فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} وهؤلاء القوم هم قوم من بني أسد وعطفان، وكانوا على مشارف المدينة، وكانوا يقابلون المسلمين فيقولون: «نحن معكم»، والحقيقة أنهم عاجزون عن مواجهة أي معسكر. ولذلك يصفهم القرآن: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا}. وهؤلاء كلما جاءهم الاختبار {أُرْكِسُواْ فِيِهَا}. أي فشلوا في الاختبار، فعناصرهم الإيمانية لم تقو بعد، ومازالوا في حيرة من أمرهم. وعندما جاءتهم الفتنة لتصهرهم وتكشف ما في أعماقهم ازدادت حيرتهم، فالفتنة هي اختبار، وليست الفتنة شيئًا مذمومًا، وعندما يقال: إن فلانا في فتنة فعلى المؤمن أن يدعو بالنجاح فيها، فالفتنة ليست مصيبة تقع، ولكن المصيبة تقع إذا رسب الإنسان في الفتنة.
ونعلم أن الفتنة مأخوذة من الأمر الحسي، فتنة الذهب وكذلك الحديد: فتنة الذهب هي صهر الذهب في البوتقة حتى ينصهر؛ فتطفو كالزبد كلُّ العناصر الشائبة المختلطة بالذهب، وكذلك الحديد، يتم صهره حتى تنفصل الذرات المتماسكة بعضها عن بعض. ويطفو الخبث.
ونعرف أن الحديد أنواع: فالحديد الزهر شوائبه ظاهرة فيه وسهل الكسر. بينما نجد الحديد الصلب بلا خبث فهو صلب. وفتنة الذهب والحديد تكشف عن المعادن الغريبة المختلطة به. ونقلت كلمة {الفتنة} من المحسات إلى المعاني، وصارت الفتنة هي الاختبار الذي ينجح فيه الإنسان أو يرسب، فهي ليست ضارة في ذاتها، ولكنها ضارة لمن يرسب فيها.
وهكذا كان تنبؤ القرآن الذي يخبر المسلمين بأمر قوم على حدودهم، تجعلهم الفتنة لا يقوون على الإيمان، أي فكلما دعاهم قومهم إلى الشرك وقتال المسلمين رُدُّوا على أعقابهم وانقلبوا على رءوسهم أقبح قلب وأشنعه وكانوا شرًّا من كل عدو عليكم، ويشرح القرآن كيفية سلوك المؤمنين تجاه هؤلاء المرتكسين والمنقلبين في الفتنة: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} ونلحظ أن الحق أمر بتأمين من لجأوا بضعفهم على الرغم من نفاقهم إما إلى المسلمين وإما إلى حلفاء المسلمين حين قال في الآية السابقة: {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90].
وهذا إنصاف وتنبيه إلهي من الحق ألا يسمع أحد صوت حفيظته ويفترس قومًا ضعفاء. أما الذين يحاولون التمرد والاستسلام لصوت الكفر وإيقاع الأذى بالمسلمين، ولم يلقوا بالسلم للمسلمين ويكفوا أيديهم عنهم، هؤلاء يأتي فيهم الأمر الإلهي:
خذوهم واقتلوهم. وجعل الله للمسلمين على هؤلاء السلطانَ المبين. والسلطان- كما نعرف- هو القوة، والقوة تأخذ لونين: هناك قوة تقهر الإنسان على الفعل كأن يأتي واحد ويأمر إنسانًا بالوقوف فيقف، وكأنْ يأمر القويُّ الضعيفَ بالسجود فيسجد. وهذا سلطان القوة الذي يقهر القالب، لكنه لا يقدر على قهر القلب أبدًا. والسلطان الثاني هو سلطان الحجة، وقوة المنطق وقوة الأداء والأدلة التي تقنع الإنسان أن يفعل.
والفارق بين سلطان القوة وسلطان الحجة أن سلطان القوة قد يقهر الإنسان على السجود، لكن سلطان الحجة يجعل الإنسان يسجد بالاقتناع. والسلطان المبين الذي جعله الله للمؤمنين على المنافقين الذين يقاتلون المؤمنين، هذا السلطان يمكن لكم أيها المسلمون قوة تفعلون بها ما تريدون من هؤلاء ما داموا حاولوا القتال وإلحاق الأذى بالمسلمين، فالحزم والعدل هو أخذهم بالعنف.
وحتى نفهم معنى السلطان جيدًا فلنتذكر الجدل الذي سيحدث في الآخرة بين الشيطان والذين اتبعوا الشيطان، سنجد الشيطان يقول: لقد أغويتكم، هذا صحيح، وأنتم اتبعتموني، فأنتم المسئولون عن ذلك، فلم يكن لي عليكم من سلطان قوة أو سلطان إقناع: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22].
وبعد أن تكلم الحق عن القتال ومشروعيته، وقتال المنافقين، وقتال الآخرين. نجد الكلام يصل إلى موضوع القتل. فأوضح لهم: المسألة أنني أنا الذي عملت البنيان الآدمي، والحياة أنا الذي أهبها، وليس من السهل لباني البنيان أن يحرض على هدمه، إنما أنا أحرض على هدم هؤلاء الذين يقاتلونكم؛ لكي يسلم باقي البنيان لكم، وإياكم أن تجترئوا على بنيانات الناس، فملعون من يهدم بنيان الله؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق الحياة وهو الذي يأخذ الحياة، وحياة الناس ليست ملكًا لهم؛ فحياة الإنسان نفسه ليست ملكًا لنفسه، ولذلك فمن يقتل واحدًا، عُدْوانًا دون حق نقتص منه، وأما إن كان ذلك قد قتل خطأ فنأخذ منه الدية، وتنتهي المسألة. لكن قاتل نفسه تحرم عليه الجنة.
إذن فقبل أن يقول لي: لا تقتل غيرك قال لي: إياك وأن تقتل نفسك. إذن فسبحانه ليس بغيور فقط على الناس منك، بل يغار عليك أيضًا من نفسك، ولذلك فحين شرع سبحانه القصاص في القتل شرعة ليحميك لا ليجرئك على أن تقتل، أما عندما يأمر سبحانه: أن من قَتَلَ يُقتل. فهو يقسط ويعدل، والقصد من هذا الحفاظ على حياتين؛ لأنك إن علمت أنك إن قَتَلْتَهُ قُتِلْت لا تقتل.
وما دمت لا تقتل فقد حميت حياتين حياة من كنت ستقتله وحياتك من أن يُقتص منك وهذا هو معنى قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179].
إذن فالذي يتفلسف ويقول: هذه بشاعة وكذا وكذا نقول له: الذي يشرع القصاص أيريد أن يَقتل؟ لا، بل يريد أن يحمي حياتك؛ لأن القاتل عندما يعلم أنه إن قَتَلَ يُقتل فلا يقتل، وما دام لا يقتل نكون قد حافظنا على حياته وحياة الآخر. إذن فقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} قول صدق.
وعندما تكلم الحق عن القتال والقتل ينبهنا: إياكم وأن تجترئوا بسبب هذه المسائل على دماء الناس ولا على حياتهم؛ لذلك يتكلم سبحانه عن القتل المحظور في الإيمان والإسلام ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا...}. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}
ابْتَدَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْفَاءِ لِوَصْلِهَا بِمَا سَبَقَهَا، إِذِ السِّيَاقُ لَا يَزَالُ جَارِيًا فِي مَجْرَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ، وَذِكْرِ شُئُونِ الْمُنَافِقِينَ وَالضُّعَفَاءِ فِيهِ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فَتَخُونُهُ أَعْمَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنَافِقُ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصْرِ لَهُمْ وَهُمْ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ- وَكَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي إِبَّانِ الْحَرْبِ بِإِظْهَارِ الْوَلَاءِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِيمَانِ فِي غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ كَانُوا خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تَقُولُ نَقْتُلُهُمْ، وَفِرْقَةٌ تَقُولُ لَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَقَالَ: «مَنْ لِي بِمَنْ يُؤْذِينِي وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي؟»، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ قَتَلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَأَطَعْنَاكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا ابْنَ مُعَاذٍ طَاعَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ عَرَفْتَ مَا هُوَ مِنْكَ.
