فصل: من فوائد الشوكاني في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
قوله: {فَلاَ وَرَبّكَ}.
قال ابن جرير: قوله: {فَلا} ردّ على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، ثم استأنف القسم بقوله: {وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقيل: إنه قدّم لا على القسم اهتمامًا بالنفي، وإظهارًا لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيدًا، وقيل: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، والتقدير: فوربك لا يؤمنون، كما في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} [الواقعة: 75] {حتى يُحَكّمُوكَ} أي: يجعلوك حكمًا بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحدًا غيرك وقيل: معناه: يتحاكمون إليك، ولا ملجئ لذلك {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه قول طرفة:
وهم الحكام أرباب الهدى ** وسعاة الناس في الأمر الشجر

أي: المختلف، ومنه: تشاجر الرماح، أي: اختلافها {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ} قيل: هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام، أي: فتقضي بينهم، ثم لا يجدوا.
والحرج: الضيق، وقيل: الشك، ومنه قيل للشجر الملتفّ: حرج وحرجة، وجمعها حراج.
وقيل: الحرج: الإثم، أي: لا يجدون في أنفسهم إثمًا بإنكارهم ما قضيت {وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} أي: ينقادوا لأمرك، وقضائك انقيادًا لا يخالفونه في شيء.
قال الزجاج: {تَسْلِيمًا} مصدر مؤكد، أي: ويسلمون لحكمك تسليمًا لا يدخلون على أنفسهم شكًا، ولا شبهة فيه.
والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم، كما يؤيد ذلك قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} فلا يختص بالمقصودين بقوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته، فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة، أو في أحدهما.
وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة، بأن يكون عالمًا باللغة العربية، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفًا بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيرًا بالسنة المطهرة، مميزًا بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفًا غير متعصب لمذهب من المذاهب، ولا لنحلة من النحل، ورعًا لا يحيف، ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة، مترجم عنها، حاكم بأحكامها.
وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنه أوّلًا أقسم سبحانه بنفسه مؤكدًا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ} فضم إلى التحكيم أمرًا آخر، وهو عدم وجود حرج، أي: حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم، والإذعان كافيًا حتى يكون من صميم القلب عن رضًا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضمّ إليه قوله: {وَيُسَلّمُواْ} أي: يذعنوا، وينقادوا ظاهرًا وباطنًا، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد، فقال: {تَسْلِيمًا} فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليمًا لا يخالطه ردّ، ولا تشوبه مخالفة. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلمواْ تَسْلِيمًا} [65].
{فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} في السر ولا يستحقون اسم الإيمان في السر.
{حَتّىَ يُحَكّمُوكَ} يجعلوك حاكمًا ويترافعوا إليك: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس.
{ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} في قلوبهم: {حَرَجًا} أي: ضيقًا: {مّمّا قَضَيْتَ} بينهم.
{وَيُسَلمواْ} أي: ينقادوا لأمر ويذعنوا لحكمك: {تَسْلِيمًا} تأكيد للفعل، بمنزلة تكريره، أي: تسليمًا تامًا بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
تنبيهات:
الأول: روى البخاريّ عن الزهريّ عن عروة قال: خاصم الزبير رجلًا في شراج الحراة، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ»، فقال الأنصاري: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ثم قال: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ».
واستوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة.
قال الزبير: فما أحسب هذا الآيات إلا نزلت في ذلك: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
قال ابن كثير: هكذا رواه البخاريّ في (كتاب التفسير) في [صحيحه] من حديث معمر، وفي كتاب (المساقاة) من حديث ابن جريج ومعمر أيضًا، وفي كتاب (الصلح) من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهريّ عن عروة فذكره، وصورته الإرسال وهو متصل في المعنى، وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهريّ أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلًا من الأنصار قد شهد بدرًا، إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في شراج الحرة، كان يستقيان بها كلاهما، فقال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير: «اسْقِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ»، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، ثم قال للزبير: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ».
فاستوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه، وكان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، قبل ذلك، أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، استوعى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم للزبير حقه في صريح الحكم.
قال عروة: فقال الزبير: والله! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلمواْ تَسْلِيمًا}.
هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في [تفسيره]، فقال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب؛ أن عروة بن الزبير حدثه؛ أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام؛ أنه خاصم رجلًا.... الحديث.
قال ابن كثير: وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به، ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به، وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير، وهكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير، والله أعلم.
وروى ابن أبي حاتم عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء، فقضى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل.
قال ابن كثير: هذا مرسل، لكن فيه فائدة تسمية الأنصاري. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في [فتح الباري]: وحكى الواحدي وشيخه الثعلبي والمهدوي أنه حاطب بن أبي بلتعة، وتعقب بأن حاطبًا وإن كان بدريًا، لكنه من المهاجرين، لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية، قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء.... الحديث، وإسناده قوي مع إرساله، فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير، فيكون موصولًا، وعلى هذا فيؤول قوله (من الأنصار) على إرادة المعنى الأعم، كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة، وأما قول الكرمانيّ بأن حاطبًا كان حليفًا للأنصار- ففيه نظر.
وأما قوله (من بني أمية بن زيد) فلعله كان مسكنه هناك، كعمر، ثم قال: ويترشح بأن حاطبًا كان حليفًا لآل الزبير بن العوام من بني أسد وكأنه كان مجاورًا للزبير، والله أعلم.
أقول: وقع في التفسير المنسوب لابن عباس، ههنا، ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وإدراجه تحت قوله تعالى: {رَأَيْتَ المنَافِقِينَ} وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر، وكيف؟ وقد كان رَضِي اللّهُ عَنْهُ من البدريين، وقد انتفى النفاق عمن شهدها.
قال التوربشتي: يحتمل أنه أصدر ذلك منه بادرة النفس، كما وقع لغيره ممن صحت توبته، إذا لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب، قال: بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة. انتهى.
ولما همّ عمر رَضِي اللّهُ عَنْهُ بضرب عنقه في قصة الظعينة، قال حاطب: لا تعجل عليّ يا رسول الله! والله! إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، فأقرّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، وكف عمر عنه، وقال صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لعمر: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فذرفت عينا عمر.... الحديث.
ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه سترًا عليه كيلا يغض من مقامه، وهكذا ليكن الأدب، وكفانا أصلًا عظيمًا في هذا الباب إبهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة، فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب، هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه.
وقال الحافظ ابن حجر في [الفتح]: والراجح رواية الأكثر، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك، ثم قال الحافظ ابن حجر: وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها وهي قوله تعالى: {أَلم تَرَ} إلخ فروى إسحاق بن راهويه في [تفسيره] بإسناد صحيح عن الشعبي، قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم، لأنه علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات، إلى.... {وَيُسَلمواْ تَسْلِيمًا}.