فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: بغير قسامة.
واختلفوا فيما به تُعلم حياتُه بعد اتفاقهم على أنه إذا استهل صارخًا أو ارتضع أو تنفّس نفسًا مُحقَّقة حَيٌّ، فيه الدّية كاملة؛ فإن تحرّك فقال الشافعيّ وأبو حنيفة: الحركة تدلّ على حياته.
وقال مالك: لا، إلاَّ أن يقارنها طول إقامة.
والذكر والأُنثى عند كافة العلماء في الحُكْم سواء.
فإن ألقته مَيّتًا ففيه غُرّة: عبدٌ أو وَلِيدةٌ.
فإن لم تُلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء فيه.
وهذا كله إجماع لا خلاف فيه.
ورُوي عن اللّيث بن سعد وداود أنهما قالا في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتًا بعد موتها: ففيه الغرة، وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها؛ المعتبر حياة أُمه في وقت ضربها لا غير.
وقال سائر الفقهاء: لا شيء فيه إذا خرج ميتًا من بطنها بعد موتها.
قال الطحاوِيّ محتجًا لجماعة الفقهاء بأن قال: قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضُرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شيء فيه؛ فكذلك إذا سقط بعد موتها.
ولا تكون الغُرة إلا بيضاء.
قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الجَنِين غُرّةٌ عبدٌ أو أَمة» لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغُرّة معنى لقال: في الجنين عبد أو أُمة، ولكنه عنى البياض؛ فلا يقبل في الدّية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء، لا يقبل فيها أسود ولا سوداء.
واختلف العلماء في قيمتها؛ فقال مالك: تقوّم بخمسين دينارًا أو ستمائة درهم؛ نصفُ عُشْر ديَة الحر المسلم، وعُشر دِية أُمّه الحرة؛ وهو قول ابن شهاب وربيعة وسائر أهل المدينة.
وقال أصحاب الرأي: قيمتها خمسمائة درهم.
وقال الشافعيّ: سِنّ الغُرّة سبع سنين أو ثمان سنين؛ وليس عليه أن يقبلها مَعِيبة.
ومقتضى مذهب مالك أنه مخيّر بين إعطاء غُرّة أو عُشْر دية الأُم، من الذهب عشرون دينارًا إن كانوا أهل ذهب، ومن الوَرقِ إن كانوا أهل ورِق ستمائة درهم، أو خمس فرائض من الإبل.
قال مالك وأصحابه: هي في مال الجاني؛ وهو قول الحسن بن حَيّ.
وقال أبو حنيفة والشافعيّ وأصحابهما: هي على العاقلة.
وهو أصح؛ لحديث المُغيِرة بن شعبة: أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الأنصار في رواية فتغايرتا فضربت إحداهما الأُخرى بعمود فقتلتها، فاختصم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجلان فقالا: نَدِي مَن لا صاح ولا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يُطَلّ؛ فقال: «أسَجْعٌ كسَجْعِ الأَعْراب»؟ فقضى فيه غُرّةً وجعلها على عاقلة المرأة وهو حديث ثابت صحيح، نصٌّ في موضع الخلاف يوجب الحكم.
ولما كانت دِيَةُ المرأة المضروبة على العاقلة كان الجَنين كذلك في القياس والنظر.
واحتج علماؤنا بقول الذي قُضي عليه: كيف أغرم؟ قالوا: وهذا يدلّ على أن الذي قُضي عليه معيَّن وهو الجاني.
ولو أن دية الجنين قضى بها على العاقلة لقال: فقال الذي قضى عليهم.
وفي القياس أن كلّ جانٍ جنايتُه عليه، إلا ما قام بخلافه الدليلُ الذي لا معارِض له؛ مثلُ إجماعٍ لا يجوز خلافه، أو نصِّ سنةٍ من جهة نقل الآحاد العدول لا معارِض لها، فيجب الحكم بها، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164].
ولا خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حَيًّا فيه الكفارة مع الدِّية.
واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتًا؛ فقال مالك: فيه الغُرّة والكفارة.
وقال أبو حنيفة والشافعيّ: فيه الغُرّة ولا كفارة.
واختلفوا في ميراث الغرّة عن الجنين؛ فقال مالك والشافعيّ وأصحابهما: الغُرّة في الجنِين موروثةٌ عن الجنين على كتاب الله تعالى؛ لأنها دية.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الغُرّة للأُمّ وحدها؛ لأنها جناية جنى عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية.
ومن الدليل على ذلك أنه لم يُعتبر فيه الذكر والأُنثى كما يلزم في الديات، فدلّ على أن ذلك كالعضو.
وكان ابن هُرْمُز يقول: دِيتُه لأبويه خاصّةً؛ لأبيه ثلثاها ولأُمّه ثلثها، من كان منهما حَيًّا كان ذلك له، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أما، ولا يرث الإخوة شيئًا. اهـ. بتصرف يسير.
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ}

.قال الفخر:

{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد، ومعنى التصدق الإعطاء قال الله تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين} [يوسف: 88] والمعنى: إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية.
قال صاحب الكشاف: وتقدير الآية، ويجب عليه الدية وتسليمها إلى حين يتصدقون عليه، وعلى هذا فقوله: {أَن يَصَّدَّقُواْ} في محل النصب على الظرف، ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي يتصدق أهله عليه، وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه، وقد أخرج الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة» وهو متعلق بعليه قبل، أو بمسلمة أي فعليه الدية أو يسلمها في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولا يلزم تسليمها، وليس فيه كما قيل دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} فالمنسبك في محل نصب على الاستثناء، وقال الزمخشري: إن المنسبك في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف، وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن {إن} والفعل لا يجوز وقوعهما حالًا، ولا منصوبًا على الظرفية كما نص عليه النحاة وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع {إن} وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله:
فقلت لها لا تنكحيه فإنه ** لأول سهم (أن) يلاقي مجمعا

أي لأول سهم زمان ملاقاته، وابن مالك كما قال السفاقسي يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا وبأن يلاقي، وقرأ أبي إلا أن يتصدقوا. اهـ.

.قال القرطبي:

وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم؛ لأنه أتلف شخصًا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلّص آخَرَ لعبادة ربّه وإنّما تسقط الدية التي هي حقّ لهم.
وتجب الكفارة في مال الجاني ولا تُتَحَمَّل. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى: أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية، وذكر في هذه الآية أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا من قوم عدو لنا فعليه تحرير الرقبة وسكت عن ذكر الدية، ثم ذكر بعد أن المقتول إن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وجبت الدية، والسكوت عن إيجاب الدية في هذه الآية مع ذكرها فيما قبل هذه الآية، وفيما بعدها يدل على أن الدية غير واجبة في هذه الصورة.
إذا ثبت هذا فنقول: كلمة «من» في قوله: {مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ} إما أن يكون المراد منها كون هذا المقتول من سكان دار الحرب، أو المراد كونه ذا نسب منهم، والثاني باطل لانعقاد الإجماع على أن المسلم الساكن في دار الإسلام، وجميع أقاربه يكونون كفارا، فإذا قتل على سبيل الخطأ وجبت الدية في قتله، ولما بطل هذا القسم تعين الأول فيكون المراد: وإن كان المقتول خطأ من سكان دار الحرب وهو مؤمن، فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة، فأما وجوب الدية فلا.
قال الشافعي رحمه الله: وكما دلت هذه الآية على هذا المعنى فالقياس يقويه، أما أنه لا تجب الدية فلأنا لو أوجبنا الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب لاحتاج من يريد غزو دار الحرب إلى أن يبحث عن كل أحد أنه هل هو من المسلمين أم لا، وذلك مما يصعب ويشف فيفضي ذلك إلى احتراز الناس عن الغزو، فالأولى سقوط الدية عن قاتله لأنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره السكنى في دار الحرب، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى، لأنه لما صار ذلك الإنسان مقتولا فقد هلك إنسان كان مواظبا على عبادة الله تعالى، والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله، فإذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات، فظهر أن القياس يقتضي سقوط الدية، ويقتضي بقاء الكفارة، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ} هذه مسألة المؤمن يُقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار.
والمعنى عند ابن عباس وقتادةَ والسُّدِّي وعكرمَة ومجاهد والنَّخَعِيّ: فإن كان هذا المقتول رجلًا مؤمنًا قد آمن وبَقَي في قومه وهم كفرة {عَدُوٍّ لَّكُمْ} فلا دِيَة فيه؛ وإنما كفارته تحرير الرّقبة.
وهو المشهور من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة.
وسقطت الدّية لوجهين: أحدهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقوّوا بها.
والثاني أن حرمة هذا الذي آمن ولم يُهاجر قليلةٌ، فلا دية؛ لقوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72].
وقالت طائفة: بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط؛ فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه كفارته التحرير ولا دية فيه، إذ لا يصح دفعها إلى الكفار، ولو وجبت الدية لوجبت لبيت المال على بيت المال؛ فلا تجب الدية في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد الإسلام.
هذا قول الشافعيّ وبه قال الأُوزاعيّ والثَّوْريّ وأبو ثَوْر.
وعلى القول الأوّل إن قتِل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة.
قلت: ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أُسَامَةَ قال: بعثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرِيّة فصبّحنا الحُرَقات من جُهَينة فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلاَّ الله؛ فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقال لا إله إلا الله وقتلَته» قال: قلت يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح؛ قال: «أفلا شَققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا»؟.
فلم يحكم عليه صلى الله عليه وسلم بِقصاص ولا دية. وروي عن أُسامة أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعدُ ثلاث مرات، وقال: «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولادية.
فقال علماءنا: أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانًا؛ وأما سقوط الدية فلأوجهٍ ثلاثة: الأوّل لأنه كان أذِن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غَلَطًا كالخاتن والطبيب.
الثاني لكونه من العدوّ ولم يكن له وليٌّ من المسلمين تكون له ديته؛ لقوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} كما ذكرنا.
الثالث أن أُسَامَة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة اعترافًا، ولعل أُسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية. والله أعلم. اهـ.