فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: إن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ} أي: فوضوا علمه إلى الله وأسكتوا عنه ولا تتعرضوا له؟ وأيضًا، لم لا يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية؟ قلنا: أما الأول فمدفوع، وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين: منها ما يكون حكمها منصوصًا عليه، ومنها ما لا يكون كذلك، ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد، وأمر في القسم الثاني بالاجتهاد فيه، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت، لأن الواقعة بما كانت لا تحتمل ذلك، بل لابد من قطع للشغب والخصومة فيها، بنفيٍ أو إثبات، وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله، على السكوت عن تلك الواقعة.
وأما السؤال الثاني:
فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل، فلا يكون رد الواقعة إليها ردًا إلى الله بوجه من الوجوه، أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها، كان هذا ردًا للواقعة على أحكام الله تعالى، فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى: أفاده الرازيّ.
الرابع: استدل مثبتوا القياس بقوله تعالى: {فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ} إلخ قالوا: معنى الآية: فإن تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة، فردوا حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له، وذلك هو القياس، قالوا: ولو كان المراد من قوله تعالى: {فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ} طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة- لكان داخلًا تحت قوله: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ} وهو إعادة لعين ماضي (كذا) وهو غير جائز، وقد توسع الرازيّ في تقرير ذلك ههنا، كما توسع في أن قوله تعالى: {وأولي الأمر} إشارة إلى الإجماع، فتكون الآية، بزعمه، دلت على الأصول الأربع، ولا يخفى ما في هذا التعمق من دقيق الاستنباط.
الخامس: قدمنا رواية البخاريّ في سبب نزول هذه الآية، وأن ابن عباس قال: نزلت في عبد الله بن حذافة.
قال الداودي (شارح الصحيح): هذا وهم على ابن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب عليهم، فأمرهم أن يوقدوا نارًا ويقتحموها، فامتنع بعضهم وهم بعض أن يفعل.
قال: فإن كانت الآية نزلت قبلُ، فكيف يخص عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره؟ وإن كانت نزلت بعدُ فإنما قيل لهم: إنما الطاعة في المعروف، وما قيل لهم: لِمَ لم تطيعوه؟ انتهى.
وأجاب الحافظ ابن حجر: أي: المقصود في قصته قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى} لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يعطوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله وإلى رسوله، أي: إن تنازعتم في جواز الشيء وعدم جوازه فارجعوا إلى الكتاب والسنة، والله أعلم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ هُمَا أَسَاسُ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُهُمَا لَكَفَتَا الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ إِذَا هُمْ بَنَوْا جَمِيعَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ لِنُزُولِهِمَا أَسْبَابًا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ السَّبَبَ الْخَاصَّ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْخِطَابِ، قَالَ فِي لُبَابِ النُّقُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: أَرِنِي الْمِفْتَاحَ- أَيْ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ- فَلَمَّا بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهِ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي اجْمَعْهُ لِي مَعَ السِّقَايَةِ فَكَفَّ عُثْمَانُ يَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاتِ الْمِفْتَاحَ يَا عُثْمَانُ، فَقَالَ: هَاكَ أَمَانَةَ اللهِ، فَقَامَ فَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِرَدِّ الْمِفْتَاحِ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَعْطَاهُ الْمِفْتَاحَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ».
وَأَخْرَجَ شُعْبَةُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، أَخَذَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ بِهِ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَنَاوَلَهُ الْمِفْتَاحَ»، قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا سَمِعْتُهُ يَتْلُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ، قُلْتُ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ اهـ.
أَقُولُ: بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَلَاهَا يَوْمَئِذٍ اسْتِشْهَادًا، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ عُمَرُ أَنَّهُ سَمِعَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَصَحَّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ ذُهِلَ عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا وَرَدَ فِي ذِكْرِ مَوْتِهِ حَتَّى قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [3: 144]، الْآيَةَ فَتَذَكَّرَ، وَذُهِلَ عَنْ آيَةِ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [4: 20]، حَتَّى ذَكَّرَتْهُ بِهَا الْمَرْأَةُ الَّتِي رَاجَعَتْهُ فِي مَسْأَلَةِ تَحْدِيدِ الْمُهُورِ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ- وَكُلُّ أَحَدٍ عُرْضَةٌ لِلنِّسْيَانِ وَالذُّهُولِ، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَصِحُّ وَإِنِ اعْتَمَدَهَا الْجَلَالُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ قَالُوا: إِنَّ أَوْهَى طُرُقِ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ طَرِيقُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالُوا: فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَرْوَانُ الصَّغِيرُ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ فَإِنْ كَانَ حَجَّاجٌ هَذَا هُوَ الْمِصِّيصِيَّ الْأَعْوَرَ فَقَدْ كَانَ ثِقَةً وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْهُ وَلَكِنَّ شُعْبَةَ رَوَى عَنْ حَجَّاجٍ الْأَسْلَمِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ.
وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ بَحْثٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَلَوْ أَعْطَاهُ لِلْعَبَّاسِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا إِلَّا مَا لَهُ الْحَقُّ فِيهِ، وَمَنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ يَكُونُ هُوَ أَهْلَهُ وَأَحَقَّ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [33: 6]، بَلْ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ كَانَ الْمِفْتَاحُ مِفْتَاحَ بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ نَفْسِهِ وَنَزَعَ مِلْكَهُ مِنْهُ وَأَعْطَاهُ آخَرَ، بَلِ الْحُكَّامُ الْآنَ فِي جَمِيعِ الْمَمَالِكِ يَنْزِعُونَ مِلْكَ مَنْ يَرَوْنَ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ فِي نَزْعِ مِلْكِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُعْطُونَهُ ثَمَنَهُ شَاءَ أَمْ أَبَى.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا بَيَّنَهُ- حَتَّى تَفْضِيلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْهِدَايَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ- أَدَّبَنَا بِهَذَا الْأَدَبِ الْعَالِي، وَأَمَرَنَا بِالْأَمَانَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ بِمُنَاسَبَةٍ قَوِيَّةٍ تَجْعَلُ السِّيَاقَ كَعِقْدٍ مِنَ الْجَوْهَرِ مُتَنَاسِبِ اللَّآلِئِ، فَسَوَاءٌ صَحَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حِكَايَةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ أَوْ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّ صِحَّتَهُ لَا تَضُرُّ بِالْتِئَامِ السِّيَاقِ وَلَا بِعُمُومِ الْحُكْمِ، إِذِ السَّبَبُ الْخَاصُّ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْحُكْمِ.
وَالْأَمَانَةُ حَقٌّ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، وَيُودَعُهُ لِأَجْلِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ كَالْمَالِ وَالْعِلْمِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُودَعُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ قَدْ تَعَاقَدَ مَعَ الْمُودِعِ عَلَى ذَلِكَ بِعَقْدٍ قَوْلِيٍّ خَاصٍّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُوَدَعِ عِنْدَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ كَذَا إِلَى فُلَانٍ مَثَلًا، أَمْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ هُوَ بِمَثَابَةِ مَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ الْأَفْرَادُ فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، فَالَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ قَدْ أُودِعَ أَمَانَةً وَأُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ بِالتَّعَامُلِ وَالْعُرْفِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ وَيُفِيدَ النَّاسَ وَيُرْشِدَهُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَقَدْ أَخَذَ اللهُ الْعَهْدَ الْعَامَّ عَلَى النَّاسِ بِهَذَا التَّعَامُلِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ شَرْعًا وَعُرْفًا بِنَصِّ قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [3: 187]، وَلِذَلِكَ عُدَّ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ خَائِنِينَ بِكِتْمَانِ صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُؤَدِّيَ أَمَانَةَ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْدَعَ الْمَالَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيَتَوَقَّفَ أَدَاءُ أَمَانَةِ الْعِلْمِ عَلَى تَعَرُّفِ الطُّرُقِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُعْرَفَ هَذِهِ الطُّرُقُ لِأَجْلِ السَّيْرِ فِيهَا، وَإِعْرَاضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ الَّتِي تَتَأَدَّى بِهَا هَذِهِ الْأَمَانَةُ بِالْفِعْلِ هُوَ ابْتِعَادٌ عَنِ الْوَاجِبِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، وَإِخْفَاءُ الْحَقِّ بِإِخْفَاءِ وَسَائِلِهِ هُوَ عَيْنُ الْإِضَاعَةِ لِلْحَقِّ، فَإِذَا رَأَيْنَا الْجَهْلَ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ فَاشِيًا بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتُبْدِلَتْ بِهِ الشُّرُوعُ وَالْبِدَعُ، وَرَأَيْنَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُعَلِّمُوهُمْ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ فَيُمْكِنُنَا أَنْ نَجْزِمَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، وَهِيَ مَا اسْتُحْفِظُوا عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَرْكِ اسْتِبَانَةِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ذَلِكَ بِسُهُولَةٍ وَقُرْبٍ، فَهُمْ خَوَنَةُ النَّاسِ وَلَيْسُوا بِالْأُمَنَاءِ.
