فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْمُذْنِبُونَ- الَّذِينَ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ فَخَفَّتْ مَوَازِينُهُمْ فَاسْتَحَقُّوا النَّارَ-: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ النَّارَ تُصِيبُهُ بِذُنُوبِهِ. وَيُمِيتُهُ اللَّهُ فِي النَّارِ إمَاتَةً. فَتُحَرِّقُهُ النَّارُ إلَّا مَوْضِعَ السُّجُودِ. ثُمَّ يُخْرِجُهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ. وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ. فَبَيَّنَ أَنَّ مَدَارَ الْأَمْرِ كُلِّهِ: عَلَى تَحْقِيقِ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا عَلَى الشِّرْكِ بِالتَّعَلُّقِ بِالْمَوْتَى وَعِبَادَتِهِمْ كَمَا ظَنَّهُ الْجَاهِلِيُّونَ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَيَقُولُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ- وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ-: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت. وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ» كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ- قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ- وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ- لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت. وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ». وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ- قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْوَسَخِ». وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَقَالَ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا». وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. لِأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَدْ يُرَادُ بِهِمَا: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ مُطْلَقًا. فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْهَوَاءُ وَغَيْرُهُ. فَإِنَّهُ عَالٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهُ وَسَافِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهُ. فَقَدْ يَجْعَلُ مِنْ السَّمَاءِ. كَمَا يَجْعَلُ السَّحَابَ سَمَاءً وَالسَّقْفَ سَمَاءً. وَكَذَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
وَلَمْ يَقُلْ وَمَا بَيْنَهُمَا كَمَا يقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}. فَتَارَةً يَذْكُرُ قَوْلَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا فِيمَا خَلَقَهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وَتَارَةً لَا يَذْكُرُهُ. وَهُوَ مُرَادٌ. فَإِنْ ذَكَرَهُ كَانَ إيضَاحًا وَبَيَانًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ دَخَلَ فِي لَفْظِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً يقول: {مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ} وَلَا يقول: {وَمَا بَيْنَهُمَا} وَتَارَةً يقول: {وَمَا بَيْنَهُمَا} وَفِيهَا كُلُّهَا «وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ «أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ» إلَى آخِرِهِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى الدُّعَاءُ بِالطَّهَارَةِ مِنْ الذُّنُوبِ. فَفِي هَذَا الْحَمْدِ رَأْسُ الشُّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ. فَإِنَّ رَبَّنَا غَفُورٌ شَكُورٌ. فَالْحَمْدُ بِإِزَاءِ النِّعْمَةِ. وَالِاسْتِغْفَارُ: بِإِزَاءِ الذُّنُوبِ. وَذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}. فَفِي {سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي} وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ» كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أُمِّ الْقُرْآنِ. فَأَوَّلُهَا تَحْمِيدٌ وَأَوْسَطُهَا: تَوْحِيدٌ وَآخِرُهَا: دُعَاءٌ. وَكَمَا فِي قوله: {هُوَ الْحَيُّ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وَفِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ «أَفْضَلُ مَا قُلْت. أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. مَنْ قَالَهَا: كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ حَسَنَةٍ. وَحَطَّ عَنْهُ أَلْفَ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَهَا أَوْ زَادَ عَلَيْهِ. وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ». وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: وَفِيهَا: التَّوْحِيدُ وَالتَّحْمِيدُ. فَقَوْلُهُ «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» تَوْحِيدٌ. وَقَوْلُهُ «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ» تَحْمِيدٌ. وَفِيهَا مَعَانٍ أُخْرَى شَرِيفَةٌ. وَقَدْ جَاءَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ حَدِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك» فِيهِ: التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ وَالِاسْتِغْفَارُ. مَنْ قَالَهَا فِي مَجْلِسٍ إنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغَطٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ ذِكْرٍ: كَانَتْ كَالطَّابَعِ لَهُ. وَفِي حَدِيثٍ أَيْضًا إنَّ هَذَا يُقَالُ عَقِبَ الْوُضُوءِ. فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ. يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ يَقُولُ «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمَ مِنْ رَبِّهِ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ «اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. إنَّك خَيْرُ الْغَافِرِينَ. اللَّهُمَّ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَارْحَمْنِي. فَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ. سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك. رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ. إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
فَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ مِنْ جِنْسِ خَاتِمَةِ الْوُضُوءِ. وَخَاتِمَةُ الْوُضُوءِ: فِيهَا التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ وَالِاسْتِغْفَارُ. فَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ لِلَّهِ. فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا هُوَ. وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ ذُنُوبِ النَّفْسِ الَّتِي مِنْهَا تَأْتِي السَّيِّئَاتُ. وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَفِي قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} وَفِي قوله: {قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرِهِ «يَقُولُ الشَّيْطَانُ: أَهَلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَبِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ. فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ. لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا». ولَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تَقْتَضِي الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ. وَالْإِخْلَاصُ يَقْتَضِي الشُّكْرَ. فَهِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ. وَهِيَ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ- شُعْبَةً. أَعْلَاهَا: قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَأَدْنَاهَا: إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ». فلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ هِيَ قُطْبُ رَحَى الْإِيمَانِ وَإِلَيْهَا يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ. وَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ: مَجْمُوعَةٌ فِي قَوْله تعالى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَهِيَ مَعْنَى «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» و«لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ» هِيَ مِنْ مَعْنَى «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» و«الْحَمْدُ لِلَّهِ» فِي مَعْنَاهَا و«سُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» مِنْ مَعْنَاهَا. لَكِنْ فِيهَا تَفْصِيلٌ بَعْدَ إجْمَالٍ.
فصل:
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ مَعْنَى قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} أَيْ أَفَمِنْ نَفْسك؟ وَأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ نَفْسِك. وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَايِنُ مَعْنَى الْآيَةِ. فَإِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. أَيْ بِذُنُوبِهِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَيْسَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ: أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك. فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ: أَفَمِنْ نَفْسِك؟ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ثُمَّ قَالُوا: تُحِبُّهَا؟ قُلْت: بَهْرًا ** عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ

قُلْت: وَإِضْمَارُ الِاسْتِفْهَامِ- إذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ- لَا يَقْتَضِي جَوَازَ إضْمَارِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَخْصُوصِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ. فَإِنَّ هَذَا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ. وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ يُقَدِّرُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِأَنْ يُقَدِّرَ فِي خَبَرِهِ اسْتِفْهَامًا. وَيَجْعَلَهُ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ. وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ نَظِيرُ مَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «هَذَا رَبِّي» أَهَذَا رَبِّي؟ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ. لِأَنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يُضْمَرُ إذَا كَانَ فَارِقًا بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالِاسْتِخْبَارِ. وَهَؤُلَاءِ اسْتَشْهَدُوا بِقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ. لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ ثَانِيَةً. بَلْ ذِكْرُهُ يُفْسِدُ الْكَلَامَ. وَمِثْلُهُ قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} وَقوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} وَقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ. وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ:
لَعُمْرَك لَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْت دَارِيًا ** بِسَبْعِ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ؟

وَقَوْلِهِ:
كَذَبَتْك عَيْنُك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطِ ** غَلَسَ الظَّلَامِ مِنْ الرَّبَابِ خَيَالَا؟

تَقْدِيرُهُ: أَكَذَبَتْك عَيْنُك؟. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا بَعْدُ «أَمْ بِثَمَانٍ» و«أَمْ رَأَيْت» يَدُلُّ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذُوفَةِ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنْ كَانَتْ «أَمْ» هِيَ الْمُتَّصِلَةُ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُنْفَصِلَةُ. فَالْخَبَرُ عَلَى بَابِهِ. وَهَؤُلَاءِ مَقْصُودُهُمْ: أَنَّ النَّفْسَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي وُجُودِ السَّيِّئَاتِ.
وَلَيْسَتْ سَبَبًا فِيهَا. بَلْ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَعَاصِيَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ لِاقْتِرَانِهَا بِهَا. لَا أَنَّهَا سَبَبٌ لَهَا. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِلْعَقْلِ. وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ أَحَدًا وَلَمْ يُعَذِّبْهُ إلَّا بِذَنْبِ. فَقَالَ هُنَا {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وَقَالَ لَهُمْ فِي شَأْنِ أُحُدٍ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقَالَ تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى أَيْضًا: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} وَقَالَ تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} وَقَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} وَقَالَ تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَالَ تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ ضَرَبَ بِهِمْ الْمَثَلَ لَمَّا أَهْلَكَهَا بِذَلِكَ الْعَذَابِ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. وقال تَعَالَى عَنْ أَهْلِ سَبَأٍ: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلَّا الْكَفُورَ} وَقَالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وَقَالَ تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ «يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا: فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ: فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ». وَفِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ «أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» وَقَالَ تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ وَعَنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
وقد تضمنت هذه الآيات من البيان والبديع: الاستعارة في: يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وفي: فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا لما يناله من النعيم في الآخرة، وفي: سبيل الله، وفي: سبيل الطاغوت، استعار الطريق للاتباع وللمخالفة وفي: كفوا أيديكم أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال.
والاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في: وما لكم لا تقاتلون.
والاستفهام الذي معناه التعجب في: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا.
والتجوز بفي التي للوعاء عن دخولهم في: الجهاد.
والالتفات في: فسوف نؤتيه في قراءة النون.
والتكرار في: سبيل الله، وفي: واجعل لنا من لدنك، وفي: يقاتلون، وفي: الشيطان، وفي: وإن تصبهم، وفي: ما أصابك وفي: اسم الله.
والطباق اللفظي في: الذين آمنوا والذين كفروا.
والمعنوي في: سبيل الله طاعة وفي سبيل الطاغوت معصية.
والاختصاص في: إن كيد الشيطان كان ضعيفًا، وفي: والآخرة خير لمن اتقى.
والتجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في: يدرككم الموت، وفي: إن تصبهم، وفي: ما أصابك.
والتشبيه في: كخشية.
وإيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في: خير لمن اتقى.
والتجنيس المغاير في: يخشون وكخشية.
والحذف في مواضع. اهـ.