فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد خائقين من الموت غير راغبين في سعادة الآخرة حكى عنهم في هذه الآية خصلة أخرى قبيحة أقبح من الأولى، وفي النظم وجه آخر، وهو أن هؤلاء الخائفين من الموت المتثاقلين في الجهاد من عادتهم أنهم إذا جاهدوا وقاتلوا فإن أصابوا راحة وغنيمة قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابهم مكروه قالوا: هذا من شؤم مصاحبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على غاية حمقهم وجهلهم وشدة عنادهم. اهـ.
قال الفخر:
ذكروا في الحسنة والسيئة وجوها:
الأول: قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله عنهم بعض الامساك كما جرت عادته في جميع الأمم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء والضراء} فعند هذا قال اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل، نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم، فقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار قالوا: هذا من عند الله {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} جدب وغلاء سعر قالوا هذا من شؤم محمد، وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] وعن قوم صالح: {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} [النمل: 47].
القول الثاني: المراد من الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة، ومن السيئة القتل والهزيمة.
قال القاضي: والقول الأول هو المعتبر لأن اضافة الخصب والغلاء إلى الله وكثرة النعم وقلتها إلى الله جائزة، أما إضافة النصر والهزيمة إلى الله فغير جائزة، لأن السيئة إذا كانت بمعنى الهزيمة والقتل لم يجز إضافتها إلى الله، وأقول: القول كما قال على مذهبه، أما على مذهبنا فالكل داخل في قضاء الله وقدره. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} أي إن يصب المنافقين خِصب قالوا: هذا من عند الله.
{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي جَدْب ومحَلْ قالوا: هذا من عندك، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك.
وقيل: الحسنة السلامة والأمن، والسيئة الأمراض والخوف.
وقيل: الحسنة الغنى، والسيئة الفقر.
وقيل: الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدّة والقتل يوم أُحد.
وقيل: الحسنة السراء، والسيئة الضراء. اهـ.

.قال في البحر المديد:

{وإن تصبهم سيئة} كقحط وجوع وموت وقتل، قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: {هذه من عندك} بشؤم قدومك أنت وأصحابك، كما قالت اليهود لعنهم الله: منذ دخل محمدٌ المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها.
قلت: بل زكت ثمارها، ورخصت أسعارها، وأشرقت أنوارها، ولاحت أسرارها، وقد دعا صلى الله عليه وسلم للمدنية بمثل ما دعا إبراهيمُ لمكة، وأضعاف ذلك، فما زالت الخيرات تترادف إليها حسًا ومعنى إلى يوم القيامة، وهذه المقالة قد صدرت ممن كان قبلهم؛ فقد قالوا لسيدنا صالح عليه السلام: {قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} [النَّمل: 47]، وقال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيَّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131]، {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قّدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فُصّلَت: 43]. قال تعالى مكذبًا لهم: {قل كلٌّ من عند الله}. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن السيئة تقع على البلية والمعصية، والحسنة على النعمة والطاعة قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] وقال: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114].
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يفيد العموم في كل الحسنات، وكذلك قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} يفيد العموم في كل السيئات، ثم قال بعد ذلك: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله، ولما ثبت بما ذكرنا أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة كانت الآية دالة على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله، وهو المطلوب.
فإن قيل: المراد هاهنا بالحسنة والسيئة ليس هو الطاعة والمعصية، ويدل عليه وجوه: الأول: اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب فكانت مختصة بهما.
الثاني: أن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها أصابتني، إنما يقال أصبتها، وليس في كلام العرب أصابت فلانا حسنة بمعنى عمل خيرا، أو أصابته سيئة بمعنى عمل معصية، فعلى هذا لو كان المراد ما ذكرتم لقال ان أصبتم حسنة.
الثالث: لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطاعة وعلى المنفعة، وههنا أجمع المفسرون على أن المنفعة مرادة، فيمتنع كون الطاعة مرادة، ضرورة أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا.
فالجواب عن الأول: أنكم تسلمون أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ.
والجواب عن الثاني: أنه يصح أن يقال: أصابني توفيق من الله وعون من الله، وأصابه خذلان من الله، ويكون مراده من ذلك التوفيق والعون تلك الطاعة، ومن الخذلان تلك المعصية.
والجواب عن الثالث: أن كل ما كان منتفعا به فهو حسنة، فإن كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة، وإن كان منتفعا به في الدنيا فهو السعادة الحاضرة، فاسم الحسنة بالنسبة إلى هذين القسمين متواطئ الاشتراك، فزال السؤال.
فثبت أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه، ومما يدل على أن المراد ليس إلا ذاك ما ثبت في بدائه العقول أن كل موجود فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى، والممكن لذاته كل ما سواه، فالممكن لذاته إن استغنى عن المؤثر فسد الاستدلال بجواز العالم وحدوثه على وجود الصانع، وحينئذ يلزم نفي الصانع، وإن كان الممكن لذاته محتاجا إلى المؤثر، فإذا كان كل ما سوى الله ممكنا كان كل ما سوى الله مستندًا إلى الله، وهذا الحكم لا يختلف بأن يكون ذلك الممكن ملكا أو جمادا أو فعلا للحيوان أو صفة للنبات، فإن الحكم لاستناد الممكن لذاته إلى الواجب لذاته لما بينا من كونه ممكنا كان الكل فيه على السوية، وهذا برهان أوضح وأبين من قرص الشمس على أن الحق ما ذكره تعالى، وهو قوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله}. اهـ.
{قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله}

.قال القرطبي:

{قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} أي الشدة والرخاء والظَّفَر والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقَدَره. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل واعتقادهم الفاسد ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقًا وإيجادًا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلًا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة كما سيأتي بيانه.
وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ردًا على أسلاف اليهود من قوله تعالى: {إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} [الأعراف: 131] أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به قاله شيخ الإسلام ومنه يعلم اندفاع ما قيل: إن القوم لم يعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام فكيف يكون هذا ردًا عليهم، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} بل هو إلى قوله سبحانه: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} [النساء: 79]. اهـ.

.قال ابن كثير:

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم ارتفعت أصواتكما؟» فقال رجل: يا رسول الله، قال أبو بكر: الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما قلت يا عمر؟» قال: قلت: الحسنات والسيئات من الله. تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال: نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض. فتحاكما إلى إسرافيل، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله». ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال «احفظا قضائي بينكما، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس».
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة: هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة. اهـ.

.قال في روح البيان:

اعلم أن للأعمال أربع مراتب.
منها مرتبتان لله تعالى وليس للعبد فيهما مدخل وهما التقدير والخلق.
ومنها مرتبتان للعبد هما الكسب والفعل فإن الله تعالى منزه عن الكسب وفعل السيئة وإنهما يتعلقان بالعبد ولكن العبد وكسبه مخلوق خلقه الله تعالى كما قال: {والله خلقكم وما تعملون} فهذا تحقيق قوله: {قل كل من عند الله} أي خلقا وتقديرا لا كسبا وفعلا فافهم واعتقد فإنه مذهب أهل الحق. اهـ.

.قال الفخر:

إنه لما كان البرهان الدال على أن كل ما سوى الله مستندًا إلى الله على الوجه الذي لخصناه في غاية الظهور والجلاء، قال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} وهذا يجري مجرى التعجب من عدم وقوفهم على صحة هذا الكلام مع ظهوره.
قالت المعتزلة: بل هذه الآية دالة على صحة قولنا، لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله تعالى لم يبق هذا التعجب معنى ألبتة، لأن السبب في عدم حصول هذه المعرفة هو أنه تعالى ما خلقها وما أوجدها، وذلك يبطل هذا التعجب، فحصول هذا التعجب يدل على أنه إنما تحصل بإيجاد العبد لا بإيجاد الله تعالى.
واعلم أن هذا الكلام ليس إلا التمسك بطريقة المدح والذم، وقد ذكرنا أنها معارضة بالعلم. اهـ.