فصل: الآية العشرون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية العشرون:

قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214].
وقال في سورة آل عمران: 142: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}.
وقال في سورة التوبة 16: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعلمون}.
وللسائل أن يسأل فيقول: كيف اختلف اللفظ في المواضع الثلاثة، وهو فيها كلها بعث على الجهاد؟ وهل صلح ما هو في الأول للآخر، أم اقتضاه مكانه بعينه دون غيره؟
الجواب أن يقال: بل لكل موضع معنى يقتضي اللفظ الذي خص به، فالآية الأولى من سورة البقرة وردت عقيب قوله: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213] ثم قال: {وما اختلف في إلا الذين أوتوه} يعني الكتاب {من بعدما جاءتهم البينات بغيا بينهم} فكانت هذه الحالة التي أخبر الله عنها مشبهة حالة النبي والمؤمنين معه فيما دفعوا إليه من بغي المشركين، ومقاتلتهم لهم مجاهدين، فقال: أم حسبتم أن تشتروا الجنة لتسكنوها خالدين فيها ولم تفعلوا أفعال الأمم الماضية فيما دفعت إليه هي وأنبياؤها وما نالهم من قتال الكفار من الشدة والمضرة والانزعاج عن المواطن حتى استعجلوا النصر لما استنفدوا الصبر أعلمهم الله عز وجل أن نصره قريب من أوليائه، غير بعيد عن حزبه، وكذلك حالكم إذا عرفتم حالهم وعاقبه أمرهم ومآلهم.
ومعنى قوله: {تدخلوا الجنة} هو ما بينه في قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} [التوبة: 111] فكان في ذكر ذلك شحذ لبصائرهم في الجهاد، وحملهم على الاقتداء بفرق الصلاح وأمم الأنبياء صلوات الله عليهم قبلهم وتأنيس لهم بالصبر على ما حل بهم حتى حمدوا عاقبة أمرهم.
وأما الآية الثانية في سورة آل عمران وهي: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران: 142] فهي خطاب للمسلمين الذين نالهم من قتال المشركين جراحات، لأنه قال فيها: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} [آل عمران: 140] فقال: أم حسبتم أن تنالوا الجنة ولما تجاهدوا الأعداء من الكفار فيعلم الله ذلك منكم، ولما تصبروا صبرا زائدا على صبرهم فيرى ذلك من فضلكم عليهم، أي الجنة لمن فعل ما أمره الله تعالى به في الوقت من قتال أهل الكفر وتوطينهم النفس فيه على الصبر فيخفف عليه ما يجد من الألم بما يتحقق من الفوز في الآجلة.
والآية التي ردفتها هذه الآية اقتضت البعث على التشمر للقتال والصبر بعد صبر الأعداء، وقيل لبعض العرب: ما كان سبب كثرة ظفركم بأعدائكم، فقال: كنا نصبر بعد صبرهم ساعة فيكون ذلك سبب الظفر.
وأما الآية الثالثة في سورة براءة وهي قوله تعالى: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون} التوبة: 16، فإنها خطاب للمجاهدين من المؤمنين، وتوعد لمن كان منهم يبقى على أقارب له عند الظفر بهم لقوله بعده: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم} [التوبة: 23- 24] الآيتين، فحذر المنافقين الذين ضاموا المؤمنين في قتال المشركين أن يعلم الله مجاهدتهم أعداءهم وقد اتخذوا معها وليجة بينهم وبين المكشرين. فالوليجة: هي المدخل الذي ذكره الله تعالى في الآية. بعدها عند وصف المنافقين فقال: {ويحلفون بالله لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون} [التوبة: 56- 57] الآيتين فقولك: ولج، بمعنى دخل، والوليجة: المدخل وهو الوسيلة التي يدخل بها الإنسان حريم الإنسان، كالباب المفتوح له يفعل فعله، فكأن التوعد كان يقتضي أن يقال لهم: أظننتم أن تتكركوا وما تظهرون من مجاهدتكم أعدائكم أعداءكم ولم يكن منكم جهاد خالص لله تعالى لا تمالئون فيه أبا ولا ابنا، ولا تراعون فيه حميما ولا قريبا، فلا تبقون على ذي معرفة إبقاء تتقربون به رجاء أن يجازوكم عليه، فإن قدرتم أنكم تتركون ومضامة المسلمين في القتال من غير أن يعلم منكم باطنا عاريا من هذه الحال فقد أخطأ ظنكم وأخلف تقديركم فإنكم مطالبون بالتوفقة بين سركم وجهركم.

