فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ الصَّحَابَةُ مُخَاطَبِينَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُمْ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَ عَلَيْهِمْ التَّسْلِيمُ لَهُ وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ دُونَ تَكَلُّفِ الرَّدِّ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْمَنْصُوصِ وَتَرْكُ تَكَلُّفِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَرَدَّ الْحَوَادِثِ إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْمَنْصُوصِ قَدْ كَانَ جَائِزًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ فِي حَالٍ؛ فَأَمَّا الْحَالَانِ اللَّتَانِ كَانَتَا يَجُوزُ فِيهِمَا الِاجْتِهَادُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِحْدَاهُمَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ عَنْ حَضْرَتِهِ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ تَقْضِي إنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو، قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ»؛ فَهَذِهِ إحْدَى الْحَالَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْحَالُ الْأُخْرَى: أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاجْتِهَادِ بِحَضْرَتِهِ وَرَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى نَظِيرِهَا لِيَسْتَبْرِئَ فِي اجْتِهَادِهِ وَهَلْ هُوَ مَوْضِعٌ لِذَلِكَ، وَلَكِنْ إنْ أَخْطَأَ وَتَرَكَ طَرِيقَ النَّظَرِ أَعْلَمَهُ وَسَدَّدَهُ، وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بَعْدَهُ.
فَالِاجْتِهَادُ بِحَضْرَتِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَائِغٌ، كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْلَمُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ شِنْظِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «جَاءَ خَصْمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا عُقْبَةُ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْضِي بَيْنَهُمَا وَأَنْتَ حَاضِرٌ قَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأَتْ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ»؛ فَأَبَاحَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ بِحَضْرَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ بِالِاجْتِهَادِ صَدَرَ عِنْدَنَا عَنْ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} لِأَنَّا مَتَى وَجَدْنَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا مُوَاطِئًا لِمَعْنَى قَدْ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ عَنْ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا مُبْتَدَأً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَحْوِ قَطْعِهِ السَّارِقَ وَجَلْدِهِ الزَّانِيَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا؛ فَقَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ الِاجْتِهَادَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ لَمْ يَكُنْ سَائِغًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ رَدَّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ وَاجِبًا حِينَئِذٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَرْكُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ وَالتَّسْلِيمُ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ بِحَضْرَتِهِ عَلَى جِهَةِ إمْضَاءِ الْحُكْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، فَهَذَا لَعَمْرِي اجْتِهَادٌ مُطْرَحٌ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَسُوغُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ وُجُوبُ طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَأَكَّدَ جَلَّ وَعَلَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ وُجُوبَ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَانَ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللَّهِ، وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ؛ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فَأَوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَجَعَلَ مُخَالِفَ أَمْرِ الرَّسُولِ وَالْمُمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَا جَاءَ بِهِ وَالشَّاكَّ فِيهِ خَارِجًا مِنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قِيلَ فِي الْحَرَجِ هاهنا إنَّهُ الشَّكُّ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّسْلِيمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ وَلَا ضِيقِ صَدْرٍ بِهِ بَلْ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ وَبَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَهَلَّا كَانَ أَمْرُ الرَّسُولِ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ لَهُ: إنَّمَا كَانَتْ طَاعَتُهُ طَاعَةَ اللَّهِ بِمُوَافَقَتِهَا إرَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَامِرَهُ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ افْعَلْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَاحِدًا لِآمِرَيْنِ كَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْ قَائِلَيْنِ وَلَا فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ فَاعِلَيْنِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الطَّاعَةِ:
وَهِيَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ، كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ ضِدُّهَا، وَهِيَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ.
وَالطَّاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ طَاعَ إذَا انْقَادَ، وَالْمَعْصِيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَصَى وَهُوَ اشْتَدَّ، فَمَعْنَى ذَلِكَ امْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}:
فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: هُمْ أَصْحَابُ السَّرَايَا، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ، إذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ.
الثَّانِي: قَالَ جَابِرٌ: هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ التَّابِعِينَ، واخْتَارَهُ مَالِكٌ؛ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ مَسْلَمَةَ: سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ: هُمْ الْعُلَمَاءُ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ نَزَارٍ، وَقَفْت عَلَى مَالِكٍ فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؛ مَا تَرَى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}؟ قَالَ: وَكَانَ مُحْتَبِيًا فَحَلَّ حَبْوَتَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ فِي وَجْهِي، وَعَلِمْت مَا أَرَادَ، وَإِنَّمَا عَنَى أَهْلَ الْعِلْمِ؛ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي» الْحَدِيثَ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ جَمِيعًا، أَمَّا الْأُمَرَاءُ فَلِأَنَّ أَصْلَ الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَالْحُكْمَ إلَيْهِمْ.
وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَلِأَنَّ سُؤَالَهُمْ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ عَلَى الْخَلْقِ، وَجَوَابُهُمْ لَازِمٌ، وَامْتِثَالُ فَتْوَاهُمْ وَاجِبٌ، يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ، لاسيما وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ حَاكِمٌ، وَقَدْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ}.
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِمٌ وَالرَّبَّانِيَّ حَاكِمٌ، وَالْحَبْرَ حَاكِمٌ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ أَفْضَى إلَى الْجُهَّالِ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ؛ وَلِذَلِكَ نَظَرَ مَالِكٌ إلَى خَالِدِ بْنِ نَزَارٍ نَظْرَةً مُنْكَرَةً، كَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهَا إلَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَزَالَ عَنْ الْأُمَرَاءِ لِجَهْلِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، وَالْعَادِلُ مِنْهُمْ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَالَمِ كَافْتِقَارِ الْجَاهِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: رُدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِذَا لَمْ تَجِدُوهُ فَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ: مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، أَوْ فَهْمٌ أُوتِيهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَكَمَا «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ.
قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ.
قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو.
قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ»
.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ.
قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا فِي كتاب [شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ] وَكتاب [نَوَاهِي الدَّوَاهِي] صِحَّتَهُ، وَأَخَذَ الْخُلَفَاءُ كُلُّهُمْ بِذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِلْأَنْصَارِ: إنَّ اللَّهَ جَعَلَكُمْ الْمُفْلِحِينَ، وَسَمَّانَا الصَّادِقِينَ؛ فَقَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}.
ثُمَّ قَالَ: {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}.
وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
«وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا».
وَلَوْ كَانَ لَكُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا أَوْصَى بِكُمْ.
وَقَالَ لَهُ عُمَرُ حِينَ ارْتَدَّ مَانِعُوا الزَّكَاةِ: خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ وَدَعْ الزَّكَاةَ.
فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَالصَّلَاةَ حَقُّ الْبَدَنِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا.
وَجَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إلَيْهِ فَقَالَ لَهَا: لَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ السُّدُسُ؛ فَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا.
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قَضَى بِالسُّدُسِ لِلْجَدَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ»؛ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ الصَّحَابَةَ فِي أَمْرِ الْوَبَاءِ بِالشَّامِ فَتَكَلَّمُوا مَعَهُ بِأَجْمَعِهِمْ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ، مَا ذَكَرُوا فِي طَلَبِهِمْ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَتِهِمْ لِلَّهِ كَلِمَةً وَلَا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ، وَأَفْتَوْا وَحَكَمَ عُمَرُ، وَنَازَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَكَ إبِلٌ فَهَبَطْت بِهَا وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إحْدَاهَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ؛ أَلَيْسَ إنْ رَعَيْت الْخِصْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْت الْجَدْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنَفْسِهِ بِالرَّعْيِ وَالنَّاسِ بِالْإِبِلِ، وَالْأَرْضِ الْوَبِئَةِ بِالْعُدْوَةِ الْجَدْبَةِ، وَالْأَرْضِ السَّلِيمَةِ بِالْعُدْوَةِ الْخِصْبَةِ، وَلِاخْتِيَارِ السَّلَامَةِ بِاخْتِيَارِ الْخِصْبِ؛ فَأَيْنَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؟ أَيُقَالُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَقُولَا، فَذَلِكَ كُفْرٌ، أَمْ يُقَالُ: دَعْ هَذَا فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ، فَذَلِكَ كُفْرٌ، وَلَكِنْ تُضْرَبُ الْأَمْثَالِ وَيُطْلَبُ الْمِثَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الصَّوَابُ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَوْضِعَ بَرَاءَةٍ، وَإِنَّ قِصَّتَهَا لَتُشْبِهُ قِصَّةَ الْأَنْفَالِ، فَنَرَى أَنْ نَكْتُبَهَا مَعَهَا وَلَا نَكْتُبُ بَيْنَهَا سَطْرَ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».
فَأَثْبَتُوا مَوْضِعَ الْقُرْآنِ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: نَرَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}. وَقَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.
فَإِذَا فَصَلْتَهُمَا مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوْمُ الْجُنُبِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} فَيَقَعُ الِاغْتِسَالُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَقَدْ انْعَقَدَ جُزْءٌ مِنْ الصَّوْمِ وَهُوَ فَاتِحَتُهُ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَلَوْ سَرَدْنَا نَبْطَ الصَّحَابَةِ لَتَبَيَّنَ خَطَأُ الْجَهَالَةِ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِلْعُلَمَاءِ؛ فَإِنْ عَارَضَكُمْ السُّفَهَاءُ فَالْعَجَلَةُ الْعَجَلَةُ إلَى كِتَابِ نَوَاهِي الدَّوَاهِي، فَفِيهِ الشِّفَاءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ.