فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونحن نقول: هذه الآية دالة على أن الإيمان حصل بتخليق الله تعالى، والقوم لا يقولون به فصاروا محجوجين بالآية.
إنما قلنا: إن الآية دالة على ذلك لأن الإيمان حسنة، وكل حسنة فمن الله.
إنما قلنا: إن الإيمان حسنة، لأن الحسنة هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح، ولا شك أن الإيمان كذلك، فوجب أن يكون حسنة لأنهم اتفقوا على أن قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مّمَّن دَعَا إِلَى الله} [فصلت: 33] المراد به كلمة الشهادة، وقيل في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 90] قيل: هو لا إله إلا الله، فثبت أن الإيمان حسنة، وإنما قلنا إن كل حسنة من الله لقوله تعالى: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} وقوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ} يفيد العموم في جميع الحسنات، ثم حكم على كلها بأنها من الله، فيلزم من هاتين المقدمتين، أعني أن الإيمان حسنة، وكل حسنة من الله، القطع بأن الإيمان من الله.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الإيمان من الله هو أن الله أقدره عليه وهداه إلى معرفة حسنة، وإلى معرفة قبح ضده الذي هو الكفر؟
قلنا: جميع الشرائع مشتركة بالنسبة إلى الإيمان والكفر عندكم، ثم إن العبد باختيار نفسه أوجد الإيمان، ولا مدخل لقدرة الله وإعانته في نفس الإيمان، فكان الإيمان منقطعا عن الله في كل الوجوه، فكان هذا مناقضا لقوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} فثبت بدلالة هذه الآية أن الإيمان من الله، والخصوم لا يقولون به، فصاروا محجوجين في هذه المسألة، ثم إذا أردنا أن نبين أن الكفر أيضا من الله.
قلنا فيه وجوه:
الأول: أن كل من قال: الإيمان من الله قال: الكفر من الله، فالقول بأن أحدهما من الله دون الآخر مخالف لإجماع الأمة.
الثاني: أن العبد لو قدر على تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لإيجاد الكفر إما أن تكون صالحة لإيجاد الإيمان أو لا تكون، فإن كانت صالحة لإيجاد الإيمان فحينئذ يعود القول في أن إيمان العبد منه، وإن لم تكن صالحة لإيجاد الإيمان فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده، وذلك عندهم محال، ولأن على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور، وذلك يمنع من كونه قادرا عليه، فثبت أنه لما لم يكن الإيمان منه وجب أن لا يكون الكفر منه.
الثالث: أنه لما لم يكن العبد موجدا للإيمان فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى، وذلك لأن المستقل بإيجاد الشيء هو الذي يمكنه تحصيل مراده، ولا نرى في الدنيا عاقلا إلا ويريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الإيمان والمعرفة والحق، وإن أحدا من العقلاء لا يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الجهل والضلال والاعتقاد الخطأ، فإذا كان العبد موجدًا لأفعال نفسه وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحق المطابق، وجب أن لا يحصل في قلبه إلا الحق، فإذا كان الإيمان الذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده لم يقطع بايجاده، فبأن يكون الجهل الذي ما أراده وما قصد تحصيله وكان في غاية النفرة عنه والفرار منه غير واقع بايجاده وتكوينه كان ذلك أولى.
والحاصل أن الشبهة في أن الإيمان واقع بقدرة العبد أشد من الشبهة في وقوع الكفر بقدرته، فلما بين تعالى في الإيمان أنه من الله ترك ذكر الكفر للوجه الذي ذكرناه، فهذا جملة الكلام في بيان دلالة هذه الآية على مذهب إمامنا.
أما ما احتج الجبائي به على مذهبه من قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}.
فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أنه تعالى قال حكاية عن ابراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، فلم يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للمرض والشفاء، بل إنما فصل بينهما رعاية الأدب، فكذا ههنا، فإنه يقال: يا مدبر السموات والأرض، ولا يقال يا مدبر القمل والصبيان والخنافس، فكذا ههنا.
