فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتّدبر من مادة «دبر».
وهو مؤخر الشيء وعاقبته «والتدبر» المطلوب في هذه الآية هو البحث عن نتائج آثار الشيء، والفرق بين التدبر والتفكر هو أنّ الأخير يعني التحقيق في علل وخصائص الموجود، أمّا التدبر فهو التحقيق في نتائجه وآثاره.
ونستدل من هذه الآية على عدّة أُمور:
1- أنّ الناس مكلّفون بالبحث والتحقيق في أُصول الدين والمسائل المشابهة لها، مثل صدق دعوى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحقانية القرآن، وأن يتجنّبوا التقليد والمحاكاة في مثل هذه الحالات.
2- أنّ القرآن- خلافًا لما يظن البعض- قابل للفهم والإِدراك للجميع، ولو كان على غير هذه الصورة لما أمر الله بالتدبر فيه.
3- أحد الأدلة التي تثبت أنّ القرآن حقّ، وأنّه منزل من الله الحكيم العليم خلوه المطلق من كل تناقض أو اختلاف.
ولتوضيح هذه الحقيقة نقول:
الجوانب الروحية للإِنسان تتغير باستمرار، «قانون التكامل»- في الظروف العادية الخالية من الأوضاع الاستثنائية- يستوعب الإِنسان وجوانبه الروحية وأفكاره، وبمرور الأيّام يتغير بموجب هذا القانون كلام الإِنسان وفكره وأحاديثه.
لو أمعنا النظر فيما يكتبه الكتاب، لما وجدنا مؤلفات الكاتب الواحد على نمط واحد، بل أن بداية كل كتاب تختلف أيضًا عن نهايته.
هذا التغيير يزداد سرعة حين يعيش الإِنسان في خضم أحداث كبرى كالتي تصاحب إِرساء قواعد ثورة فكرية واجتماعية وعقائدية شاملة، الشخص الذي يعيش مثل هذه التحولات الاجتماعية الكبرى لا يستطيع أن يسيطر على وحدة كلامه، ولا يمكنه أن يوجد إنسجامًا كاملا في أقواله، خاصّة إِذا كان هذا الشخص غير متعلم، وكان ناشئًا في بيئة اجتماعية متخلفة.
والقرآن كتاب نزل خلال مدّة (23) عامًا بحسب ما يحتاجه الناس من تربية وتوجيه في الظروف المختلفة، وموضوعات القرآن متنوعة، فهو لا يشبه كتابًا عاديًا متخصصًا في بحث اجتماعي أو سياسي أو فلسفي أو حقوقي أو تاريخي، بل هو يتحدث تارة عن التوحيد وأسرار الخليقة، وتارةً يطرح القوانين والأحكام والآداب والسنن، وتارةً يقص علينا أخبار الأُمم السابقة، وتارة يتناول المواعظ والنصائح والعبادات وارتباط العبد بخالقه.
وكما يقول (غوستاف لوبون): القرآن- كتاب المسلمين السماوي- لا يقتصر على التعاليم الدينية، بل يتناول- أيضًا- الأحكام السياسية والاجتماعية للمسلمين.
مثل هذا الكتاب- بهذه الخصائص- لا يمكن أن يكون- عادة- خاليًا من التناقض والتضاد والاختلاف والتأرجح، أمّا حين نرى هذا الكتاب- مع كل ذلك متناسقًا متوازنًا في آياته خاليًا من كل تضاد واختلاف نستطيع أن نفهم بوضوح- أنّ هذا الكتاب ليس وليد فكر بشري، بل هو من قبل الله تعالى، كما تذكر الآية الكريمة أعلاه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}
تدبرُ إشارة المعاني بغوص الأفكار، واستخراجُ جواهر المعاني بدقائق الاستنباط. اهـ.

.من فوائد البيضاوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان} يتأملون في معانيه ويتبصرون ما فيه، وأصل التدبر النظر في أدبار الشيء. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} أي ولو كان من كلام البشر كما تزعم الكفار. {لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} من تناقض المعنى وتفاوت النظم، وكان بعضه فصيحًا وبعضه ركيكًا، وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل، ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض، وموافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض، على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية. ولعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم والمصالح. اهـ.

.من فوائد الفخر في الآية:

دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى خلاف ما يقوله من يذهب إلى أنه لا يعلم معناه إلا النبي والإمام المعصوم، لأنه لو كان كذلك لما تهيأ للمنافقين معرفة ذلك بالتدبر، ولما جاز أن يأمرهم الله تعالى به وأن يجعل القرآن حجة في صحة نبوته، ولا أن يجعل عجزهم عن مثله حجة عليهم، كما لا يجوز أن يحتج على كفار الزنج بمثل ذلك. اهـ.
دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال، وعلى القول بفساد التقليد، لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته، وإذا كان لابد في صحة نبوته من الاستدلال، فبأن يحتاج في معرفة ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلّق بهؤلاء المنافقين أو الكفرةِ الصرحاءِ وبتوليّهم المعرجض بهم في شأنه بقوله: {ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظًا} [النساء: 80]، وبقولهم: {طاعة} [النساء: 81]، ثم تدبير العصيان فيما وعدوا بالطاعة في شأنه.
ولمّا كان ذلك كلّه أثرًا من آثار استبطان الكفر، أو الشكّ، أو اختيار ما هو في نظرهم أولى ممّا أمروا به، وكان استمرارهم على ذلك، مع ظهور دلائل الدّين، منبئًا بقلّة تفهّمهم القرآن، وضعف استفادتهم، كان المقام لتفريع الاستفهام عن قلّة تفهمّهم.
فالاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجيب منهم في استمرار جهلهم مع توفّر أسباب التدبير لديهم.
تحدّى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن، كما تحدّاهم بألفاظه، لبلاغته إذ كان المنافقون قد شكّوا في أنّ القرآن من عند الله، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به، فإذا خرجوا من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم، ويشكّكون ويشكّون إذا بدا لهم شيء من التعارض، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى: {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه} [آل عمران: 7] الآية.
والتدبّر مشتقّ من الدُّبر، أي الظَّهر، اشتقّوا من الدُّبر فعلًا، فقالوا: تدبّر إذا نظر في دبر الأمر، أي في غائبه أو في عاقبته، فهو من الأفعال التي اشتقّت من الأسماء الجامدة.
والتدبّر يتعدّى إلى المتأمَّل فيه بنفسه، يقال: تدبّر الأمَر.
فمعنى {يتدبَّرون القرآن} يتأمّلون دلالته، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين، أي تدبّر تفاصيله؛ وثانيهما أن يتأمّلوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله، وأنّ الذي جاء به صادق.
وسياق هذه الآيات يرجّح حمل التدبُّر هنا على المعنى الأول، أي لو تأمّلوا وتدبّروا هدي القرآن لحصل لهم خير عظيم، ولمَا بَقُوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام.
وكلا المعنيين صالح بحالهم، إلاّ أنّ المعنى الأول أشدّ ارتباطًا بما حكي عنهم من أحوالهم.
وقوله: {ولو كان من عند غير الله} إلخ يجوز أن يكون عطفًا على الجملة الاستفهامية فيكونوا أمروا بالتدبّر في تفاصيله، وأعلموا بما يدلّ على أنّه من عند الله، وذلك انتفاء الاختلاف منه، فيكون الأمر بالتدبّر عامًّا، وهذا جزئيّ من جزئيات التدبّر ذكر هنا انتهازًا لفرصة المناسبة لغَمْرهم بالاستدلال على صدق الرسول، فيكون زائدًا على الإنكار المسوق له الكلام، تعرّض له لأنّه من المهمّ بالنسبة إليهم إذ كانوا في شكّ من أمرهم.
وهذا الإعراب أليق بالمعنى الأول من معنيي التدبّر هنا.
ويجوز أن تكون الجملة حالًا من القرآن، ويكون قيدًا للتدبّر، أي ألاَ يتدبّرون انتفاء الاختلاففِ منه فيعلمون أنّه من عند الله، وهذا أليق بالمعنى الثاني من معنيي التدبّر.
وممّا يستأنس به للإعراب الأوّل عدم ذكر هذه الزيادة في الآية المماثلة لهذه من سورة القتال، وهي قوله: {فإذا أنزلت سورة محكمة وذُكر فيها القتال} إلى قوله: {أفلا يتدبّرون القرآنَ أم على قلوب أقفالُها} [محمد: 20 24] وهذه دقائق من تفسير الآية أهملها جميع المفسّرين.
والاختلاف يظهر أنّه أريد به اختلاف بعضه مع بعض، أي اضطرابه، ويحتمل أنّه اختلافه مع أحوالهم: أي لوجدوا فيه اختلافًا بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنّه من عند الله، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصفَ المطّلع على الغيوب، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم.
ووُصِفَ الاختلاف بالكثير في الطَرف الممتنع وقُوعه بمدلول (لو).
ليعلم المتدبّر أنّ انتفاء الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنّه من عند الله، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب (لو)، فلا يقدَّر ذلك الطرف مقيَّدًا بقوله: {كثيرًا} بل يقدر هكذا: لكنّه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلًا. اهـ.