.الآية الحادية والعشرون:

قوله عز وجل: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر} البقرة: 232.
وقال في [سورة الطلاق: 2] {ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر}.
للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان الكاف في {ذلك} للمخاطب، فيجمع إذا كثروا ويقال: ذلكم، كما قال في الآيتين، وكما قال: {ذلكم أزكى لكم وأطهر} وقال في مخاطبة الاثنين: {ذلكما مما علمني ربي} [يوسف: 37]، وكما قال في مخاطبة النساء: {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32]، فيثنى ويجمع على حسب المخاطب كما يؤنث ويذكر فيكسر كقوله: {قال كذلك قال ربك هو علي هين} [مريم: 21]، فما بال قوله تعالى: {ذلك يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} في سورة البقرة موحدا الكاف من ذلك مع جمعها في نظيرها في سورة الطلاق؟
والجواب عن ذلك أن يقال: إن الكاف تجئ في الكلام اسما للمخاطب كقوله: رأيتك، وغلامك، والكاف هاهنا اسم للمخاطب، وموضعها نصب في رأيتك وجر في غلامك.
وتجيء متصلة بالأسماء المبهمة التي للإشارة وليست باسما ولكنها للخطاب، ويراد بها معنى آخر وهو تبعيد المشار إليه، نحو ذاك وذلك وأولئك، والدليل على أنها ليست اسما قوله تعالى: {فذانك برهانان من ربك} القصص: 32، لو كانت اسما مجرورا لما اجتمعت مع نون التثنية في ذالك كما لا تجتمع معها في قولك: غلاماك، لا تقول: غلمانك، ولا يجوز أن تكون الكاف بعد المبهمة اسما منصوبا، لأنه لا ناصب له.
وشيء آخر، وهو أن هذه المبهمة معارف ولا تصح إضافتها، والكاف بعدها ليس اسما مضافا إليه، فإذا عريت من الإسمية لم تعر من معنى الخطاب، والمعنى الذي يقارنها مع الخطاب في المبهم أنك تقول: ذا فيكون إشارة إلى قريب، فإذا قلت: ذاك صار بالكاف إشارة إلى بعيد.
فلما عريت الكاف من الاسمية قصد بها إلى أحد المعنيين الذين وضعت لهما كذلك. والأسماء المبهمة كما قصد بها معنيان الخطاب والتبعيد جاز أن تعري من أحدهما، وهو الخطاب ويقتصر بها على معنى التبعيد حسب، على حسب قصد القاصد.
وإذا جاءت اللفظة مثناة اللفظ أو مجموعة على حسب حال المخاطبين فهي على المعنيين. وتبيين الموضع الذي يقصد فيه التبعيد وحده لغرض من الأغراض دون الخطاب والتبعيد معا باستقراء كل لفظ في القرآن جاءت فيه ذلك والمخاطبون عدة.
وتأمل موضعها مع تأمل المواضع الأخر التي ثنيت فيها وجمعت، واستنبط حكمة تقتضي في ذلك الموضع استعمالها للتبعيد وحده دون الخطاب، وسنتأمل هذا على استكمال في كل مكان إن شاء الله تعالى.
وجواب آخر عن المسألة وهو أن كل موضع أفردت فيه الكاف والخطاب لجماعة، فإنما قصد بالكاف المفردة مخاطبة النبي، ثم العدول عنها إلى مخاطبة أمته كقوله عز من قائل: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن} [الطلاق: 1] فلم يمنعه قوله: {إذا طلقتم} وهو خطاب الجماعة أن يفرد للنبي خطابا له مخصوصا موحدا، وهو قوله: {يا أيها النبي}.
وكذلك قوله تعالى: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله} البقرة: 232 تكون الكاف في ذلك لخطاب النبي والكاف في {منكم} خطاب لأمته، وكذا كل موضع جاءت الكاف فيه هذا المجيء.

.الآية الثانية والعشرون:

قوله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم بالمعروف والله بما تعملون خبير} البقرة: 234.
وقال في آخر هذه العشر {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم من معروف والله عزيز حكيم} البقرة: 240.
للسائل أن يسأل فيقول: ما الفائدة التي أوجبت اختصاص المكان الأول بالتعريف والباء فقال: {بالمعروف} والمكان الثاني بالتنكير ولفظة {من}؟
فالجواب عن ذلك أن يقال: إن الأول تعلق بقوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم بالمعروف} البقرة: 234 أي: لا جناح عليكم في أن يفعلن في أنفسهم بأمر الله المشهور، وهو ما أباحه لهن من التزوج بعد انقضاء العدة، فالمعروف هاهنا أمر الله المشهور، وهو فعله وشرعه الذي شرعه وبعث عليه عباده.
والموضع الثاني: أن المراد به: فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم من جملة الأفعال التي لهم أن يفعلن من تزوج أو قعود، فالمعروف هاهنا فعل من أفعالهم، يعرف في الدين جوازه، وهو بعض ما لهن أن يفعلنه، ولهذا المعنى خص بلفظة من وجاء نكرة.
فجاء المعروف في الأول معرف اللفظ لما أشرت إليه وهو أن يفعلن في أنفسهم بالوجه المعروف المشهور الذي أباح الشرع لهن ذلك، وهو الوجه الذي دل الله عليه وأبانه، فعرف إذ كان وجها من الوجوه التي لهم أن يأتينه، فأخرج مخرج النكرة لذلك.

