فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم في إطلاق الآية دلالة على أن الكتاب والسنة متقدمان على القياس مطلقًا سواء كان القياس جليًا أو خفيًا، وأنه لا يجوز معارضة النص ولا تخصيصه بالقياس. وقد اعتبر هذا الترتيب أيضًا في قصة معاذ واستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا والقرآن مقطوع في متنه والقياس مظنون والقرآن كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والقياس نتيجة عقل الإنسان الذي هو عرضة الخطأ والنسيان. وقد أجمع العلماء على أن إبليس خصص عموم الخطاب في قوله: {إذ قلنا للملائكة اسجدوا} [البقرة: 34] بقياس هو قوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص: 76] فاستحق اللعن إلى يوم الدين. والسر فيه أن تخصيص النص بالقياس يقدم القياس على النص وفيه ما فيه. ثم إن كان الأمر للوجوب فقوله: {أطيعوا} يدل على وجوب الطاعة وإن كان للندب، فههنا يدل على الوجوب ظاهرًا لأنه ختم الأوامر بقوله: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} وهو وعيد والظاهر أنه قيد في جميع الأوامر لا في قوله: {فردوه} وحده. وأيضًا مجرد الندبية وهو أولوية الفعل معلوم من تلك الأوامر فلابد للآية من فائدة خاصة، فيحمل على المنع من الترك ليحصل من المجموع معنى الوجوب. ثم هذا الوجوب يكون دائمًا إن كان الأمر للدوام والتكرار وكذا إن لم يكن غيره كذلك لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكور. فلو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وإلا كانت مجملة، والمبين أولى من المجمل. وأيضًا تخصيص اسم الله بالذكر يدل على أن وجوب الطاعة إنما هو لكونه إلهًا والإلهية دائمة فالوجوب دائم. وإنما كرر لفظ {أطيعوا} للفصل بين اسم الله تعالى وبين المخلوقين، ونعلم من إطلاق وجوب طاعة أولي الأمر أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة وأنه لا يشترط انقراض العصر. ومن إطلاق قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه} أن القياس يجوز إجراؤه في الحدود والكفارات أيضًا.
والمراد بالتنازع قال الزجاج: هو الاختلاف وقول كل فريق القول قولي كأن كل واحد منهما ينزع الحق إلى جانبه {ذلك} الرد أو المأمور به في الآية {خير وأحسن تأويلًا} أي عاقبة من آل الشيء إذا رجع. وقيل: الرد إلى الكتاب والسنة خير مما تأولون أنتم.
ثم إنه تعالى لما أوجب على المكلفين طاعته وطاعة رسوله، وذكر أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض لا يطيعون ولا يرضون بحكمه فقال: {ألم تر إلى الذين يزعمون} الآية. قال الليث: قولهم زعم فلان معناه لا نعرف أنه صدق أو كذب ومنه معموا مطية الكذب. وقال ابن الأعرابي: الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية الكذب بالاتفاق. قال أبو مسلم: ظاهرالآية يدل على أن الزاعم كان منافقًا من أهل الكتاب مثل أن يكون يهوديًا أظهر الإسلام على سبيل النفاق، لأن قوله تعالى: {يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلأيك وما أنزل من قبلك} إنما يليق بمثل هذا المنافق.
أما سبب النزول ففيه وجوه. والذي عليه أكثر المفسرين ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس «أن رجلًا من المنافقين يسمى بشرًا خاصم يهوديًا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وذلك أن اليهودي كان محقًا وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي إلا بالحق لجلالة منصبه عن قبول الرشوة، وكان كعب يبطل الحقوق بالرشا، فما زال اليهودي بالمنافق حتى ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي. فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب. فأقبلا إلى عمر فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه. فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال لهما: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله وهرب اليهودي فنزلت الآية. وقالت جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت الفاروق. وعلى هذا الطاغوت كعب بن الأشرف» وقال السدي: «كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضيريًا قتل به وأخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا كان بالعكس لم يقتل به وأعصى ديته ستين وسقًا من تمر. وكانت النضير حلفاء الأوس وكانوا أكثر وأشرف من قريضة وهم حلفاء الخزرج. فقتل نضيري قرظيًا واختصموا في ذلك. فقال بنو النضير: لا قصاص لعينا إنما علينا ستون وسقًا من تمر على ما اصطلحنا عليه. وقالت الخزرج: هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا. فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي. وقال المسلمون: لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي برزة ليحكم بينهم فقال:
أعظموا اللقمة- يعني الرشوة- فقالوا: لك عشرة أوسق. فقال: لا بل مائة وسق ديتي فإني أخاف إن نفرت النضيري قتلتني قريضة، وإن نفرت القرظي قتلتني النضير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبي أن يحكم بينهم فأنزل الله هذه الآية. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم كاهن أسلم إلى الإسلام فأبى وانصرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنيه: أدركا أباكما فإنه إن جاز عقبة كذا لم يسلم أبدًا فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديًا فنادى: ألا إن كاهن أسلم قد أسلم»
.
وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن. وقال الحسن: إنّ رجلًا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمنون إليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن، فالطاغوت ذلك الرجل. وقيل: كانوا يتحاكمون إلى الوثن يضربون القداح بحضرته، فما خرج على القداح عملوا به فالطاغوت هو الوثن. ثم إن الطاغوت أي شيء كان من الأشياء المذكورة فإنه تعالى جعل التحاكم إليه مقابلًا للكفر به، لكن الكفر به إيمان بالله وبرسوله فيكون نصًا في تكفير من لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تشككًا أو تمردًا ويؤكده قوله بعد ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} الآية. ومن هنا ذهب كثير من الصحابة إلى الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم. ثم قال: {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا} فاحتجت المعتزلة به على أن كفر الكافر ليس بخلق الله وإلا لم يتوجه الذم على الشيطان ولم يحصل التعجب والتعجيب فإن لقائل أن يقول: إنما فعلوا لأجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى وقد عرفت الجواب مرارًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} وفى سورة المائدة: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا}، للسائل أن يسأل عن وجه ما ورد في هاتين الآيتين من قوله في الأولى: {إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} والاكتفاء في الثانية بقوله: {إلى ما أنزل الله} مع استوائهما في دعاء المخالفين ممن ذكر قبل كل آية منهما إلى متابعة الحق والرجوع إليه.
والجواب أن حال المدعوين مختلف فإن الآية الأولى في منافق ويهودى تخاصما وتحاكما إلى كعب بن الأشرف ورضيا بحكمه فالمراد بالآية المنافقون لأنهم المظهرون أنهم آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى موسى عليه السلام القائلون ذلك بألسنتهم ولكون ذلك نطقا بألسنتهم عبر بالزعم وكنى بالطاغوت فيما ذكره المفسرون عن كعب بن الأشرف قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} ولم تؤمر يهود أن يكفروا بأحبارهم ما لم يحرفوا وإنما المأمورون بالكفر منهم المؤمنون حين ظهر تحريفهم وتبديلهم ثم قال تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} أي للحكم بينهم بما أنزل الله صدوا عنه ونفروا إلى التحاكم عند كعب بن الأشرف أو عند الكاهن على الاختلاف في ذلك.
وأما آية المائدة فمبنية على ما تقدمها من مرتكبات أهل الجاهلية وما سنوه تقليدا أو اتباعا لعمرو بن لحي وأشباهه ممن سن مثل تغييرا لملة ابراهيم عليه السلام فدان بفعلهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
أما البحيرة فهى المشقوق أذنها طولا بنصفين متروكة ترعى وترد الماء لا ينتفع بشئ منها فإذا ماتت أكلها الرجال وحرمت على النساء وذلك إذا ولدت أبطنا قبل عشرة وقبل غير ذلك وكل ضلال باطل.
وأما السائبة فالناقة تسيب للآلهة وأيضا إذا اتبعت إناثا ثنتى عشرة لا ذكر فيها.
وأما الوصيلة فالشاة إذا ولدت ثلاثة بطون أو خمسة إن كان آخرها ذكرا ذبحوه لآلهتهم وإن كان أنثى استحيوها وقالوا إن الأنثى قد وصلت آخاها ومنعته أن يذبح وقيل غير هذا.
والحام فحل الإبل إذا ضرب فيها عشرة أعوام أو ولد من ظهره عشرة قيل ظهره فسيب.
فالضمير من قوله: {وإذا قيل لهم} راجع إلى القائلين بهذه الأشياء المتبعين فيها لآبائهم فبين تعالى وحكم فيها بقوله: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة}. إلى قوله: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} فحكم هذه الأشياء بين واضح من كتاب الله لا يفتقر في تعرفه إلى غير سماعه إذا حصل التصديق به وسواء سمع ذلك منه صلى الله عليه وسلم أو من غيره لتواتر نقله فلهذا لم يذكر هنا دعاء إلى زائد على المنزل.
أما آية النساء ففى قضية تخاصم لابد من التحاكم فيها إلى مجتهد يفصل فيها بما فهمه الله من كتابه والآتى به صلى الله عليه وسلم هو المبين ما فيه والمعصوم فيما بين منه ويحكم به والقضية واقعة حال وجوده وحضوره فإليه صلى الله عليه وسلم المرجع فلهذا قيل في تلك الآية {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} ولم يكن عكس الوارد في الآيتين ليناسب والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}.
كل شيء سوى كلمة الحق فهو خفيف على المنافقين، فأمّا التوحيد فلا يسمع كلمته إلا مخلص، وأهل الفترة في الله وأصحاب النفرة لا يسمعون ما هو الحق؛ لأن خلافَ الهوى يَشُقُّ على غير الصديقين. وكما أن ناظِرَ الخلق لا يقوى على مقابلة الشمس فكذلك المنافقون لم يطيقوا الثبات له صلى الله عليه وسلم فلذلك كان صدودهم. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}.
وعندما نسمع قول الحق: {تَعَالَوْاْ}، فهذا يعني نداء بمعنى: اقبلوا، ولكن كلمة أقبلوا تعني الإقبال على المساوي لك، أما كلمة: {تعالوا} فهي تعني الإقبال على الأعلى. فكأن لقضايا البشر تشريعًا هابطًا؛ لأنه من صناعة العقل البشري، وصناعة العقل البشري في قوانين صيانة المجتمعات- على فرض أننا أثبتنا حسن نياتهم وإخلاصهم- تكون على قدر مستوياتهم في الاستنباط واستقراء الأحداث.
لكن التشريع حينما يأتي من الله يكون عاليًا؛ لأنه سبحانه لا تغيب عنه جزئية مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله، وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب للجديد، وهذا ناشيء من أن أحداثًا جدّت لم تكن في بال من قنّن لصيانة المجتمع، وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصرًا عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول، وضغطت أحداث الحياة ضغطًا كبيرًا ليعدّلوا في الأحكام والقوانين.
أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب الوقائي، والوقاية خير من العلاج.