.من فوائد السعدي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}.
يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال؛ وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب.
وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.
ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلا. اهـ.

.من فوائد الدكتور فاضل السامرائي:

تدبر القرآن وقراءته لها مراتب للتدبر فيمكن أن يقرأ الإنسان القرآن في يومين أو شهر أو يكون له ختمتين في شهر وكان من السلف الصالح من له ختمتان واحدة يقرأها بتأمل يسير وختمة تستغرق أعوامًا يتأمل كل حرف وكل كلمة في كتاب الله وبين هاتين المرتبتين درجات أدناها أن يحضر الإنسان ذهنه وهو يقرأ آيات الله تعالى. إذن أولى مراتب التدبر هو حضور الذهن عند قراءة القرآن وليس هناك أدنى منها مرتبة وهؤلاء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم لأنه مجرد قراءة باللسان. بعد هذه المرتبة تأتي مرتبة التفكير بالمعنى وهي أعلى من السابقة ثم تليها مرتبة التأمل في المعاني بحيث يتوقف عند آيات النعيم فيدعو الله تعالى أن يجعله من المنعمين ويتوقف عند آيات العذاب فيدعو الله أن يجنبه العذاب وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في الصلاة. وهناك مرتبة أعلى من هذه وهي مبنية على سابقتها وهي أن ينظر القارئ في الاستعمالات القرآنية ويعيش في الجو الذي عاش فيه العربي الأول عندما كان يسمع القرآن فيهتزّ وفي رواية أن الأصمعي كان عنجه دنانير من ذهب وكان يريد الخروج للحج فأراد أن يخبئ الدنانير عند أحد من اصحابه حتى يعود فتأخر في ذلك وقبل خروجه للحج ذهب لصاحبه فوجد أنه خارج للحج ايضًا فاحتار أين يخبء دنانيره ثم قرر أن يأخذه معه في سفره وفي الطرق خرج على القافلة لصوص وجاء الأصمعي شيخ اللصوص فأكره بإخراج ما معه من مال فأخرج الأصمعي دنانيره وقال سبحان الله هذا رزقه وتلا قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} فقال اللص رزقنا في السماء ونحن نطلبه في خِسّة على الأرض أعيدوا ماله فأعادوا المال الى الأصمعي. وفي الطواف التفت الأصمعي فوجد شيخ اللصوص بجانبه فطلب منه اللص أن يعيد عليه الآية فقرأ الأصمعي {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} الذاريات. فانتفض السارق وقال ما الذي أغضب الجليل فجعله يُقسم؟ من هذه القصة يتبين لنا أن العرب كانوا يفهمون ويتلذذون بالعبارة وكانوا إذا أراد أحدهم أن لا يؤمن يضع أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع لأنه يعلم أن هذا الكلام ليس كلام بشر ونحن علينا أن نتلمس مواطن الجمال والبيان وإذا أشكل علينا شيء نسأل ولا نتردد فالقرآن حاكم على اللغة وليست اللغة هي الحاكمة على القرآن.