.الآية الثالثة والعشرون:

قوله عز وجل: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم} البقرة: 276.
وقال في سورة [النساء 36- 37] في الموضع الأول {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون}.
وفي الموضع الثاني {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} [النساء: 107].
وقال في سورة [الحديد 23- 24]: {والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون}.
للسائل أن يسأل عن المواضع الأربعة، عن اختلاف اللفظين في الموضعين، واتفاقهما في الموضعين، واختصاص الموضع بالواو، واختصاص الموضعين الآخرين بإن؟
والجواب أن يقال: أن يقال: إن الآية الأولى في الكفار الذين استحلوا ما حرم الله، وعارضوا ما أنزل الله فقالوا {إنما البيع مثل الربا} البقرة: 245 حتى قال: {فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون} البقرة: 275، فعظم الله تعالى كفرهم، وسمى كل واحد منهم كفارا على لفظ المبالغة، لأن كفارا بعد كافر، لمن هو مقيم على الكفر، والكفر عادته، كضارب وضراب، وخائط وخياط، ثم أتبعه بقوله: {أثيم} أي: مبالغ في اكتساب الإثم، وأثيم أبلغ من آثم فإذا أثم إثما بعد إثم فالإثم عادته، وهو وصف من أخير عنه بالاستحلال للربا، سماه كفارا، وصار أثيما بذلك وسائر سيئات الأفعال التي يلحقها بالكفر.
والموضع الثاني وهو الأول من سورة النساء، أمرهم بالعبادة وترك الشرك فقال: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} [36] أخبرهم أنهم عبيد، والعبد لا يحسن منه الاختيال والفخر، لأن الرق والذل يخالفانه، فلذلك عقبه بقوله: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} وعقبها ب {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} النساء: 37، لأنه بعد العبادة أمرهم بالإحسان للوالدين وإعطاء ذي القربى واليتامى والمساكين فقال: إن الله تعالى لا يحب العبد المختال الفخور البخيل.
وأما الموضع الثالث وهو الثاني من سورة النساء: {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} النساء: 107، فلأنه ذكر قبله: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} فأخبر عن حالهم، فاقتضى بتقدم الذكر هذا الوصف.
والموضع الرابع {والله لا يحب كل مختال فخور} في سورة الحديد الآية: 23، جاء بعد نهيه عن تمكين الحزن والأسا من على ما يفوت من أحوال الدنيا، ويفجع به الإنسان من مستفاد النعمى للعلم السابق بأنها عوار مرتجعة، وكذلك إذا خول منها الكثير لا يمرح لحبه ولا يبطر فيه كما قال: {ولا تمش في الأرض مرحا} [الإسراء: 37] أي: فعل المختال، فذم الإفراط في الجزع عند المصيبة والفجيعة، والغلو في الفرح، والمرح عند العطية وكثرة السعة حتى يخرج عن التواضع بما يحول إلى الكبرياء فيبطر ويمرح ويفخر، وقال عقيب ذلك: {والله لا يحب من كان مختالا فخورا} وإنما عقبها ب {الذين يبخلون} [الحديد: 24] لأن المتقدم عليه {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم} [الحديد: 18] فكأنه حثهم على الصدقة وإقراض الله تعالى، فإن من لم يفعل ذلك يكون بخيلا، والله لا يحب البخيل.
وأما الفرق بين الواو وإن فإن الواو في أكثر الأحوال لا تكون أجنبية مما قبلها بخلاف إن فإنها كلمة أجنبية من الكلمتين وضعت لابتداء الكلام، ففي سورة البقرة وسورة الحديد الكلام متصل بعضه ببعض، فذكره بواو حيث قال: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم} فوصلها بالواو، وكذلك في الحديد: {ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور}.
والإختيال والفخر إنما يكونان من الفرح، فيجمع بينهما بواو.
وأما الموضعان الآخران في سورة النساء فقد تم الكلام فيهما، لأن في الأول أمرهم بالعبادة وترك الشرك، والإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار وملك اليمين، وقد تمت هذه الأوامر، ثم ابتدأ بقوله: {إن الله لا يحب من كان} كذا وكذا.
وكذلك الموضع الثاني، لأنه نهى النبي عن المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم، وتم الكلام ثم قال: {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} فاختص كل مكان بالوصف الذي لاق به والسلام.
مضى الكلام فيما شابه من سورة البقرة مكانا آخر منها أو من غيرها على اثنين وثلاثين موضعا وقع فيها السؤال. اهـ.