فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْخِطَابِ لِزِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي لابد مِنْهُ لِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، أَيْ: وَمَاذَا ثَبَتَ لَكُمْ مِنَ الْأَعْذَارِ فِي حَالِ تَرْكِ الْقِتَالِ حَتَّى تَتْرُكُوهُ؟ أَيْ: لَا عُذْرَ لَكُمْ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِقَامَةِ التَّوْحِيدِ مَقَامَ الشِّرْكِ، وَإِحْلَالِ الْخَيْرِ مَحَلَّ الشَّرِّ، وَوَضْعِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، فِي مَوْضِعِ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ أَيْ: فِي سَبِيلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوْ وَأَخَصُّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْقَاذُ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ ظُلْمِ الْأَقْوِيَاءِ الْجَبَّارِينَ، وَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَقَدِ اسْتَذَلَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَنَالُوا مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْقَهْرِ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرُدُّوهُمْ فِي مِلَّتِهِمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ لِضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- لَا لِلْمُنَافِقِينَ- وَالْمُسْتَضْعَفُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَحْصُورُونَ فِي مَكَّةَ يَضْطَهِدُهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَيَظْلِمُونَهُمْ، وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ سَبِيلًا خَاصًّا عَطَفَهُ عَلَى سَبِيلِ اللهِ مَعَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ إِثَارَةُ النَّخْوَةِ، وَهَزُّ الْأَرْيَحِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَإِيقَاظُ شُعُورِ الْأَنَفَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ وَلِذَلِكَ مَثَّلَ حَالَهُمْ بِمَا يَدْعُو إِلَى نُصْرَتِهِمْ، فَقَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلْيًا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا، أَقُولُ: بَيَّنَ أَنَّهُمْ فَقَدُوا مِنْ قَوْمِهِمْ- لِأَجْلِ دِينِهِمْ- كُلَّ عَوْنٍ وَنَصِيرٍ، وَحُرِمُوا كُلَّ مُغِيثٍ وَظَهِيرٍ، فَهُمْ لِتَقَطُّعِ أَسْبَابِ الرَّجَاءِ بِهِمْ يَسْتَغِيثُونَ رَبَّهُمْ، وَيَدْعُونَهُ لِيُفَرِّجَ كَرْبَهُمْ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَهِيَ وَطَنُهُمْ لِظُلْمِ أَهْلِهَا لَهُمْ، وَيُسَخِّرَ لَهُمْ بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ لِيُهَاجِرُوا إِلَيْكُمْ وَيَتَّصِلُوا بِكُمْ؛ فَإِنَّ رَابِطَةَ الْإِيمَانِ أَقْوَى مِنْ رَوَابِطِ الْأَنْسَابِ وَالْأَوْطَانِ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ فَلْيَكُنْ كُلٌّ مِنْكُمْ وَلِيًّا لَهُمْ وَنَصِيرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ مِنْ ظُلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْذِيبِهِمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فِي تَفْسِيرِ {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [2: 191]، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهِجْرَةِ وَمَا كُلُّ أَحَدٍ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ رضي الله عنه هَاجَرَا لَيْلًا، وَلَوْ ظَفِرُوا بِهِمَا لَقَتَلُوهُمَا إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَكَانُوا يَصُدُّونَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَيُعَذِّبُونَ مُرِيدَهَا عَذَابًا نُكْرًا، وَمَا كَانَ سَبَبُ شَرْعِ الْقِتَالِ إِلَّا عَدَمَ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَظُلْمَ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ، وَمَا أَفَاضَتْ بِهِ الْآيَاتُ مِنْ بَيَانِهِ، يَقُولُ الْجَاهِلُونَ وَالْمُتَجَاهِلُونَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ نُشِرَ بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّةِ، فَأَيْنَ كَانَتِ الْقُوَّةُ مِنْ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ؟!
الْقِتَالُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ قَبِيحٌ، وَلَا يُجِيزُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ ارْتِكَابَ الْقَبِيحِ إِلَّا لِإِزَالَةِ شَرٍّ أَقْبَحَ مِنْهُ، وَالْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا وَغَايَاتِهَا، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ حِكْمَةَ الْقِتَالِ وَكَوْنِهِ لِلضَّرُورَةِ وَإِزَالَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَإِدَالَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ هُنَا بِبَيَانِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِ الْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِنْقَاذِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظُّلْمِ، حَتَّى أَكَّدَهُ بِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ، مَعَ مُقَابَلَتِهِ بِضِدِّهِ، وَهُوَ مَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارُ لِأَجْلِهِ، فَقَالَ:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ تَقَدَّمَ أَنَّ الطَّاغُوتَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، إِلَى الْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالشَّرِّ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُؤْمِنُونَ الْقِتَالَ- وَالْكَافِرُونَ لَا يَتْرُكُونَهُ- لَغَلَبَ الطَّاغُوتُ وَعَمَّ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [2: 251]، فَغَلَبَتِ الْوَثَنِيَّةُ الْمُفْسِدَةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ، وَعَمَّ الظُّلْمُ بِعُمُومِ الِاسْتِبْدَادِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا لِأَنَّهُ يُزَيِّنُ لِأَصْحَابِهِ الْبَاطِلَ وَالظُّلْمَ وَالشَّرَّ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، فَيُوهِمُهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ، وَفِيهَا عِزُّهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْكَيْدُ وَالْخِدَاعُ، وَمِنْ سُنَنِ اللهِ فِي تَعَارُضِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو وَالْبَاطِلَ يَسْفُلُ، وَفِي مُصَارَعَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بَقَاءُ الْأَصْلَحِ، وَرُجْحَانُ الْأَمْثَلِ، فَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطْلُبُونَ شَيْئًا ثَابِتًا صَالِحًا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْعُمْرَانِ فَسُنَنُ الْوُجُودِ مُؤَيِّدَةٌ لَهُمْ، وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ يَطْلُبُونَ الِانْتِقَامَ وَالِاسْتِعْلَاءَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَسْخِيرَ النَّاسِ لِشَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ وَهِيَ أُمُورٌ تَأْبَاهَا فِطْرَةُ الْبَشَرِ السَّلِيمَةِ، وَسُنَنُ الْعُمْرَانِ الْقَوِيمَةِ، فَلَا قُوَّةَ وَلَا بَقَاءَ لَهَا، إِلَّا بِتَرْكِهَا وَشَأْنَهَا، وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ لِأَهْلِهَا، وَإِنَّمَا بَقَاءُ الْبَاطِلِ فِي نَوْمَةِ الْحَقِّ عَنْهُ، وَثَمَّ مَعْنًى آخَرُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابٌ عَمَّا عَسَاهُ يَطُوفُ بِخَوَاطِرِ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ أَنَّنَالآنقَاتِلُ لِأَنَّنَا ضُعَفَاءُ وَالْأَعْدَاءُ أَكْثَرُ مِنَّا عَدَدًا، وَأَقْوَى مِنَّا عُدَدًا، فَدَلَّهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى قُوَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي لَا تُعَادِلُهَا قُوَّةٌ، وَضَعْفِ الْأَعْدَاءِ الَّذِي لَا يُفِيدُهُ مَعَهُ كَيَدٌ وَلَا حِيلَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ تَأْيِيدُ الْحَقِّ الَّذِي يُوقِنُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَصَاحِبُ الْيَقِينِ وَالْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ الْفَاضِلَةِ تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ بِكُلِّ قُوَاهَا إِلَى إِتْمَامِ الِاسْتِعْدَادِ، وَيَكُونُ أَجْدَرَ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ فِي كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ.
أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْقِتَالَ الدِّينِيَّ أَشْرَفُ مِنَ الْقِتَالِ الْمَدَنِيِّ لِأَنَّ الْقِتَالَ الدِّينِيَّ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ يُقْصَدُ بِهِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَحُرِّيَّةَ الدِّينِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [8: 39]، أَيْ حَتَّى لَا يُفْتَنَ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ وَيُكْرَهُ عَلَى تَرْكِهِ، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [2: 256]، وَقَالَ فِي وَصْفِ مَنْ أُذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ بَعْدَ مَا بَيَّنَ إِلْجَاءَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [22: 41]، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَأَمَّا الْقِتَالُ الْمَدَنِيُّ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْمُلْكَ وَالْعَظْمَةَ، وَتَحَكُّمَ الْغَالِبِ الْقَوِيِّ فِي الْمَغْلُوبِ الضَّعِيفِ، وَإِنَّمَا يَذُمُّ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الْحَرْبَ الدِّينِيَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ فِي الْحُرُوبِ الْمَدَنِيَّةِ، وَلَهُمْ طَمَعٌ فِي بِلَادٍ لَيْسَ لَهَا مِثْلُ تِلْكَ الْقُوَّةِ، وَإِنَّمَا لَهَا بَقِيَّةٌ مِنْ قُوَّةِ الْعَقِيدَةِ، فَهُمْ يُرِيدُونَ الْقَضَاءَ عَلَى هَذِهِ الْبَقِيَّةِ وَيَتَّهِمُونَهَا بَاطِلًا بِهَذِهِ التُّهْمَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسَائِرَ مَا وَرَدَ فِي الْقِتَالِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدُلُّ- إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهَا أَعْمَالُ الْمُسْلِمِينَ- عَلَى أَنَّ الْحَرْبَ الَّتِي يُوجِبُهَا الدِّينُ وَيَشْتَرِطُ لَهَا الشُّرُوطَ وَيُحَدِّدُ لَهَا الْحُدُودَ قَدْ تَرَكَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ قُرُونٍ طَوِيلَةٍ، وَلَوْ وُجِدَتْ فِي الْأَرْضِ حُكُومَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ تُقِيمُ الْقُرْآنَ وَتُحَوِّطُ الدِّينَ وَأَهْلَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ إِعْدَادِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ قُوَّةٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْحَرْبِ حَتَّى تَكُونَ أَقْوَى دَوْلَةٍ حَرْبِيَّةٍ ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ تَتَجَنَّبُ الِاعْتِدَاءَ فَلَا تَبْدَأُ غَيْرُهَا بِقِتَالٍ بِمَحْضِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، بَلْ تَقِفُ عِنْدَ تِلْكَ الْحُدُودِ الْعَادِلَةِ فِي الْهُجُومِ وَالدِّفَاعِ، لَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْحُكُومَةُ لَاتَّخَذَهَا أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ الصَّحِيحَةِ قُدْوَةً صَالِحَةً لَهُمْ، وَلَكِنْ صَارَ بَعْضُ الْأُمَمِ الَّتِي لَا تَدِينُ بِالْقُرْآنِ أَقْرَبَ إِلَى أَحْكَامِهِ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، وَإِنَّمَا الْغَلَبَةُ وَالْعِزَّةُ لِمَنْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْفِعْلِ، عَلَى مَنْ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْهَا وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ بِالْقَوْلِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ تَذْكِيرُ صِفَةِ اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: {الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} لِتَذْكِيرِ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ كَانَ كَالْفِعْلِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ عَلَى حَسَبِ مَا عَمِلَ فِيهِ، فَالظَّالِمُ أَهْلُهَا هَاهُنَا كَقَوْلِكَ: الَّتِي يَظْلِمُ أَهْلُهَا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله: {خذوا حذركم} قال: عدتكم من السلاح.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {فانفروا ثبات} قال: عصبًا يعني سرايا متفرقين {أو انفروا جميعًا} يعني كلكم.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {فانفروا ثبات} قال: عشرة فما فوق ذلك. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عمرو بن كلثوم التغلبي وهو يقول:
فأما يوم خشيتنا عليهم ** فتصبح خلينا عصبًا ثباتا

وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس قي سورة النساء {خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا} عصبًا وفرقًا. قال: نسخها {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [الأنعام: 141] الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {ثبات} قال: فرقًا قليلًا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي {فانفروا ثبات} قال: هي العصبة وهي الثبة {أو انفروا جميعًا} مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {أو انفروا جميعًا} أي إذا نفر نبي الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يتخلف عنه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وإن منكم لمن ليبطئن} إلى قوله: {فسوف يؤتيه أجرًا عظيمًا} ما بين ذلك في المنافق.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان {وإن منكم لمن ليبطئن} قال: هو فيما بلغنا عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين {ليبطئن} قال: ليتخلفن عن الجهاد {فإن أصابتكم مصيبة} من العدو وجهد من العيش {قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا} فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة {ولئن أصابكم فضل من الله} يعني فتحًا وغنيمة وسعة في الرزق {ليقولن} المنافق وهو نادم في التخلف {كأن لم يكن بينكم وبينه مودة} يقول: كأنه ليس من أهل دينكم في المودة فهذا من التقديم {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا} يعني آخذ من الغنيمة نصيبًا وافرًا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة {وإن منكم لمن ليبطئن} عن الجهاد وعن الغزو في سبيل الله {فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا} قال: هذا قول مكذب {ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن...} الآية. قال: هذا قول حاسد.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج {وإن منكم لمن ليبطئن} قال: المنافق يبطئ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله {فإن أصابتكم مصيبة} قال: بقتل العدو من المسلمين {قال قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيدًا} قال: هذا قول الشامت {ولئن أصابكم فضل من الله} ظهر المسلمون على عدوهم وأصابوا منهم غنيمة {ليقولن...} الآية. قال: قول الحاسد.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي {الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة} يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {فليقاتل} يعني يقاتل المشركين {في سبيل الله} قال: في طاعة الله {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل} يعني يقتله العدو {أو يغلب} يعني يغلب العدو من المشركين {فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} يعني جزاء وافرًا في الجنة، فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين} قال: وسبيل المستضعفين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: المستضعفون. أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها.
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: أمر المؤمنون أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في قوله: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} قال: مكة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس. مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة {واجعل لنا من لدنك نصيرًا} قالا: حجة ثابتة.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} يقول: في سبيل الشيطان.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: إذا رأيتم الشيطان فلا تخافوه واحملوا عليه {إن كيد الشيطان كان ضعيفًا} قال مجاهد: كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة. فكنت أذكر قول ابن عباس، فأحمل عليه، فيذهب عني. اهـ.