مَرَاتِبَ أَحْسَنِهَا أَنْ يَسْتَحْضِرَ عَظَمَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَعَظَمَةَ أَمْرِهِ وَحَقَارَةَ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ عَبْدٌ حَقِيرٌ لا يَزِنُ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ أَمَرَهُ رَبٌّ جَلِيلٌ قَاهِرٌ مَالِكٌ لِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِكُلِّ مَا يَشَاءُ وَهُوَ حَاضِرٌ مَعَهُ قَدْ غَمَرَتْهُ هَيْبَتُهُ قَائِلٌ لَهُ اُحْكُمْ؛ فَلا يَسَعُهُ إلا امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَتَنْفِيذُ حُكْمِهِ وَلا يَسْتَحْضِرُ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.
(الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ شَفَقَتَهُ عَلَيْهِ وَإِنْقَاذَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَهِيَ حَالَةٌ حَسَنَةٌ أَيْضًا فِيهَا نَصْرُهُ وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ الظُّلْمِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مِنْ خَيْرِ الْخِصَالِ وَلَكِنَّ الْحَالَةَ الأُولَى أَكْمَلُ.
(الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ) أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ مَا يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ عَلَى الْحُكْمِ وَيَخْشَاهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ وَهِيَ حَالَةٌ حَسَنَةٌ دُونَ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. وَهَذِهِ الأَحْوَالُ الثَّلاثَةُ لا يُخْشَى عَلَيْهِ فِيهَا.
(الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ) أَنْ يُقَوِّيَ نَفْسَهُ بِالْحَقِّ عَلَى ذَلِكَ الْكَبِيرِ لِكَوْنِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، فَإِنَّ لِلْحَقِّ صَوْلَةً وَقُوَّةً وَهُوَ مَلِيحٌ إذَا تَجَرَّدَ وَخُلِّصَ لِلَّهِ. لَكِنْ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ لأَنَّهَا تُحِبُّ الْعُلُوَّ فَتُدَاخِلُ الأَمْرَ الدِّينِيَّ الأَمْرُ النَّفْسَانِيَّ فَالسَّلامَةُ أَوْلَى.
(وَحَالَةٌ خَامِسَةٌ) وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ حَسَنَةٌ أَيْضًا أَحْسَنُ مِنْ الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ وَدُونَ الثَّالِثَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَمَا أَظُنُّ بَقِيَ مِنْ الأَحْوَالِ شَيْءٌ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاضِي الْعَادِلِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى قَاضِيًا، أَمَّا الْفَاجِرُ الَّذِي يُرَاعِي الْكَبِيرَ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْحُكْمِ لَهُ وَلَكِنْ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ مَخَايِلُهُ فَرَاعَى الْكَبِيرَ فَدَفَعَ الْخُصُومَةَ لا لإِشْكَالِهَا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لِخَشْيَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مُعَادَاةِ الْكَبِيرِ، فَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ صِفَاتِ الْقُضَاةِ لا يَفْعَلُهُ إلا قَلِيلُ الدِّينِ وَهُوَ حَرَامٌ لأَنَّهُ خِذْلانُ الْمَظْلُومِ الْوَاجِبِ نَصْرُهُ وَامْتِنَاعٌ مِنْ الْحُكْمِ وَالنَّظَرِ فِيهِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَالْمُمَالأَةُ عَلَى الظُّلْمِ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُكْمِ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَارَةً يَكُونُ الْحُكْمُ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَلَكِنَّ مَذْهَبَ الْقَاضِي بِخِلافِهِ وَقَدْ تَرَكَهُ الْقَاضِي لا لِلَّهِ بَلْ لِلْكَبِيرِ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَتَارَةً يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَيَكُونُ تَرْكُهُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ تَرْكُهُ غَيْرُ مُسْتَحِلٍّ فَهَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَلا يَكْفُرُ، وَتَارَةً مَعَ ذَلِكَ يَسْتَحِلُّ فَيَكْفُرُ. وَالتَّحْرِيمُ فِي الْمَرَاتِبِ الأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَحِلُّهُ إذَا كَانَ الْقَاضِي مُتَمَكِّنًا أَمَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ ظَالِمٌ يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِحَيْثُ يَصِلُ الأَمْرُ إلَى حَدِّ الإِكْرَاهِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ التَّحْرِيمُ، وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ الاسْتِحْلالُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ لا يُتَصَوَّرُ الإِكْرَاهُ عَلَيْهِ فَلا يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع.
قال أبو السعود: في تصدير الكلام بكلمة التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار، من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه، وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة، كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذممهم: من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية، وإن ورد في شأن عثمان بن طلحة. انتهى.
أي لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها، الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر.
وفي حديث سمرة: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»، رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
قال الحافظ ابن كثير: وَقَدْ ذَكَرَ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَأْن عُثْمَان بْن طَلْحَة بْن أَبِي طَلْحَة وَاسْم أَبِي طَلْحَة عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْعُزَّى بْن عُثْمَان بْن عَبْد الدَّار بْن قُصَيّ بْن كِلَاب الْقُرَشِيّ الْعَبْدَرِيّ حَاجِب الْكَعْبَة الْمُعَظَّمَة، وَهُوَ اِبْن عَمّ شَيْبَة بْن عُثْمَان بْن أَبِي طَلْحَة الَّذِي صَارَتْ الْحِجَابَة فِي نَسْله إِلَى الْيَوْم.
أَسْلَمَ عُثْمَان هَذَا فِي الْهُدْنَة بَيْن صُلْح الْحُدَيْبِيَة وَفَتْح مَكَّة، هُوَ وَخَالِد بْن الْوَلِيد وَعَمْرو بْن الْعَاصِ، وَأَمَّا عَمّه عُثْمَان بْن طَلْحَة بْن أَبِي طَلْحَة، فَكَانَ مَعَهُ لِوَاء الْمُشْرِكِينَ يَوْم أُحُد وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ كَافِرًا.
وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا النَّسَب لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ يَشْتَبِه عَلَيْهِ هَذَا بِهَذَا.
وَسَبَب نُزُولهَا فِيهِ لَمَّا أَخَذَ مِنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاح الْكَعْبَة يَوْم الْفَتْح ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي غَزْوَة الْفَتْح حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه أَبِي ثَوْر عَنْ صَفِيَّة بِنْت شَيْبَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّة وَاطْمَأَنَّ النَّاس، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَته يَسْتَلِم الرُّكْن بِمِحْجَنٍ فِي يَده، فَلَمَّا قَضَى طَوَافه دَعَا عُثْمَان بْن طَلْحَة فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاح الْكَعْبَة فَفُتِحَتْ لَهُ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامة مِنْ عِيدَان فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَاب الْكَعْبَة وَقَدْ اِسْتَكَفَّ لَهُ النَّاس فِي الْمَسْجِد.
قَالَ اِبْن إِسْحَاق: فَحَدَّثَنِي بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ: «لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ، صَدَقَ وَعْده، وَنَصَرَ عَبْده، وَهَزَمَ الْأَحْزَاب وَحْده، أَلَا كُلّ مَأْثُرَة أَوْ دَم أَوْ مَال يُدْعَى فَهُوَ تَحْت قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا سِدَانة الْبَيْت وَسِقَايَة الْحَاجّ».
وَذَكَرَ بَقِيَّة الْحَدِيث فِي خُطْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَمِفْتَاح الْكَعْبَة فِي يَده فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه اِجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَة مَعَ السِّقَايَة، صَلَّى اللَّه عَلَيك، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ عُثْمَان بْن طَلْحَة؟ فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَاكَ مِفْتَاحك يَا عُثْمَان، الْيَوْم يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء».