فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقوله الحق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} مؤكد بالنسبة لنا. وأفعل التفضيل هنا لا تأتي للتمييز بين كلام صادق وكلام أصدق، ولكن لنعرف أن كلام الله لنا كثير.
فالتكثير هنا إنما يجيء من ناحية كثرة الكلام، لا من ناحية أن هناك كلامًا صادقًا وكلامًا أصدق.
والتفاوت قد يوجد في الصدق أيضًا، كيف؟. لنفرض أن إنسانًا رأي حادثة يقتل فيها إنسان إنسانًا آخر، فيشهد الشاهد بأنه رأى الدم ينزف من القتيل إثر التحام القاتل به، ولكن هناك شاهد آخر يروي كل التفاصيل التي بدأت من قبل المشاجرة بين القاتل والقتيل إلى أن صار هناك قاتل وقتيل. وهكذا نجد أن الشاهد الثاني أشمل في الصدق من الشاهد الأول صحيح أن الشاهد الأول قال شهادة صادقة، لكن شهادة الشاهد الثاني أشمل في القضية نفسها.
إذن فقوله الحق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} أي أن الحق هو الأصدق بمعنى أنّ إخباره لنا جاء بالشمول الكامل، وهو صدق لا تفاوت فيه، فالصدق هو مطابقة النسبة الكلامية للواقع، وما دام هو كذلك فليس هناك صادق وأصدق، ولكن أفعل التفضيل تأتي في {أصدق} باعتبار أن كمية الصدق الصادرة لا حدود لها وأنّه سبحانه يعلم الأشياء على وفق ما هي عليه أي بشمول كامل. وخلقه إن حدث منهم صدق في شيء فقد يحدث منهم الكذب في شيء آخر. فقد تقول قضية تعلم أنها صدق، ولكنها في الواقع لا تكون صدقًا.
ومثلًا؛ فقد يقول القائل: زار فلان فلانًا بالأمس. هو اعتقد ذلك لأنه رأى حجرة الاستقبال في بيت فلان مضاءة فسأل عن الزائر فقيل له: «فلان» فهو يروى خبر هذه الزيارة على وفق ما يعتقد، ولا يقال: إن القائل قد كذب.
إننا يجب أن نفرق بين «الخبر» وبين «المخبر»، كيف؟، إذا قلنا: «زيد مجتهد»، أيوجد واحد اسمه زيد ومجتهد بالفعل؟ هذا اسمه الواقع. وهل أنت تعتقد هذا؟. إذن فالإنسان هنا يحتاج إلى أمرين: معرفة وجود الشيء، واعتقاد الشيء، وبذلك يكون الخبر صادقًا والمخبر صادقا أيضًا.
وافرض أنك أخبرت أن زيدًا مجتهد بناءً على أن أحدًا قد أخبرك بذلك ولكنه لم يكن كذلك، أنت هنا صادق وفق اعتقادك. لكن الخبر غير صادق في الواقع. إذن ففيه فرق بين صدق الخبر وصدق المخبر. فإذا التقى الاعتقاد بالواقع صدق الخبر وصدق المخبر. وإذا كان الخبر موافقًا للواقع ومخالفًا للاعتقاد فالخبر صادق كموقف المنافقين الذين قال الحق فيهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] هذه القضية واقعة صادقة وأعلنوا هم ذلك، ولكن الحق أضاف: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
فالقضية صادقة ولكنهم كاذبون؛ لأنهم قالوها بلا اقتناع فكانوا كاذبين. والدقة هنا توضح الفرق بين صدق الخبر وكذب الاعتقاد. إذن فصدق المخبر أن يطابق الكلام الاعتقاد. والتكذيب واضح في قولهم: «نشهد»؛ وليس في مقول القول وهو {لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ}.
فالشهادة تقتضي أن يواطئ ويوافق اللسان القلب ولذلك عندما يقرأ بعض الناس القرآن دون فهم اللغة العربية.. فيفهم بالسطحية هذه الآية فهما خاطئًا: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
فكيف يشهد الله أنهم كاذبون، على الرغم من أنه سبحانه يعلم مثلما شهد المنافقون؟. ونرد: إن الخبر هنا لم يكن كذبًا، ولم يقل الحق ما يكذب الخبر، لكنه أوضح صدق الخبر وكذب المنافقين في شهادتهم لأنهم يظهرون غير ما يبطنون ويعتقدون، فالتكذيب منصب على شهادتهم لا على خبر أن محمدًا رسول الله.
{اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}.
إنّ المؤمن يعتقد أن يوم القيامة لا شك فيه، فيوم القيامة يجب منطقيًا ألا يوجد شك فيه؛ لأنه لو كان هناك ريب لكان الذين انحرفوا في الحياة الدنيا وولغوا في أعراض الناس وأخذوا أموالهم وعاثوا في الأرض فسادًا هم الذين كسبوا وفازوا، ويكون الطيبون والأخيار قد عاشوا في سذاجة. فالمنطق يقتضي أنه ما دام قد وُجد أناس قد ظلموا واعتدوا، وأناس أعتدى عليهم، فلابد أن يكون هناك حساب. ولا يكون هناك حساب إلا إذا انتهت حكاية الموت، بالإحياء والحشر والخروج إلى لقاء الله. ودليل هذا من الجاحدين أنفسهم، كيف؟.
نحن نعرف أن المجتمعات غير المتدينة يضع قادتها القوانين التي تكفل حماية حركة المجتمع. هم يضعون مثل هذه القوانين، ومن يخالفها يتم حسابه وعقابه. فإذا كان العقاب يمنع المجاهرة بالجريمة، فماذا يكون الموقف؟ إن الماهر إذن هو من يفلح في المدارة عن عيون قادة هذا المجتمع، ويستر نفسه عنهم حتى لا يناله العقاب.
إن هذه المجتمعات الملحدة تضع التقنينات لحماية نفسها، فماذا تفعل هذه المجتمعات في الذين ستروا أنفسهم؟. هم بقانون هذه المجتمعات كان يجب أن يعاقبوا، وكان يجب أن تقولوا أنتم أن هناك مكانًا آخر ودارًا أخرى يتم فيها عقاب من أفلت منا. فأنت أيها الملحد قد قننت لمن خالف تقنينك عقوبة. وهذا إن وقعت عليه عينك، وقبضت عليه يدك، فما قولك فيمن لم تقع عليه عينك ولم تقبض عليه يدك؟.
إذن فنحن أهل الإيمان عندما نقول للملحد: إننا نكمل لك تفكيرك الناقص ونقول لكل الخلق: إنكم إن عَمَّيْتُم على قضاء الأرض فلن تعَمّوا على قضاء السماء الذي لا تخفي عليه خافية. إذن فغير المؤمن بمنهج نأخذ منه الدليل على ضرورة المنهج. وعلى غير المؤمن بالمنهج أن يشكر أهل الإيمان؛ لأننا نحن أهل الإيمان قد أكملنا له نقصًا في تقنين البشر، وهذا لحماية المجتمع من الكيد بالجريمة والستر بالمخالفة.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} أي لا أحد أصدق من الله في الحديث. و{أصدق} جاءت كأفعل تفضيل لا لأن هناك صدقًا يعلوه صدق أصدق، بل الصدق واحد؛ لأنه مطابقة النسبة الكلامية للواقع، ولكن {أصدق} هنا لكثرة الحديث الذي حدثنا الله به عما نشهد من عالم الملك وممالآنشهد من عالم الملكوت، فإن تحدث الناس فإنما يتحدثون في عالم الملك الذي يدركونه بحواسهم، ولكن الله إذا حدثنا فسبحانه يحدثنا عن عالم الملكوت أيضًا، فالله أصدق حديثًا؛ لأنه أكثر من حدّث. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}
قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُذِيعُونَ بِمَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ لِأَهْلِهِ، وَقِيلَ: هُمْ ضُعَفَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِيمَنْ سَبَقَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَصَرَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهَا فِي الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ تُبَيِّتُ غَيْرَ مَا يَقُولُ لَهَا الرَّسُولُ أَوْ تَقُولُ لَهُ، أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِعُمُومِ الْعِبْرَةِ، وَمَنْ خَبِرَ أَحْوَالَ النَّاسِ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِذَاعَةَ بِمِثْلِ أَحْوَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ لَا تَكُونُ مِنْ دَأْبِ الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً، بَلْ هِيَ مِمَّا يَلْغَطُ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ النِّيَّاتُ، فَالْمُنَافِقُ قَدْ يُذِيعُ مَا يُذِيعُهُ لِأَجْلِ الضَّرَرِ، وَضَعِيفُ الْإِيمَانِ قَدْ يُذِيعُ مَا يَرَى فِيهِ الشُّبْهَةَ، اسْتِشْفَاءً مِمَّا فِي صَدْرِهِ مِنَ الْحَكَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَثِيرًا مَا يَوْلَعُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ لِمَحْضِ الرَّغْبَةِ فِي ابْتِلَاءِ أَخْبَارِهَا، وَكَشْفِ أَسْرَارِهَا، أَوْ لِمَا عَسَاهُ يَنَالُهُمْ مِنْهَا.