أَقُولُ: يَعْنِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْرِفُوا الطُّرُقَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى إِيصَالِ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ وَقَبُولِهِ، وَهَذِهِ الطُّرُقُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَمَا تَخْتَلِفُ الطُّرُقُ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا أَمَانَةُ الْمَالِ، فَفِي هَذَا الْعَصْرِ تُؤَدَّى الْأَمْوَالُ إِلَى أَصْحَابِهَا بِطُرُقٍ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، مِنْهَا التَّحْوِيلُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَرِيدِ، وَمِنْهَا الْمَصَارِفُ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ تُوجَدُ طُرُقٌ لِنَشْرِ الْعِلْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَسْهَلُ مِنَ الطُّرُقِ السَّابِقَةِ، فَمَنْ أَبَى سُلُوكَهَا لَا يُعْذَرُ بِعَدَمِ تَأْدِيَتِهِ لِأَمَانَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَدَّى لِتَعْلِيمِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ إِذَا سُئِلَ، وَرُبَّمَا قَيَّدُوا هَذَا بِمَا إِذَا فُقِدَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِفْتَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا مَنْ قَالَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ، فَأَمَّا مَا لابد مِنْهُ وَلَا يَسَعُ النَّاسَ جَهْلُهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَاجِبَاتِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ؛ وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالِاسْتِفْتَاءِ، وَالْمَجْهُولُ لَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، أَفَيُتْرَكُ الْجَاهِلُونَ بِالسُّنَنِ الْعَامِلُونَ بِالْبِدَعِ حَتَّى يَطْرُقُوا أَبْوَابَ الْعُلَمَاءِ فِي بُيُوتِهِمْ أَوْ مَدَارِسِهِمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ؟!
وَلَا يَخْرُجُ عُلَمَاءُ الدِّينِ مِنْ تَبِعَةِ الْكِتْمَانِ وَالْخِيَانَةِ فِي أَمَانَةِ اللهِ بِتَصَدِّيهِمْ لِتَدْرِيسِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعَقَائِدِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ لَا تَفْهَمُهَا الْعَامَّةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا مَعْرِفَتُهَا؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِلْمِ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا كُلُّ النَّاسِ دَائِمًا، وَمِنْهَا مَا تَمُرُّ الْأَعْصَارُ وَلَا يَقَعُ، بَلْ مِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَصَدَّوْا لِتَعْلِيمِ الْجُمْهُورِ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَهْلُهُ وَأَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الَّذِي قَالَ:
لَوْ صَحَّ مِنْكَ الْهَوَى أُرْشِدْتَ لِلْحِيَلِ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا: وَكَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ لَهُ طُرُقٌ: مِنْهَا الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ وَالْقَضَاءُ، وَمِنْهَا تَحْكِيمُ الْمُتَخَاصِمِينَ لِشَخْصٍ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَكُلُّ مَنْ يَحْكُمُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالْعَدْلِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [16: 90]، الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [5: 8]، وَقَوْلُهُ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [4: 135]، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا حَدَّ الْعَدْلِ وَلَا تَفْسِيرَهُ وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ تَفْسِيرٌ لَهُ أَيْضًا، وَالْعَدْلُ وَقْفٌ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ لِيَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [5: 1]، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُوَفِّيَ بِمَا نَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [2: 188]، الْآيَةَ، وَهُوَ قَدْ حَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَرِشْوَةَ الْحُكَّامِ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَائِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ تَطْبِيقُ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّطْبِيقُ ظَاهِرًا، وَقَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قِيَاسٍ وَاسْتِنْبَاطٍ وَإِجْهَادٍ لِلْفِكْرِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ وَتَذْكِيرِهِمْ.
وَالرُّكْنُ الثَّانِي لِلْعَدْلِ- هَكَذَا عَبَّرَ تَارَةً بِالنَّوْعِ وَتَارَةً بِالرُّكْنِ- يَتَأَلَّفُ مِنْ أَمْرَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا): فَهْمُ الدَّعْوَى مِنَ الْمُدَّعِي وَالْجَوَابِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَعْرِفَ مَوْضِعَ مَا بِهِ التَّنَازُعُ وَالتَّخَاصُمُ بِأَدِلَّتِهِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ.
(ثَانِيهِمَا): اسْتِقَامَةُ الْحَاكِمِ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَمِنَ الْهَوَى بِأَنْ يَكْرَهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمِيلُ إِلَى الْآخَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ لِلنَّاسِ أَيْضًا، فَكُلٌّ مِنْ رُكْنَيِ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللهُ الْعَدْلَ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِنَفْسِهِ كَالنُّورِ.