فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين.
ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب، كحال حارثة حيث قال: كأني أنظر إلى عرش ربي، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «اعبد الله كأنك تراه».
الرابع: الصالحون، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة.
وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» انتهى كلامه. وهو شبيه بكلام المتصوفة.
وقال عكرمة: النبيون محمد صلى الله عليه وسلم، والصديقون أبو بكر، والشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحون صالحو أمّة محمد صلى الله عليه وسلم انتهى.
وينبغي أن يكون ذلك على طريق التمثيل، وأما على طريق الحصر فلا، ولا يفهم من قوله: {ومن يطع الله والرسول} ظاهر اللفظ من الاكتفاء بالطاعة الواحدة، إذ اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة لدخول المنافقين فيه، لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة، بل يحمل على غير الظاهر بأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات، وترك جميع المنهيات.
{وحسن أولئك رفيقًا} أولئك: إشارة إلى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
لم يكتف بالمعية حتى جعلهم رفقاء لهم، فالمطيع لله ولرسوله يوافقونه ويصحبونه، والرفيق الصاحب، سمي بذلك للارتفاق به. اهـ.

.قال الفخر:

لا شك أن قوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من وصف الثواب، فلما حكم على كل ذلك بأنه فضل من الله دل هذا على أن الثواب غير واجب على الله، ومما يدل عليه من جهة المعقول وجوه:
الأول: القدرة على الطاعة إن كانت لا تصلح إلا للطاعة، فخالق تلك القدرة هو الذي أعطى الطاعة، فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا، وإن كانت صالحة للمعصية أيضا لم يترجح جانب الطاعة على جانب المعصية إلا بخلق الداعي إلى الداعي، ويصير مجموع القدرة والداعي موجبا للفعل، فخالق هذا المجموع هو الذي أعطى الطاعة، فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا.
الثاني: نعم الله على العبد لا تحصى وهي موجبة للطاعة والشكر، وإذا كانت الطاعات تقع في مقابلة النعم السالفة امتنع كونها موجبة للثواب في المستقبل.
الثالث: أن الوجوب يستلزم استحقاق الذنب عند الترك، وهذا الاستحقاق ينافي الإلهية، فيمتنع حصوله في حق الإله تعالى، فثبت أن ظاهر الآية كما دل على أن الثواب كله فضل من الله تعالى، فالبراهين العقلية القاطعة دالة على ذلك أيضا، وقالت المعتزلة: الثواب وإن كان واجبا لكن لا يمتنع إطلاق اسم الفضل عليه، وذلك أن العبد إنما استحق ذلك الثواب لأن الله تعالى كلفه والتكليف تفضل، ولأنه تعالى هو الذي أعطى العقل والقدرة وأزاح الأعذار والموانع حتى تمكن المكلف من فعل الطاعة، فصار ذلك بمنزلة من وهب لغيره ثوبا كي ينتفع به، فإذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب فكذا ههنا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ذلك الفضل مِنَ الله} أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه.
خلافا لما قالت المعتزلة: إنما ينال العبد ذلك بفعله.
فلما امتنّ الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لأحد أن يُثْني على نفسه بما لم يفعله دلّ ذلك على بطلان قولهم. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {ذلك الفضل مِنَ الله} فيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون التقدير: ذلك هو الفضل من الله، ويكون المعنى أن ذلك الثواب لكمال درجته كأنه هو الفضل من الله وأن ما سواه فليس بشيء، والثاني: أن يكون التقدير: ذلك الفضل هو من الله، أي ذلك الفضل المذكور، والثواب المذكور هو من الله لا من غيره، ولا شك أن الاحتمال الأول أبلغ. اهـ.
قال الفخر:
{وكفى بالله عَلِيمًا} له موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفة الجزاء والتفضل، وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه. اهـ.

.قال الطبري:

وقوله: {وكفى بالله عليما}، يقول: وحسب العباد بالله الذي خلقهم {عليما} بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي، فإنه لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه، حتى يجازي جميعهم، جزاء المحسنين منهم بالإحسان، والمسيئين منهم بالإساءة، ويعفو عمن شاء من أهل التوحيد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ذلك الفضل من الله} الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين، ومن عطف عليهم، لأنه هو المحكوم به في قوله: {فأولئك مع الذين} وكأنه على تقدير سؤال أي: وما الموجب لهم استواؤهم مع النبيين في الآخرة، مع أن الفرق بينهم في الدنيا بيِّن؟ فذكر أنَّ ذلك بفضله، لا بوجوب عليه.
ومع استوائهم معهم في الجنة فهم متباينون في المنازل.
وقيل: الإشارة إلى الثواب في قوله أجرًا عظيمًا.
وقيل: إلى الطاعة.
وقيل: إلى المرافقة.
وقال الزمخشري: إنّ ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله، لأنه تفضل به عليهم تبعًا لثوابهم، وذلك مبتدأ والفضل خبره، ومِن الله حال، ويجوز أن يكونَ الفضل صفةً، والخبر من الله، ويجوز أن يكونا خبرين على مذهب من يجيز ذلك.
{وكفى بالله عليمًا} لما ذكر الطاعة وذكر جزاء من يطيع أتى بصفة العلم التي تتضمن الجزاء أي: وكفى به مجازيًا لمن أطاع.
قال ابن عطية: فيه معنى أن تقول: فشملوا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك دخلت الباء على اسم الله تعالى لتدل على الأمر الذي في قوله: وكفى، انتهى.
وقد بينا فساد قولَ مَن يدّعي أنَّ قولك: كفى بزيد معناه اكتف بزيد عند الكلام على قوله: {وكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا} وقال الزمخشري: وكفى بالله عليمًا، بجزاء من أطاعه.
أو أراد فصل المنعم عليهم، ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه، وكفى بالله عليمًا بعباده، فهو يوفقهم على حسب أحوالهم انتهى.
وهي ألفاظ المعتزلة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قال ابن عباس: ومن يطع الله في الفرائض، والرسول في السُنن.
قال ابن قتيبة: والصدّيق: الكثير الصدق، كما يقال: فسيق، وسكير، وشرّيب، وخمّير، وسكيت، وفجّير، وعشّيق، وضلّيل، وظلّيم: إِذا كثر منه ذلك.
ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك، أو يكون عادة.
فأما الشهداء، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله.
وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال:
أحدها: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنّة، قاله ثعلب.
والثاني: لأن ملائكة الرحمة تشهده.
والثالث: لسقوطه بالأرض، والأرض: هي الشاهدة، ذكر القولين ابن فارس اللغوي.
والرابع: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والخامس: لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل، قاله شيخنا على بن عبيد الله.
فأما الصالحون، فهم اسم لكل من صَلُحَتْ سريرتُه وعلانيتُه.
والجمهور على أن النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، عام في جميع من هذه صفته.
وقال عكرمة: المراد بالنبيين هاهنا محمد، والصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي، وبالصالحين سائر الصحابة. اهـ.

.قال النسفي:

{وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين} كأفاضل صحابة الأنبياء. والصديق: المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة وباطنه بالمراقبة، أو الذي يصدق قوله بفعله {والشهداء} والذين استشهدوا في سبيل الله {والصالحين} ومن صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} أي وما أحسن أولئك رفيقًا وهو كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه. اهـ.

.قال النيسابوري في الآيات السابقة:

{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
قوله: {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم} فيه وجهان: أحدهما- وهو قول الحسن واختاره الواحدي- أنه جملة معترضة وأصل النظم {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا} {ثم جاؤك} يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيؤنك ويحلفون كذبًا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الإحسان والتوفيق. ووجه الاعتراض أنه حكى عنهم التحاكم إلى الطاغوت وأنهم يصدون، ثم أتبعها ما يدل على شدة أحوالهم بسبب أعمالهم القبيحة في الدنيا والآخرة. والثاني أنه متصل بما قبله لا على وجه الاعتراض والمعنى أنه إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف تكون نفرتهم إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك كراهًا يحلفون بالله على سبيل الكذب ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة؟ أما المصيبة فقيل: إنها قتل عمر صاحبهم فإنهم جاؤوا وطلبوا بدمه وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا الصلاح وهو اختيار الزجاج. وقال الجبائي: هي ما أمر الله رسوله بها من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ويخصهم بمزيد الإذلال، والمعنى ثم جاؤك في وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون ما أردنا بما كان منا من مواساة الكفار إلا إصلاح الحال. وقال أبو مسلم: إنه تعالى بشر رسوله أن المنافقين سيصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا الأيمان. ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا: كيف أنت إذا كان كذا.
ومعنى الإحسان والتوفيق ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانًا بين الخصوم وائتلافًا بينهم فإنهم لا يقدرون عند الرسول أن يرفعوا أصواتهم ويبينوا حججهم، أو ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به، وعلى هذا لا يبقى للحلف مناسبة ظاهرة. أو ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله إلا أنك لا تحكم إلا بالحق المرّ وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالإحسان إلى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى تحصل بينهم الموافقة.