فَخَوْضُ الْعَامَّةِ فِي السِّيَاسَةِ وَأُمُورِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، وَالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، أَمْرٌ مُعْتَادٌ وَهُوَ ضَارٌّ جَدًا إِذَا شُغِلُوا بِهِ عَنْ عَمَلِهِمْ، وَيَكُونُ ضَرَرُهُ أَشَدُّ إِذَا وَقَفُوا عَلَى أَسْرَارِ ذَلِكَ وَأَذَاعُوا بِهِ، وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ كِتْمَانَ مَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَعْرِفُونَ كُنْهَ ضَرَرِ مَا يَقُولُونَ، وَأَضَرُّهُ عِلْمُ جَوَاسِيسِ الْعَدُوِّ بِأَسْرَارِ أُمَّتِهِمْ، وَمَا يَكُونُ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَمِثْلَ أَمْرِ الْخَوْفِ وَالْأَمْنِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ وَالشُّئُونِ الْعَامَّةِ، الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}، أَيْ: إِذَا بَلَغَهُمْ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ سَرِيَّةٍ غَازِيَةٍ أَمِنَتْ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ أَوْ خِيفَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ بِظُهُورِهِمْ عَلَيْهَا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ، أَوْ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّرَايَا الَّتِي تَخْرُجُ إِلَى الْحَرْبِ أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَرْكَزِ الْعَامِّ لِلسُّلْطَةِ، أَذَاعُوا بِهِ أَيْ بَثُّوهُ فِي النَّاسِ وَأَشَاعُوهُ بَيْنَهُمْ، يُقَالُ: أَذَاعَ الشَّيْءَ وَأَذَاعَ بِهِ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ** بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ

أَيْ: حَتَّى صَارَ مَشْهُورًا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ كَالنَّارِ فِي الْمَكَانِ الْعَالِي، أَوْ كَأَنَّهُ نَارٌ فِي رَأْسِ عَلَمٍ، وَالثَّقُوبُ وَالثِّقَابُ الْعِيدَانُ الَّتِي تُوَرَّى بِهَا النَّارُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَعَلُوا بِهِ الْإِذَاعَةَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَذَاعُوهُ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُمْ مِنَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ بِحَيْثُ يَسْتَفِزُّهُمْ كُلُّ خَبَرٍ عَنِ الْعَدُوِّ يَصِلُ إِلَيْهِمْ فَيُطْلِقُ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكَلَامِ فِيهِ وَإِذَاعَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَشِيعَ فِي الْعَامَّةِ أَخْبَارُ الْحَرْبِ وَأَسْرَارُهَا، وَلَا أَنْ تَخُوضَ الْعَامَّةُ فِي السِّيَاسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا بِمَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، يَضُرُّهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ شُئُونِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَيَضُرُّ الْأُمَّةَ وَالدَّوْلَةَ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا مِنْ أَمْرِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ اهـ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِهِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} رَدُّ الشَّيْءِ صَرْفُهُ وَإِرْجَاعُهُ وَإِعَادَتُهُ، وَفِي الرَّدِّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ السَّابِقِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، مَعْنَى التَّفْوِيضِ: أَيْ وَلَوْ أَرْجَعُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَامَّ الَّذِي خَاضُوا فِيهِ وَأَذَاعُوا بِهِ، وَفَوَّضُوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمِثْلِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَصْلِ فِيهَا، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْهُمُ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ فِي سِيَاسَتِهَا وَإِدَارَةِ أُمُورِهَا لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، أَيْ: لَعَلِمَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَهُ وَيُظْهِرُونَ مَخْبَأَهُ مِنْهُمْ.
الِاسْتِنْبَاطُ: اسْتِخْرَاجُ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْ إِبْصَارِ الْعُيُونِ عَنْ مَعَارِفِ الْقُلُوبِ- كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَصْلُهُ اسْتِخْرَاجُ النَّبَطِ مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ الْمَاءُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ، وَفِي الْمُسْتَنْبِطِينَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الرَّسُولُ وَبَعْضُ أُولِي الْأَمْرِ، فَالْمَعْنَى لَوْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُذِيعِينَ رَدُّوا ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ لَكَانَ عِلْمُهُ حَاصِلًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ بَعْضِ أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ مِثْلَهُ وَيَسْتَخْرِجُونَ خَفَايَاهُ بِدِقَّةِ نَظَرِهِمْ، فَهُوَ إِذًا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَكْتَنِهُ سِرَّهَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُولِي الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ غَوْرَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْإِحَاطَةِ بِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَإِدَارَتِهَا دُونَ بَعْضٍ، فَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْحَرْبِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجَحُ رَأْيُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَضَائِيَّةِ، وَكُلُّ الْمَسَائِلِ تَكُونُ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَنْبِطُهُ إِلَّا بَعْضُ أُولِي الْأَمْرِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ شَرْعًا بَيْنَ الْعَامَّةِ يُذِيعُونَ بِهِ؟
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَنْبِطِينَ هُمْ بَعْضُ الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ لَوْ رَدُّوا ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَيْهِمْ وَطَلَبُوا الْعِلْمَ بِهِ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ لَعَلِمَهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْعِلْمَ بِهِ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعَارِفُونَ بِهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ مَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ، بَلْ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْمُخْتَارُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَيْهِمْ دُونُ غَيْرِهِمْ مِنْ بَعْدِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ تُوَكَّلُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْلَمَ بِهَذَا التَّفْوِيضِ شَيْئًا يَسْتَنْبِطُهُ مِنْهُمْ فَلْيَقِفْ عِنْدَهُ، وَلَا يَتَعَدَّهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ حَقِّهِمْ، وَالنَّاسُ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ طَاعَتُهُمْ.
لَا غَضَاضَةَ فِي هَذَا عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا خَدْشًا لِحُرِّيَّتِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ، وَلَا نَيْلًا مِنْ عِزَّةِ نَفْسِهِ، فَحَسْبُهُ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْتَقِلٌّ فِي خُوَيِّصَةِ نَفْسِهِ، لَمْ يُكَلِّفْ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا فِي عَقِيدَتِهِ وَلَا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا مِنَ الْعَدْلِ وَلَا الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَسْمَحَ لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي شُئُونِ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَأَنْ يَفْتَاتَ عَلَيْهَا فِي أُمُورِهَا الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ فِي أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ فِي مَجْمُوعِهَا حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً فِي شُئُونِهَا كَالْأَفْرَادِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي هَذِهِ الشُّئُونِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَنْ يَثِقُ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ بِأُولِي الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ قَدْ وَثِقَتْ بِهِ الْأُمَّةُ هُوَ عَيْنُ تَصَرُّفِهَا، وَذَلِكَ مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِهِ سُلْطَتُهَا مِنْ نَفْسِهَا.