فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {فأعرض عنهم} أمر بعدم الاكتراث بهم، وأنّهم لا يُخشى خلافهم، وأنّه يتوكلّ على الله {وكفى بالله وكيلًا} أي مُتوكَّلًا عليه، ولا يَتوكّل على طاعة هؤلاء ولا يحزنه خلافهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

أمر الله تعالى بالتوكل عليه والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر، و«الوكيل» القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها، وليس ما غلب الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب، وهي لفظة رفيعة وضعها الاستعمال العامي، كالعريف والنقيب وغيره. اهـ.

.قال النيسابوري في الآيات السابقة:

{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}
قوله عز من قائل: {ما أصابك من حسنة فمن الله} قال أبو علي الجبائي: السيئة تارة تقع على البلية والمحنة وتارة تقع على الذنب والمعصية. ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه على الآية الأولى بقوله: {قل كل من عند الله} وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله: {وما أصابك} أي يا إنسان خطابًا عامًا {من سيئة فمن نفسك} فلابد من التوفيق وإزالة التناقض، وما ذاك إلاّ بأن يجعل هناك بمعنى البلية وههنا بمعنى المعصية. قال: وإنما فصل بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة مع أن كليهما من فعل العبد عندنا، لأنّ الحسنة إنما تصل إلى العبد بتسهيل لله وألطافه فصحت إضافتها إليه، وأما السيئة فلا يصح إضافتها إلى الله تعالى لا بأنه فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها. وقال في الكشاف: {وما أصابك من حسنة} أي من نعمة وإحسان {فمن الله} تفضلًا منه وأحسانًا وامتنانًا وامتحانًا {وما أصابك من سيئة} أي من بلية ومصيبة {فمن عندك} لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك كما روي عن عائشة: «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطع شسع نعله إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر منه».
وقالت الأشاعرة: كل من الحسنة والسيئة بأي معنى فرض فإنها من الله تعالى لوجوب انتهاء جميع الحوادث إليه.
لكنه قد يظن بعض الظاهريين أن إضافة السيّئة إلى الله تعالى خروج عن قانون الأدب فبين في الآية أن كل ما يصيب الإنسان من سيّئة حتى الكفر الذي هو أقبح القبائح فإن ذلك بتخليق الله تعالى. والوجه فيه أن يقدر الكلام استفهامًا على سبيل الإنكار ليفيد أن شيئًا من السيّئات ليست مضافة إلى الإنسان بل كلها بقضائه ومشيئته، ويؤيده ما يروى أنه قرئ {فمن نفسك} بصريح الاستفهام. ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله بعد ذلك: {وأرسلناك للناس رسولًا} أي ليس لك إلاّ الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت {وكفى بالله شهيدًا} على جدّك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما تحصيل الهداية فليس إليك بل إلى الله. قال علماء المعاني: قوله: {رسولًا} حال من الكاف أي حال كونك ذا رسالة و{للناس} صفة {رسولًا} متعلق بـ {أرسلناك} وإلاّ لقيل إلى الناس. فأصل النظم وأرسلناك رسولًا للناس فلابد للتقديم من خاصية هو التخصيص أعنى ثبوت الحكم للمقدم ونفيه عما يقابله حقيقة أو عرفًا لا عما عداه مطلقًا. وبعد تقديم هذه المقدمة فاللام في قوله: {للناس} إما أن يكون للعهد الخارجي أو للجنس أو للاستغراق. والأول باطل لأن المعهود الخارجي حصة معينة من الأفراد فيلزم اختصاص إرساله ببعض الإنس لوقوع بعض الناس في مقابلة كلهم عرفًا فيكون مناقضًا لما في الآيات الأخر كقوله: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا} [الأعراف: 158] ولقوله: «بعثت إلى الخلق كافة» والثاني وهو حمل اللام على تعريف الجنس أيضًا باطل لأنه يلزم اختصاص إرساله بالإنس دون الجن، لأنّ ثبوت الحكم لحقيقة الإنس بوساطة التقديم ينفي الحكم عما يقابلها عرفًا وهو حقيقة الجن، أو ينفي الحكم عما عداها من الحقائق فيشمل حقيقة الجن ضرورة. وعلى التقديرين يلزم الخلف لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين لقوله تعالى: {وإذا صرفنا إليك نفرًا من الجن} [الأحقاف: 29] الآية. فتعين حمل اللام على الاستغراق ليثبت الحكم لكل فرد من أفراد الإنسان وتحصيل موجبة كلية وينفى نقيض هذا الحكم وهو ما كان يزعمه الضالة من سالبة جزئية هي أنه ليس مبعوثًا إلى بعض الناس كالعجم وأنه رسول العرب خاصة، وعلى هذا يكون لاجن مسكوتًا عنهم بالنسبة إلى هذه الآية. فلدلالة دليل آخر على كونه مبعوثًا إلى الثقلين لا تكون منافية لدلالة هذه الآية، لأن التقديم قد استوفى حظه من الخاصية من غير تعرض للجن. ثم لما بين أنه لكل فرد من أفراد الناس رسول أوجب طاعته بقوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} لأنّ طاعة الرسول لكونه رسولًا فيما رسول لا تكون إلاّ طاعة لله.
قال مقاتل في هذه الآية: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: لقد قارف الرجل الشرك، هو ينهي أن يعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربًا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية. وهي من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي تبليغه وفي أفعاله وإلاّ لم تكن طاعته فيما أخطأ طاعة لله. {ومن تولى} قيل: هو التولي بالقلب أي حكمك يا محمد على الظواهر، وأما البواطن فلا تتعرّض لها. وقيل هو التولي بالظاهر ومعناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولّي. {فما أرسلناك} لتحفظ الناس عن المعاصي فإن من أضلّه الله لم يقدر أحد على إرشاده. والمعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عند ذلك التولي كقوله: {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] ثم نسخ بآية الجهاد. ثم حكى سيرة المنافقين بقوله: {ويقولون} أي حين ما أمرتهم بشيء {طاعة} أي أمرنا وشأننا طاعة، والنصب في مثل هذا جائز بمعنى أطعناك طاعة، ولكن الرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فلهذا لم يقرأ بغيره {فإذا بروزا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول} أي دبرت خلاف ما أمرت به وما ضمنت من الطاعة. قال الزجاج: كل أمر تفكروا فيه كثيرًا وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيرًا قيل هذا أمر مبيت. وفي اشتقاقه وجهان: الأول أن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس في بيته في الليل فهناك يكون الخاطر أصفى والشواغل أقل فلا جرم سمي الفكر المستقصي تبييتًا.. الثاني قال الاخفش: إذا أراد العرب قرض الشعر بالقوافي بالغوا في التفكر فيه فسمي الفكر البليغ تبييتًا، فاشتقاقه من أبيات الشعر. ثم إنه تعالى خص طائفة من المنافقين بالتبييت، وذكروا في التخصيص وجهين: أحدهما أنه ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فلم يذكرهم. وثانيهما أن هذه الطائفة كانوا قد سهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا. قلت: ووجه ثالث وهو أن هذا النوع من الكلام أجلب للقلوب وأدخل في عدم الإنكار. {والله يكتب ما يبيتون} يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم {فأعرض عنهم وتوكل على الله} في شأنهم فإنّ الله ينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعزت أنصاره. قال بعضهم: الأمر بالإعراض منسوخ بآية الجهاد. والأكثرون على أن الصفح مطلق فلا حاجة إلى التزام والنسخ والله تعالى أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
في رفع {طاعة}: وجهان:
أحدهما: أنه خبرُ مُبْتَدأ مضمَرٍ، تقديره: «أمر طاعة» ولا يجُوز إظهارُ هذا المُبْتَدأ؛ لأن الخَبَر مَصْدَر بدلٌ من اللَّفْظِ بفعله.
والثاني: أنه مُبْتَدأ والخَبَر مَحْذُوف، أي: مِنَّا طَاعَة، أو: عَنْدنا طَاعَةٌ، قال مكي: «ويجُوز في الكَكَم النَّصْبُ على المَصْدَر».
قوله: {فإذا برزوا} وأخْرِجُوا، من عندك بيت طائِفَةٌ مِنْهُم غير الَّذي تَقُولُ.