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: إِنَّكَ يَا ابْنَ عُبَادَةَ مُنَافِقٌ وَتُحِبُّ الْمُنَافِقِينَ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: اسْكُتُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ فِينَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَأْمُرُنَا فَنُنَفِّذُ أَمْرَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَرَبِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ وَحُمَّاهَا فَأُرْكِسُوا وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَهُمْ: مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ؟ قَالُوا: أَصَابَنَا وَبَاءُ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَافَقُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنَافِقُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ تَدْلِيسٌ وَانْقِطَاعٌ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِي يُؤْذِي النَّبِيَّ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِمَكَّةَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُعِينُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرَجَّحَهَا بَعْضُهُمْ حَتَّى عَلَى رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ بِذِكْرِ الْمُهَاجَرَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذِكْرِ سَنَدِهِ عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَوْلُهُ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا بِمَكَّةَ فَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عليه السلام فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْخُبَثَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللهِ- أَوْ كَمَا قَالُوا- تَقْتُلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَيَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، تُسْتَحَلُّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لِذَلِكَ؟! فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عِنْدَهُمْ لَا يَنْهَى وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ شَيْءٍ فَنَزَلَتْ، وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ قَدْ أَسْلَمُوا بِالْفِعْلِ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ بَعْضِ النَّاقِلِينَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَتَبُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَذِبًا، فَلَقُوهُمْ فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَلَالٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِمَاؤُهُمْ حَرَامٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُمْ نَاسٌ تَخَلَّفُوا عَنْ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ وَأَعْلَنُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَوَلَّاهُمْ نَاسٌ وَتَبَرَّأَ مِنْ وِلَايَتِهِمْ آخَرُونَ، وَقَالُوا: تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَسَمَّاهُمُ اللهُ مُنَافِقِينَ، وَبَرَّأَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَلَايَتِهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَتَوَلَّوْهُمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ رِوَايَاتِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا مُعْتَذِرِينَ بِالْمَرَضِ وَالتُّخَمَةَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ، ثُمَّ رَجَّحَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ مَكَّةَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لِذِكْرِ الْهِجْرَةِ فِي الْآيَةِ.
وَمِنَ الْمَعْهُودِ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِي مِثْلِ هَذَا بِتَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ وَنُزُولِ الْآيَةِ عَقِبَهَا، وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَقَائِعِ تَرَاخٍ وَزَمَنٌ طَوِيلٌ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَهَا كُلٌّ عَلَى وَاقِعَةٍ يَرَى أَنَّهَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ التَّفْسِيرِ لَا التَّارِيخِ، وَلَكِنَّ مِنَ الرِّوَايَاتِ مَا يَكُونُ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا فِي التَّارِيخِ وَتَعْيِينِ الْوَاقِعَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مَنْقُولَةً بِالْمَعْنَى كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الرِّوَايَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ فَهْمٍ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ وَرَأَيٌ فِي تَفْسِيرِهَا يُخْطِئُ فِيهِ وَيُصِيبُ، وَلَا يُلْزِمُ أَحَدًا أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، بَلْ لِمَنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَؤُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَلاسيما إِذَا كَانَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَاتِ يَأْبَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَدَّ رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي جَعْلِ الْمُرَادِ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا فِئَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ الَّذِينَ رَجَعُوا عَنِ اِلْقِتَالِ فِي أُحُدٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَأَيْتَ مِنْ ذِكْرِ الْمُهَاجِرَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ هَذَا اللَّفْظِ بِمَا تَرَاهُ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي رَدِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا دُونَهَا فِي قُوَّةِ السَّنَدِ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ- أَيِ الَّتِي جَعَلَتِ الْآيَةَ فِي مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ- أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يَعْمَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا فِي أَحَدٍ مِمَّنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ وَهُوَ قَتْلُهُمْ حَيْثُمَا وُجِدُوا بِشَرْطِهِ، وَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ صَدِّ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ السَّنَدِ عَنِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنَ الْآيَاتِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ خِدَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَنْصُرُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِي الْوَلَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ وَهَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي الدَّرْسِ:
الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} تُشْعِرُ بِارْتِبَاطِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْفَاءَ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَرِعُ الْجَاهِلُ تَعْلِيلَاتٍ وَمَعَانِيَ لِمَا لَا يَفْهَمُهُ، وَقَدْ يَخْتَرِعُ الرِّوَايَاتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِارْتِبَاطِ إِذِ الْكَلَامُ السَّابِقُ كَانَ فِي أَحْكَامِ الْقِتَالِ حَتَّى مَا وَرَدَ فِي الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَقَدْ خَتَمَهُ بِقَوْلِهِ: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إِلَخْ، أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرَهُ يُخْشَى وَيُخَافُ أَوْ يُرْجَى فَتُتْرَكُ تِلْكَ الْأَحْكَامُ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ وَهِيَ تُفِيدُ تَفْرِيعَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِيهَا عَلَى مَا قَبْلُهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَكُمْ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ وَتَوَعَّدَ الْمُبْطِئِينَ عَنْهُ وَالَّذِينَ تَمَنَّوْا تَأْخِيرَ كِتَابَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَيُتْرَكُ أَمْرُهُ وَطَاعَتُهُ لِأَجْلِهِ فَمَا لَكُمْ تَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَنْقَسِمُونَ فِيهِمْ إِلَى فِئَتَيْنِ؟