الثاني: أكثر المفسرين قالوا في تفسير قول إبراهيم: {هذا رَبّى} أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الإنكار، كأنه قال: أهذا ربي، فكذا ههنا، كأنه قيل: الإيمان الذي وقع على وفق قصده قد بينا أنه ليس واقعا منه، بل من الله، فهذا الكفر ما قصده وما أراده وما رضي به ألبتة، أفيدخل في العقل أن يقال: إنه وقع به؟ فانا بينا أن الحسنة في هذه الآية يدخل فيها الإيمان، والسيئة يدخل فيها الكفر، أما قراءة من قرأ {فَمَنْ نَفْسِك} فنقول: إن صح أنه قرأ بهذه الآية واحد من الصحابة والتابعين فلا طعن فيه، وإن لم يصح ذلك فالمراد أن من حمل الآية على أنها وردت على سبيل الاستفهام على وجه الإنكار ذكر في تفسير الاستفهام على سبيل الإنكار هذا الكلام، لأنه لما أضاف السيئة إليهم في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار كان المراد أنها غير مضافة إليهم، فذكر هذا القائل قوله: {فَمَنْ نَفْسِك} لا على اعتقاد أنه من القرآن، بل لأجل أنه يجري مجرى التفسير لقولنا: إنه استفهام على سبيل الإنكار، ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} أي ما أصابك يا محمد من خِصب ورخاءٍ وصحةٍ وسلامةٍ فبفضل الله عليك وإحسانه إليك، وما أصابك من جَدْب وشدّة فبذنب أتيته عوقبت عليه.
والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أُمّته.
أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم؛ أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم.
قاله الحسن والسَّدِّي وغيرهما؛ كما قال تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1].
وقد قيل: الخطاب للإنسان والمراد به الجنس؛ كما قال تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1] أي إن الناس لفي خسر، ألا تراه استثنى منهم فقال: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة.
وعلى هذا التأويل يكون قوله: {مَا أَصَابَكَ} استئنافًا.
وقيل: في الكلام حذف تقديره يقولون؛ وعليه يكون الكلام متصلًا؛ والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله.
وقيل: إن ألف الاستفهام مضمرة؛ والمعنى أفمن نفسك؟ ومثله قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] والمعنى أو تلك نعمة؟ وكذا قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغًا قَالَ هذا رَبِّي} [الأنعام: 77] أي أهذا ربي؟ قال أبو خِراشٍ الهُذلِيّ:
رَمَوْني وقالوا يا خُوَيلد لم تُرَع ** فقلت وأنكرتُ الوجوهَ هُمُ هُمُ

أراد أهم فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي.
قال الأخفش ما بمعنى الذي.
وقيل: هو شرط.
قال النحاس: والصواب قول الأخفش؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة.
وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأُبَيّ وابن مسعود {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَنَا كتبتها عَلَيْكَ} فهذه قراءة على التفسير، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديثُ بذلك عن ابن مسعود وأُبيٍّ منقطع؛ لأن مجاهدًا لم ير عبد الله ولا أُبَيًّا.
وعلى قول من قال: الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما أصابهم يوم أُحد؛ أنهم عوقبوا عند خلاف الرُّماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهرهُ ولا يبرحوا من مكانهم، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظَهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرُّماة فأخذ سَريّة من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّماة إلا صاحبُ الراية، حفظ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استُشهد مكانه؛ على ما تقدّم في آل عمران بيانه.
فأنزل الله تعالى نظيرَ هذه الآية وهو قوله تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} يعني يوم أُحُد {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} يعني يوم بدر {قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
ولا يجوز أن تكون الحسنة هاهنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية؛ إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدّمنا، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] وأما في هذه الآية فهي كما تقدّم شَرْحُنا له من الخِصب والجَدْب والرخاء والشدّة على نحو ما جاء في آية [الأعراف] وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130].
{بالسنين} بالجدب سنةً بعد سَنَة؛ حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم.
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل اتباعنا لك وطاعتنا إياك؛ فردّ الله عليهم بقوله: {ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} [الأعراف: 131] يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضرّ من الله تعالى لا صُنع فيه لمخلوق؛ فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} كما قال: {ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} [الأعراف: 131] وكما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله} [آل عمران: 166] أي بقضاء الله وقَدَره وعلمه، وآياتُ الكتاب يشهد بعضها لبعض.
قال علماؤنا: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته؛ كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11].
مسألة:
وقد تجاذب بعض جهال أهلِ السنة هذه الآية واحتجّ بها؛ كما تجاذبها القَدرية واحتجوا بها، ووجه احتجاجهم بها أن القَدرية يقولون: إن الحسنة هاهنا الطاعة، والسيئة المعصية؛ قالوا: وقد نسب المعصية في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} إلى الإنسان دون الله تعالى؛ فهذا وجه تعلقهم بها.
ووجه تعلّق الآخرين منها قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} قالوا: فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه.
وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعًا؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية، وليست كذلك لما بيناه. والله أعلم.
والقدرية إن قالوا: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أي من طاعة {فَمِنَ الله} فليس هذا اعتقادَهم؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء.
وأيضًا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعًا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره.
نصّ على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيبُ بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغَلاصم في إفحام المخاصم. اهـ.