فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
هذا الدرس يتناول موضوعًا خطيرًا.. الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة. إنه يتناول بيان شرط الإيمان وحدّه؛ متمثلًا في النظام الأساسي لهذه الأمة.. ومن الموضوع في ذاته، ومن طريقة ارتباطه وامتزاجه بالنظام الأساسي للأمة، يستمد خطورته وخطره.
إن القرآن وهو- ينشئ هذه الأمة وينشئها- وهو يخرجها إلى الوجود إخراجًا. كما قال الله تعالى في التعبير القرآني الدقيق: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} إن القرآن وهو ينشئ هذه الأمة من حيث لم تكن؛ وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر: {خير أمة أخرجت للناس}. ويجب أن نؤكد هذه الحقيقة ونوضحها قبل المضي في الحديث حقيقة إنشاء القرآن لهذه الأمة وتنشئتها معًا.. فقد كانت- على التحقيق- إنشاء وتنشئة، كانت ميلادًا جديدًا للأمة؛ بل ميلادًا جديدًا للإنسان في صورة جديدة! ولم تكن مرحلة في طريق النشأة؛ ولا خطوة في سبيل التطور، ولا حتى وثبة من وثبات النهضة! إنما كانت- على وجه التحديد- نشأة! وميلادًا للأمة العربية وللإنسان كله!
وحين ننظر إلى الشعر الجاهلي- والنتف الأخرى من المأثورات الجاهلية- وهو ديوان العرب، الذي تضمن أعلى وأخلد ما كان للعرب من نظرة للحياة والوجود والكون والإنسان والخلق والسلوك؛ كما تضمن معالم حياتهم، ومكنون مشاعرهم، ومجموع تصوراتهم؛ ولباب ثقافتهم وحضارتهم؛ وكينونتهم كلها بالاختصار.
حين ننظر إلى مجموعة الثقافات والتصورات والقيم التي يتضمنها هذا الديوان؛ في ظل القرآن؛ وما تضمنه من نظرة للوجود والحياة، وللكون والإنسان؛ ومن قيم في الحياة الإنسانية؛ ومن نظام للمجتمع؛ ومن تصور لغاية الوجود الإنساني. ومن تنظيم واقعي يقوم على أساس هذا التصور.
ثم ننظر إلى واقع العرب قبل الإسلام وبعده.. في ظل تلك التصورات الجاهلية التي تتمثل في ديوانها. ثم في ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني.
حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية.. في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية: يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد.. أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة! كانت إخراجًا من صنع الله؛ كتعبير القرآن الدقيق.. وكانت أعجب نشأة؛ وأغرب إخراج.. فيهي المرة الأولى والأخيرة- فيما نعلم- التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب! وتخرج فيها حياة من خلال الكلمات! ولكن لا عجب.. فهذه الكلمات.. كلمات الله.
ومن أراد المجادلة والمماحلة، فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن يخرجها الله بكلماته؛ وقيل أن ينشئها الله بقرآنه؟
إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية! ولكن أين كانت في الوجود الإنساني؟ أين كانت في سجل الحضارة البشرية؟ أين كانت في التاريخ العالمي؟ أين كانت تجلس على المائدة العالمية الإنسانية؟ وماذا كانت تقدم على هذه المائدة، فيعرف باسمها ويحمل طابعها؟
لقد نشأت هذه الأمة نشأتها بهذا الدين؛ ونُشئت تنشئتها بهذا المنهج القويم؛ وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب الله الذي في يدها، وبمنهجه الذي طبع حياتها.
لا بشيء آخر.. وأمامنا التاريخ! وقد صدقها الله وعده وهو يقول للعرب: {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم.. أفلا تعقلون} فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض؛ وكان لها دورها في التاريخ؛ وكان لها وجود إنساني ابتداء، وحضارة عالمية ثانيًا.. ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة الله هذه على الأمة العربية؛ ويجحدوا فضل الله في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم.. ومن ثم جعل لهم وجودًا وذكرًا وتاريخًا وحضارة- يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم الله إياه؛ وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد.. بل إلى الوجود يوم أخرج الله منهم الأمة المسلمة!
نقول.. إن القرآن حين كان ينشئ هذه الأمة وينشئها.. ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة، في الجماعة المسلمة- التي التقطها من سفح الجاهلية- ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها.. وينظم مجتمعها- أو يقيمه ابتداء- على أساس الميلاد الجديد.
