فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ووُجِّه الخطاب للرسول لأنّه المبلّغ عن الله، ولأنّ هذا الجوابَ لإبطال ما نَسبه الضالّون إليه من كونه مصدرَ السيّئات التي تصيبهم.
واعلَمْ أنّ للحوادث كلّها مؤثّرًا.
وسببًا مقارنًا، وأدلّة تنبئ عنها وعن عواقبها، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلّها، سواء كانت غير اختيارية، أم اختيارية كأفعال العباد.
فالله قدّر المنافع والمضارّ بعلمه وقدَرِه وخلق مؤثّراتها وأسبابَها، فهذا الجُزء لله وحده لقوله: {قلْ كلّ من عند الله}.
والله أقام بالألطاف الموجودات، فأوجدها ويسّر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات، وحفّها كلّها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة، لولاها لما بقيت الأنواع، وساق إليها أصول الملاءمة، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب، فالله لطيف بعباده.
فهذا الجزءُ لله وحده لقوله: {قُل كلّ من عند الله}.
والله نصب الأدلّة للناس على المنافع والمضارّ التي تكتسب بمختلف الأدلّة الضرورية، والعقلية، والعاديةِ، والشرعية، وعَلَّم طرائقَ الوصول إليها، وطرائقَ الحيدة عنها، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يُمانعها، وبعث الرسل وشَرع الشرائع فعلّمنا بذلك كلّه أحوال الأشياء ومنافعها ومضارّها، وعواقب ذلك الظاهرةَ والخفيّةَ، في الدنيا والآخرة، فأكمل المنّة، وأقام الحُجّة، وقطع المعذرة، فهدَى بذلك وحذّر إذ خلق العقول ووسائل المعارف، ونمَّاها بالتفكيرات والإلهامات، وخلق البواعث على التعليم والتعلّم، فهذا الجزء أيضًا لله وحده.
وأمّا الأسباب المقارنةُ للحوادث الحسنةِ والسيّئةِ والجانيةُ لِجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع، والجهللِ بتلك الوسائل، والإغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشرّ، فذلك بمقدار ما يحصّله الإنسان من وسائل الرشاد، وباختياره الصالحَ لاجتناءِ الخير، ومقدارًا ضدّ ذلك: من غلبة الجهل، أو غلبة الهوى، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصّر، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدّمناها، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظًّا فيه، ملَّكَهُ إيّاه، فإذا جاءت الحسنةُ أحدًا فإنّ مجيئها إيّاه بِخلْق الله تعالى لا محالة ممّا لا صنعة للعبد فيه، أو بما أرشد الله به العبد حتّى علم طريق اجتناء الحسنة، أي الشيءِ الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى، فكانت المنّة فيها لله وحده، إذ لولا لطفه وإرشاده وهديه، لكان الإنسان في حيَرة، فصحّ أنّ الحسنة من الله، لأنّ أعظم الأسباب أو كلّها منه.
أمّا السيّئة فإنّها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى، ولكن إصابة معظمها الإنسانَ يأتي من جهله، أو تفريطه، أو سوء نظره في العواقب، أو تغليب هواه على رشده، وهنالك سيّئات الإنسان من غير تسبّبه مثل ما أصاب الأمم من خسْففٍ وأوبئة، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيّئات، على أنّ بعضًا منه كان جزاء على سوء فعل، فلا جرَم كان الحظّ الأعظم في إصابة السيّئة الإنسان لتسبّبه مبَاشرة أو بواسطة، فصحّ أن يسند تسبّبها إليه، لأنّ الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقلّ.
وقد فسَّر هذا المعنى ما ورد في الصحيح، ففي حديث الترمذي «لا يصيب عبدًا نكبةٌ فما فوقها أو ما دونها إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر».
وشملت الحسنة والسيِّئة ما كان من الأعيان، كالمطر والصواعق، والثمرة والجراد، وما كان من الأعراض كالصحّة، وهبوب الصّبا، والربْح في التجارة.
وأضدادها كالمرض، والسَّموم المهلكة، والخسارة.
وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره، والمعاصي الضارّة به وبالناس، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضِلّ على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إليّ ربي} [سبأ: 50] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه.
ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبّة الله على قلّة فهمهم للمعاني الخفيّة بقوله: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}، فقوله: {لا يكادون} يجوز أن يكون جاريًا على نظائره من اعتبار القلب، أي يكادون لا يفقهون، كما تقدّم عند قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] فيكون فيه استبقاءٌ عليهم في المذمّة.
ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب، أي لا يقارِبون فهم الحديث الذي لا يعقله إلاّ الفطناء، فيكون أشدّ في المذمّة.
والفقه فهم ما يَحتاج إلى إعمال فكر.
قال الراغب: هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد، وهو أخص من العلم. وعرفه غيره بأنّه إدراك الأشياء الخفيّة. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}
والحق هنا يتعرض لقضية الموت مع المكان فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} فالعقل البشري الذي يتوهم أن بإمكانه الاحتياط من الموت- مكانًا عليه أن يعي جيدًا أنه لا يستطيع ذلك، فوجود الشخص عند ظرفٍ ما لا يدفع ولا يمنع عنه الموت، فالعندية سواء في معسكر الكفر أو في معسكر الإيمان لن تمنع حدوث الموت.
والعندية- كما نعلم- تعطي ظرف المكان. فلطافة تغلغل الموت تخترق أي مكان وزمان ما دام الحق قد قضي به. وأعداء الإنسان في عافيته وفي حياته كثيرون، لكن إن نظرنا إليها في العنف نجدها تتناسب مع اللطف. فكلما لطف عدو الإنسان ودق؛ كان عنيفا، وكلما كان ضخمًا كان أقل عنفا. فالذي له ضخامة قد يهول الإنسان ويفزعه، ولكن بإمكان الإنسان أن يدفعه. لكن متى يكون العدو صعبًا؟ يكون العدو صعبًا كلما صغر ولطف ولا يدخل تحت الإدراك. فيتسلل إلى الإنسان.
ومثال ذلك: هب أن واحدًا يبني بيتًا في خلاء ويمر عليه إنسان ليبارك له وضع أساس البيت فيقول لصاحب البيت: إنك لم تحتط لمثل هذا المكان، فهو يمتلئ بالذئاب والثعالب ويجب أن تضع حديدًا على النوافذ التي في الدور الأول، وذلك حتى لا تدخل إليك هذه الحيوانات المفترسة.
ويضع صاحب البيت حديدًا على نوافذ الدور الأول. ويجيء واحد ثان ويقول له: لقد فاتك أن هذا المكان به ثعابين كثيرة وعليك أن تضيق فتحات الحديد، ويفعل ذلك صاحب البيت ليرد الثعابين. ويجيء ثالث لزيارة صاحب البيت فيقول: إنني أتعجب منك كيف تحترس من الذئاب والثعابين ولا تحتاط من ذباب هذه المنطقة؟. إنه ذباب سام. وهنا يضع صاحب البيت سلكًا على النوافذ. ويجيء واحد رابعٍ ليقول لصاحب البيت؛ في هذه المنطقة حشرات أقل حجمًا من الذباب وأكثر عنفًا من البعوض ويمكنها أن تتسلل من فتحات السلك الذي تضعه على نوافذك، فيخلع صاحب البيت السلك المعلق على نوافذ البيت ويقوم بتركيب سلك آخر فتحاته أكثر ضيقًا بحيث لا تمر منه هذه الحشرات. إذن فعدوك كلما لطف ودق عن الإدراك كان عنيفًا.
ولذلك فأخطر المكيروبات التي تتسلل إلى الإنسان، ولا يدري الإنسان كيف دخلت إلى جسده ولا كيف طرقت جلده، ولا يعرف إصابته بها إلا بعد أن تمر مدة التفريخ الخاصة بها وتظهر بجسده آلامها ومتاعبها. إنها تدخل جسم الإنسان دون أن يدري، ولا يعرف لذلك زمانًا أو مكانًا.
ويلفتنا سبحانه إلى أن الشيء عندنا كلما لطف ازداد عنفًا، ولا تمنعه المداخل. فما بالكم بالموت وهو ألطف من كل هذا، ولا أحد يستطيع أن يحتاط منه أبدًا.
وما مقابل الموت؟. إنه الحياة حيث توجد الروح في الجسد. وما كنه الروح؟ لا يعرف أحد كنه الروح على الرغم من أنه يحملها في نفسه، ولا أحد يعرف أين تكون الروح أو ما شكلها، ولا أحد يعرف من رآها أو سمعها أو لمسها.
وعندما يقبضها الله فإن الحياة تنتهي. والحق هو الذي جعل للحيّ روحًا، وعندما ينفخها فيه تأتي الحياة.
إن الحق سبحانه يلفتنا وينبهنا إلى ذلك فيترك في بعض ماديتنا أشياء لا يستطيع العلماء بالطب ولا المجاهر أن يعرفوا كنهها وحقيقتها، فنحن لا نعرف- مثلًا- الفيروس المسبب لبعض الأمراض.
فإذا كان الله قد جعل للإنسان روحًا يهبه بها الحياة، فلماذالآنتصور أن للموت حقيقة، فإذا ما تسلل للإنسان فإنه يسلب الروح منه، وبذلك نستطيع أن نفهم قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الملك:
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1- 2].
إذن فالموت ليس عملية سلبية كما يتوهم بعض الناس، بل عملية إيجابية، وهو مخلوق بسرّ دقيق للغاية يناسب دقة الصانع. ووصف الحق أمر الموت والحياة في سورة الملك وقدم لنا الموت على الحياة؛ مع أننا في ظاهر الأمر نرى أن الحياة تأتي أولًا ثم يأتي الموت. لا، إن الموت يكون أولًا، ومن بعده تكون الحياة. فالحياة تعطي للإنسان ذاتية ليستقبل بها الأسباب المخلوقة، فيحرث الأرض أو يتاجر في الأشياء أو يصنع ما يلائم حياته ويمتع به السمع والبصر، فيظن أن الحياة هي المخلوقة أولًا.
ينبهنا ويوضح لنا الحق: لا تستقبل الحياة إلا إذا استقبلت قبلها ما يناقض الحياة، فيقول لنا عن نفسه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وهذا ما يسهل علينا فهم الحديث القدسي الشريف الذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ويأتي الحق سبحانه بالموت في صورة كبش ويذبحه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة فيطلعون خائفين وَجِلِين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم رَبَّنَا، هذا الموتُ، ثم يُقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين، أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيُقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم هذا الموت، فيأمر به فيُذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا».
وتجسيد الموت في صورة كبش معناه أن للموت كينونة. ويعلمنا الله أنه يقضي على الموت، فنحيا في خلود بلا موت. وينبه الناس الذين كفروا وظنوا أن الذين قتلوا في سبيل الله لو كانوا عندهم لما ماتوا.
نقول لهم: العندية عندكم لا تمنع الموت. ولو كان من دنا أجله وحان حَيْنه يسكن في بروج مشيدة لأدركه الموت.
أن الأداء القرآني يتنوع؛ فهناك من الأداء ما نفهمه من الألفاظ، وهناك ما نفهمه من الهَدْى الأسلوبي للقرآن؛ لأنه خطاب الرب. فالبشر فيما بينهم يتخاطبون بملكات لغوية وملكات عقلية، لكن عندما يخاطب الحقُّ الخلقَ فسبحانه يخاطب كل ملكات النفس. ولذلك نجد طفلًا صغيرًا يحفظ القرآن ويمتلئ بالسرور، فيسأله واحد من الكبار: ما الذي يسرك في حفظ القرآن؟. فيجيب الصغير: إنني أحس بالانسجام وكفى. هو لا يعرف لماذا يحس بالانسجام من سماع القرآن أو حفظه، فالمتحدث هو الله، وسبحانه بقدرته وجمال كماله يخاطب كل الملكات النفسية.
وسبحانه وتعالى يقول: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} أي أينما توجدوا يدرككم الموت. وكلمة {يدرككم} دليل على أن الإنسان عندما تدب فيه الروح ينطلق الموت مع الروح، إلى أن يدركها في الزمن الذي قدره الله. وكلمة يدرك توضح لنا أن الموت يلاحق الروح حتى إذا أدركها سلبها وكما قال الأثر الصالح عن ملاحقة الموت للحياة: حتى إذا أدركها جرت، فلا أحد منكم إلا هو مُدْرَك، ولذلك يقول أهل المعرفة والإشراق: الموت سهم أرسل إليك وإنما عمرك هو بقدر سفره إليك.
وهكذا نعرف أن قوله الحق: {يدرككم} تدل على أن الموت يلاحق حياة الإنسان ويجري وراء روحه حتى يدركها.