أدغم أبو عَمْرو وحمزة: تاء {بَيَّت} في طَاءِ {طائفة} لتقاربهما، ولم يَلْحَقِ الفِعْلَ علامةُ تأنيث؛ لكونه مَجَازيًا، و{منهم}: صِفَةٌ لـ {طائفة}، والضَّمِير في {تَقُول} يحتمل أن يكُون ضَمير خِطَاب للرَّسُول عليه السلام، أي غيرَ الذي تَقُولُه وترسم به يا مُحَمَّد، ويؤيِّده قِرَاءة عبد الله: «بيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنْهُم»، وأن يكون غَيْبَة للطَّائفة، أي: تقول هي.
وقرأ يَحْيَى بن يَعْمر: «يقول» بياء الغَيْبَة، فيحتمل أن يَعُود الضَّمِيرُ على الرَّسُول بالمَعْنَى المُتقدِّم، وأن يَعُود على الطَّائِفَةِ، ولم يرنِّث الضَّمِيرَ؛ لأن الطِّائِفَة في معنى الفَرِيق والقوم.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: {بيت طائفة} أي: زوَّرت وسوَّت {غير الذي تقول}: خلاف ما قُلْت ومَا أمَرْت به، أو خَلاَف ما قَالَتْ ومَا ضَمِنَت من الطَّاعَة؛ لأنَّهم أضْمَرُوا الرَّدَّ لا القَبُول.
قال الزَّجَّاج: كل أمر تفكر فيه وتُؤوِّل في مصالحه ومفاسده كثيرًا، قيل: هذا أمْر مُبَيَّتٌ؛ قال تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} [النساء: 108]، وقال قتادَةُ والكَلْبِيُّ: بَيَّت، أي: غيَّر وبَدَّل الَّذِي عَهِدَ إليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويكون التَّبْييتُ بمعنى: التَّبْدِيل.
وقال أبُو عُبَيْدَة: والتَّبييتُ معناه: قالُوا وقَدَّرُوا لَيْلًا مَا أعطوك نهارًا، وكل ما قُدِّر بلَيْل فهو مُبَيَّتٌ.
وقال أبو الحَسَن الأخْفَش: تقول العَرَب للشَّيْءِ إذا قُدِّرَ: بَيْتٌ، يُشَبِّهُونَهُ بتقدير بُيُوت الشِّعْر، وفي اشْتِقَاقه وَجْهَان:
أحدهما: أم أصْلح الأوْقَات للفكْر أن يَجْلِس الإنْسَان في بَيْتِهِ باللَّيل، فهناك تكُون الخَوَاطِر أجْلى والشَّواغل أقَل، فلما كان الغَالِبُ أنَّ الإنْسَان وقت اللَّيْل يكون في البَيْتِ، والغَالِبُ أنه إنَّما يَسْتَقْصِي في الأفْكَار في اللَّيْلِ، فلا جَرَم سُمِّي ذلك فيس الفِكْر مبيِّتًا.
والثاني: أن التَّبْييتَ والبَيَات: أن يَأتِي العَدُوُّ ليلًا، وبات يَفْعَل كذا: إذا فَعَلَه لَيْلًا؛ كما يُقَال: ظلَّ بالنَّهار، وبَيَّتَ بالشيء، قَدَّره.
و{مَا} في {ما يبيتون} يجوز أن تكون مَوْصُولة أو مَوْصُوفة أو مَصْدَرية. اهـ. بتصرف يسير.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}
يعني إذا حضروك استسلموا في مشاهدتك، فإذا خرجوا انقطع عنهم نور إقبالك، فعادوا إلى ظلمات، كما قالوا:
إذا ارعوى عاد إلى جهله ** كذي الضنى عاد إلى نكسه

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}
هنا يوضح الحق لرسوله: ستتعرض لطائفة من أمة الدعوة وهم الذين أمرك الله أن تدعوهم إلى الدخول في الإسلام،- أما أمة الإجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول وآمنوا فعلا- إن هؤلاء يقولون لك حين تأمرهم بشيء أو تطلب منهم شيئًا أمرًا أو نهيًا: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني: أمرنا وشأننا طاعة، أي أمرك مطاع، {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}، ويقال: برز أي خرج للبَرَاز، والبَرَاز هي: الأرض الفضاء الواسعة، ولذلك يقول المقاتل لمن يتحداه: ابرز لي، أي اخرج من الكن أو الحصن، وكان العرب سابقًا لا يقضون حاجتهم في بيوتهم، فإذا أرادوا قضاء حاجتهم ذهبوا إلى الغائط البعيد، وجاء من هذه الكلمة لفظ يؤدي قضاء الحاجة في الخلاء.