وحين كان يخوض بالجماعة المسلمة المعركة؛ في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها؛ وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها- ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها- والمعركتان موصولتان في الزمان والمكان!
حين كان القرآن يصنع ذلك كله.. كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورها الصحيح، ببيان شرط الإيمان وحدّ الإسلام؛ ويربط بهذا التصور- في هذه النقطة بالذات- نظامها الأساسي، الذي يميز وجودها من وجود الجاهلية حولها؛ ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس، لتبين للناس، وتقودهم إلى الله.. نظامها الرباني.
وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي، قائمًا ومنبثقًا من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحدّ الإسلام!
إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها؛ والطريقة التي تتلقى بها؛ والمنهج الذي تفهم به ما تتلقى، وترد إليه ما يجدّ من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها؛ والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها.. ويقول: إن هذا هو شرط الإيمان وحدّه الإسلام.
وعندئذ يلتقي النظام الأساسي لهذه الأمة؛ بالعقيدة التي تؤمن بها.. في وحدة لا تتجزأ؛ ولا تفترق عناصرها.
وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقًا كاملًا.
وهذه هي القضية التي تبدو، بعد مطالعة هذا الدرس، بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل مسلم فيها!
إنه يقول للأمة المسلمة: إن الرسل أرسلت لتطاع- بإذن الله- لا لمجرد الإبلاغ والإقناع: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}.
ويقول لها: إن الناس لا يؤمنون- ابتداء- إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله؛ ممثلًا- في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم- في أحكام الرسول. وباقيًا بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة؛ ولا يكفي أن يتحاكموا- إليه ليحسبوا مؤمنين- بل لابد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين: {فلا وربك.. لا يومنون.. حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا}.. فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام.
ويقول لها: إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت- أي إلى غير شريعة الله- لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا}.
ويقول لها: إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا}.
ويقول لها: إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي، أن تطيع الله- عز وجل- في هذا القرآن- وأن تطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته- وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول. وأولي الأمر منكم}.
ويقول لها: إن المرجع، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة، والأقضية التي لم ترد فيها أحكام نصية.. إن المرجع هو الله ورسوله.. أي شريعة الله وسنة رسوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}.
وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنًا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة.. وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه.. إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله.. شرط الإيمان وحد الإسلام.. شرطًا واضحًا ونصًا صريحًا: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
ولا ننسَ ما سبق بيانه عند قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} من أن اليهود وصموا بالشرك بالله، لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أربابًا من دون الله- لا لأنهم عبدوهم- ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم؛ ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع- ابتداء من عند أنفسهم- فجعلوا بذلك مشركين.. الشرك الذي يغفر الله كل ما عداه. حتى الكبائر.. «وإن زنى وإن سرق. وإن شرب الخمر».. فرد الأمر كله إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية. ومن ثم إفراده بالحاكمية. فهي أخص خصائص الألوهية. وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلمًا ويبقى المؤمن مؤمنًا. ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره.. أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره الله أبدًا.. إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام. {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر...}
هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس. بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض. من إقرار مبادئ العدل والخلق على أساس منهج الله القويم السليم: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. إن الله نعما يعظكم به.. إن الله كان سميعًا بصيرًا}.
وقد ألممنا به إجمالًا. فنأخذ في مواجهة النصوص تفصيلًا.
{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. إن الله نعما يعظكم به. إن الله كان سميعًا بصيرًا}.
هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة؛ وهذا هو خلقها: أداء الأمانات إلى أهلها. والحكم بين الناس بالعدل. على منهج الله وتعليمه.
والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى.. الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان.. أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته. وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله، بعون من الله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات.
ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر الله أن تؤدى:
ومن هذه الأمانات: أمانة الشهادة لهذا الدين.. الشهادة له في النفس أولًا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له. ترجمة حية في شعورها وسلوكها. حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس. فيقولوا: ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون.
والشهادة له بدعوة الناس إليه، وبيان فضله ومزيته- بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية- فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان. وهي إحدى الأمانات.. ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض؛ منهجًا للجماعة المؤمنة؛ ومنهجًا للبشرية جميعًا.. المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات؛ بعد الإيمان الذاتي. ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة.. ومن ثم فـ: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» على هذا الأساس.. أداء لإحدى الأمانات.