فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مِنْهُمْ} أي: من الرسول وأولي الأمر، يعني لو أنهم قالوا: نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه، ونعرف الحالف فيه من جهتهم، لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير، يعني لم يقل (لعلموه) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، أو لذمهم أو للتنبيه على خطأهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر.
قال الناصر في الانتصاف: في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذبًا، وخصوصًا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيرًا أو غيره. انتهى.
وقد روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
وعند أبي داود والحاكم عنه: «كفى بالمرء إثمًا»، ورواه الحاكم أيضًا عن أبي أمامة.
هذا، ونقل الرازيّ وجهًا آخر في الموصول، وهو أن المعنيّ به طائفة من أولي الأمر، قال: والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلًا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر، وذلك لأن أولي الأمر فريقان: بعضهم من يكون مستنبطًا، وبعضهم من لا يكون كذلك.
فقوله (منهم) يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر.
فإن قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله: {وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ}؟ قلنا: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر، لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون، ونظيره قوله تعالى: {وَإِنّ مِنْكُمْ لمنْ لَيُبَطّئَنّ} [النساء: من الآية 72] وقوله: {مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} انتهى.
وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطيّ في الإكليل: قوله تعالى: {وَلَوْ رَدّوهُ}، الآية، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد.
وقول المهايميّ: فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق.
وقال بعض الإمامية: ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين، وأن إذاعته قبيحة، وأنه لا يُخْبَرُ بما لم يعرف صحته، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا، وتدل على صحة القياس والاجتهاد، لأنه استنباط. انتهى.
تنبيه:
ما نقله الزمخشريّ وتبعه البيضاوي وأبو السعود وغيرهم، من أن قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ} عنى به طائفة من ضعفة المسلمين- فإن أرادوا بالضعفة المنافقين، فصحيح، وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها، وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناه، فكله لم يصب المرمى، والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول، ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه، فتبصر ولا تكن أسير التقليد.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بإرسال الرسول وإنزال الكتاب.
{لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ} بالكفر والضلال.
{إِلاّ قَلِيلًا} أي: إلا قليلًا منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان، كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة، كقس بن ساعدة وأضرابه، وهم عشرة، وقد أوضحت شأنهم في كتابي «إيضاح الفطرة في أهل الفترة» في: (الفصل الرابع عشر) فانظره.
وانقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهاني، أن المراد بفضل الله ورحمته، هنا، هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: فأفوز فوزًا عظيمًا، أي: لولا تتابع النصرة والظفر لابتعتم الشيطان، وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذي يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين، واستحسن هذا الوجه الرازيّ.
وقال: هو الأقرب إلى التحقيق.
قال الخفاجي: لارتباطه بما بعده، هذا وزعم بعضهم أن قوله تعالى: {إِلاّ قَلِيلًا} مستنثى من قوله (أذاعوه) أو (لعلمه) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله، قال: لأنه لو كان مستثنى من جملة {اتبعتم} فسد المعنى لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله، وهو لا يستقيم، وبيان لزومه أن {لولا} حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى، ضرورة، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم، ألا تراك إذا قلت (لمن تذكره بحقك عليه): لولا مساعدتي لك لسُلِبَتْ أموالك إلا قليلًا، كيف لم يجعل لمساعدتك أثرًا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله، لا في كله، ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان، إلا بفضله تعالى عليه، هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف، وهول فيه، ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه، أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه، واللازم ممنوع، لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص، وهو ما بيناه، فإن عدم الاتباع، إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص، لا ينافي أن يكون بفضل آخر. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ}
الحق سبحانه وتعالى يربي الأمة الإيمانية على أسلوب يضمن ويؤمّن لهم سرّية حركتهم خاصة أنهم قوم مقبلون على صراع عنيف ولهم خصوم أشداء، فيربيهم على أن يعالجوا أمورهم بالحكمة لمواجهة الجواسيس. فيقول: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ}. أي إذا جاءهم خبر أمر من الأمور يتعلق بالقوم المؤمنين أو بخصومهم، وعلى سبيل المثال: يسمعون أن النبي عليه الصلاة والسلام سيخرج في سرية إلى المنطقة الفلانية، وقبيلة فلان تنتظره كي تنضم إليه، وعندما يسمع الضعاف المنافقون هذا الخبر يذيعونه. فيحتاط الخصوم بمحاصرة القبيلة التي وعدت الرسول أن تقاتل معه كي لا تخرج، أو يقولون مثلًا: إن النبي سيخرج ليفعل كذا فيذيعوا أيضًا هذا الخبر! فأوضح لهم الحق: لا تفعلوا ذلك في أي خبر يتعلق بكم كجماعة ارتبطت بمنهج وتريد هذا المنهج أن يسيطر؛ لأن هذا المنهج له خصوم.
إياكم أن تسمعوا أمرًا من الأمور فتذيعوه قبل أن تعرضوه على القائد وعلى من رأى القائد أنهم أهل المشورة فيه، فقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ} يقصد به أن المسألة تكون في صالحهم {أَوِ الْخَوْفِ} أي من عدوهم {أَذَاعُواْ بِهِ}.
كلمة «أذاعه» غير كلمة «أذاع به»، فـ «أذاعه» يعني «قاله»، أما «أذاع به» فهي دليل على أنه يقول الخبر لكل من يقابله، وكأن الخبر بذاته هو الذي يذيع نفسه، فهناك أمر تحكيه وتنتهي المسألة، أما «أذاع به» فكأن الإذاعة مصاحبة للخبر وملازمة له تنشره وتخرجه من طيّ محدود إلى طي غير محدود.. أو من آذان تحترم خصوصية الخبر إلى آذان تتعقب الخبر، ثم يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} فالرسول أو من يحددهم الرسول صلى الله عليه وسلم هم الذين لهم حق الفصل فيما يقال وما لا يقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} والاستنباط مأخوذ من «النَبْط» وهو ظهور الشيء بعد خفائه، واستنبط أي استخرد الماء مجتهدا في ذلك والنَبَط هو أول مياه تخرج عند حفر البئر فنقلت الكلمة من المحسات في الماء إلى المعنويات في الأخبار. وصرنا نستخدم الكلمة في المعاني، وكذلك في العلوم. مثلما تعطي الطالب مثلًا تمرينًا هندسيًا، وتعطيه معطياته، ثم يأخذ الطالب المعطيات ويقول بما أن كذا = كذا.. ينشأ منه كذا، فهو يستنبط من موجودٍ معدومًا.
وهنا يوضح الحق لهم: إذا سمعتم أمرًا يتعلق بالأمن أو أمرًا يتعلق بالخوف، فإياكم أن تذيعوه قبل أن تعرضوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تعرضوه على أولياء الأمر الذين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم بعض السلطة فيه؛ لأنهم هم الذين يستنبطون.
هذا يقال أو لا يقال.
ويقول الحق: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} كأنهم أذاعوا بعض أحداث حدثت، لكنهم نجوا منها بفضل من الله سبحانه وتعالى وبعض إلهاماته فكان مما أذاعوا به ما حدث عندما عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم- العزم على أن يذهب إلى مكة فاتحًا.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها.. أي أنه لا يقول الوجهة الحقيقية كي يأخذ الخصوم على غرة، وعندما يأخذ الخصوم على غرة يكونون بغير إعداد، فيكون ذلك داعيًا على فقدانهم قدرة المقاومة.
وانظروا إلى الرحمة فيما حدث في غزوة الفتح، فقد أمر رسول الله المسلمين بالتجهيز لغزو مكة حتى إذا ما أبصر أهل مكة أن رسول الله جاء لهم بجنود لا قبل لهم بها؛ يستكينون ويستسلمون فلا يحاربون وذلك رحمة بهم. وكان «حاطب بن أبي بلتعة» قد سمع بهذه الحكاية فكتب كتابًا لقريش بمكة، وأخذته امرأة وركبت بعيرها وسارت. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلى ومن معه وقال لهم: إن هناك امرأة في روضة خاخ معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بقدومنا إلى مكة، فذهبوا إلى الظعينة فأنكرت، فهددها سيدنا عليٌّ وأخرج من عقاصها- أي من ضفائر شعرها- الكِتَاب، فإذا هو كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا وقال له: أهذا كتابك؟. قال: نعم يا رسول الله، فقال: وما دعاك إلى هذا؟ قال: والله يا رسول الله لقد علمت أن الله ناصرك، وأن كتابي لن يقدم ولن يؤخر. وأنا رجل ملصق في قريش ولم أكن من أنفسهم ليس لي بها عصبية ولي بين أظهرهم ولد وأهل فأحببت أن أتقدم إلى قريش بيد تكون لي عندهم يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال له النبي: قد صدقت.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبني القضايا الإيمانية وخاصة ما يتعلق بأمر المؤمنين مع أعدائهم على الصدق، ولا يستقيم الأمر أن يفشي ويذيع كل واحد الكلام الذي يسمعه، بل يجب أن يردوا هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولى الأمر لأنهم هم الذين يستنبطون ما يناسب ظرفهم من الأشياء، ربما أذنوا لكم في قولها، أو أذنوا بغيرها إذا كان أمر الحرب والخداع فيها يستدعي ذلك. وهذا يدل على أن الحق سبحانه وتعالى وإن كان قد ضمن النصر والغلبة لهم وأوضح: أنا الوكيل وأنا الذي أنصر ولا تهابوهم، إلا أنه سبحانه يريد أن يأخذ المؤمنون بالأسباب.. وبكفايتهم به على أنه هو الناصر.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} وهذا يدل على أن هذه المسألة قد حدثت منهم ولكن فضل الله هو الذي سندهم وحفظهم فلم يجعل لهذه المسألة مغبة أو عاقبة فيما يسؤوهم. {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} ونعرف أنه كلما جاء فعل من الأفعال وجاء بعده استثناء. فنحن ننظر: هل هذا الاستثناء من الفاعل أو من الفعل؟.. وهنا نجد قوله الحق: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} فهل كان اتباع الشيطان قليلًا أي اتبع الشيطان قلة وكثيرون لم يتبعوا الشيطان. فهل نظرت إلى القلة في الحدث أو في المحدِث للحدث؟. فإن نظرت إلى القلة في الحدث فيكون: لاتبعتم الشيطان إلا اتباعًا قليلًا تهتدون فيه بأمر الفطرة، وإن أردت القلة في المحدث: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} أي إلاَّ نفرا قليلا منكم سلمت فطرتهم فلا يتبعون الشيطان.
فقد ثبت أن قومًا قبل أن يرسل ويبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا ليفكروا فيما عليه أمر الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، فلم يرقهم ذلك، ولم يعجبهم، فمنهم من صَدّ عن ذلك نهائيًا، ومنهم من ذهب ليلتمس هذا العلم من مصادره في البلاد الأخرى، فهذا «زيد بن عمرو بن نفيل»، وهذا «ورقة بن نوفل» الذي لم يصدق كل ما عرض عليه، و«أمية بن أبي الصلت»، و«قُسّ بن ساعدة»، كل هؤلاء بفطرتهم اهتدوا إلى أن هذه الأشياء التي كانت عليها الجاهلية لا تصح ولا يستقيم أن يكون عليها العرب فهؤلاء كانوا قلة وكانوا يسمون بالحنفاء والكثير منهم كان يعبد الأصنام ثم أكرمهم الله ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن فقول الحق: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} أي لأن الحق سبحانه وتعالى بفضله ورحمته لن يدع مجالًا للشيطان في بعض الأشياء.. بل يفضح أمر الشيطان مع المنافقين. فإذا ما فضح أمر الشيطان مع المنافقين أخذكم إلى جانب الحق بعيدًا عن الشيطان، فتكون هذه العملية من فضل الله ورحمته. اهـ.