فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فيه قولان:
الأول: أن المراد منه المسلم، وذلك لأنه تعالى ذكر أولا حال المسلم القاتل خطأ ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل الحرب، ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد وأهل الذمة ولا شك أن هذا ترتيب حسن فكان حمل اللفظ عليه جائزا، والذي يؤكد صحة هذا القول أن قوله: {وَإِن كَانَ} لابد من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدم، والذي جرى ذكره فيما تقدم هو المؤمن المقتول خطأ.
فوجب حمل اللفظ عليه.
القول الثاني: أن المراد منه الذمي، والتقدير: وإن كان المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق ومعنى كون المقتول منهم أنه على دينهم ومذهبهم، والقائلون بهذا القول طعنوا في القول الأول من وجوه: الأول: أن المسلم المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت قوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} فلو كان المراد من هذه الآية هو المؤمن لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وأنه لا يجوز، بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكان دار الحرب، فإنه تعالى إنما أعاده لبيان أنه لا تجب الدية في قتله، وأما في هذه الآية فقد أوجب الدية والكفارة، فلو كان المراد منه هو المؤمن لكان هذا إعادة وتكرارا من غير فائدة وأنه لا يجوز.
الثاني: أنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه.
الثالث: أن قوله: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ} يقتضي أن يكونوا من ذلك القوم في الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما، فإن كونه منهم مجمل لا يدرى أنه منهم في أي الأمور، وإذا حملناه على كونه منهم في ذلك الوصف زال الاجمال فكان ذلك أولى، وإذا دلت الآية على أنه منهم في كونه معاهدا وجب أن يكون ذميا أو معاهدا مثلهم ويمكن أن يجاب عن هذه الوجوه:
أما الأول: فجوابه أنه تعالى ذكر حكم المؤمن المقتول على سبيل الخطأ، ثم ذكر أحد قسميه وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان دار الحرب، فبين أن الدية لا تجب في قتله، وذكر القسم الثاني وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان مواضع أهل الذمة، وبين وجوب الدية والكفارة في قتله، والغرض منه إظهار الفرق بين هذا القسم وبين ما قبله.
وأما الثاني: فجوابه أن أهله هم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم.
وأما الثالث: فجوابه أن كلمة «من» صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة «في» يعني في قوم عدو لكم، فكذا هاهنا يجب أن يكون المعنى ذلك لا غير.
واعلم أن فائدة هذا البحث تظهر في مسألة شرعية، وهي أن مذهب أبي حنيفة أن دية الذمي مثل دية المسلم، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المجوسي، ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم.
واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ} المراد به الذمي، ثم قال: {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فأوجب تعالى فيهم تمام الدية، ونحن نقول: إنا بينا أن الآية نازلة في حق المؤمنين لا في حق أهل الذمة فسقط الاستدلال، وأيضا بتقدير أن يثبت لهم أنها نازلة في أهل الذمة لم تدل على مقصودهم، لأنه تعالى أوجب في هذه الآية دية مسلمة، فهذا يقتضي إيجاب شيء من الأشياء التي تسمى دية، فلم قلتم إن الدية التي أوجبها في حق الذمي هي الدية التي أوجبها في حق المسلم؟ ولم لا يجوز أن تكون دية المسلم مقدارًا معينا.
ودية الذمي مقدارًا آخر، فإن الدية لا معنى لها إلا المال الذي يؤدى في مقابلة النفس، فإن ادعيتم أن مقدار الدية في حق المسلم وفي حق الذمي واحد فهو ممنوع، والنزاع ما وقع إلا فيه، فسقط هذا الاحتجاج، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} هذا في الذمِّي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة؛ قاله ابن عباس والشَّعْبِيّ والنَّخَغِيّ والشافعيّ.
واختاره الطبريّ قال: إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب.
وإطلاقه ما قيّد قبلُ يدلّ على أنه خلافه.
وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضًا: المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنًا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحقّ بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء الدية.
وقرأها الحسن: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
قال الحسن: إذا قتل المسلم الذميّ فلا كفارة عليه.
قال أبو عمر: وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} ثم قال تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ} يريد ذلك المؤمن. والله أعلم.
قال ابن العربيّ: والذي عندي أن الجملة محمولةٌ حملَ المطلق على المقيَّد.
قلت: وهذا معنى ما قاله الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز.
وقوله: {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} على لفظ النكرة ليس يقتضي ديةً بعينها.
وقيل: هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبيّ عليه السلام عهد على أن يُسلموا أو يؤذَنوا بحرب إلى أجل معلوم: فمن قُتل منهم وجبت فيه الديّة والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1]. اهـ.

.قال الفخر:

لقائل أن يقول: لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وههنا عكس هذا الترتيب، إذ لو أفاده لتوجه الطعن في إحدى الآيتين فصار هذا كقوله: {ادخلوا الباب سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] وفي آية أخرى {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب} [الأعراف: 161] والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله} أي فعليه ذلك بدلا عن الرقبة إذا كان فقيرا، وقال مسروق إنه بدل عن مجموع الكفارة والدية، والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس، وقوله: {تَوْبَةً مّنَ الله} انتصب بمعنى صيام ما تقدم، كأنه قيل: اعملوا بما أوجب الله عليكم لأجل التوبة من الله، أي ليقبل الله توبتكم، وهو كما يقال: فعلت كذا حذر الشر.
فإن قيل: قتل الخطأ لا يكون معصية، فما معنى قوله: {تَوْبَةً مّنَ الله}.
قلنا فيه وجوه:
الأول: أن فيه نوعين من التقصير، فإن الظاهر أنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل، ألا ترى أن من قتل مسلما على ظن أنه كافر حربي، فلو أنه بالغ في الاحتياط والاستكشاف فالظاهر أنه لا يقع فيه، ومن رمى إلى صيد فأخطأ وأصاب إنسانا فلو احتاط فلا يرمي إلا في موضع يقطع بأنه ليس هناك إنسان فإنه لا يقع في تلك الواقعة، فقوله: {تَوْبَةً مّنَ الله} تنبيه على أنه كان مقصرا في ترك الاحتياط.
الوجه الثاني في الجواب: أن قوله: {تَوْبَةً مّنَ الله} راجع إلى أنه تعالى أذن له في إقامة الصوم مقام الاعتاق عند العجز عنه، وذلك لأن الله تعالى إذا تاب على المذنب فقد خفف عنه، فلما كان التخفيف من لوازم التوبة أطلق لفظ التوبة لارادة التخفيف إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم.
الوجه الثالث في الجواب: أن المؤمن إذا اتفق له مثل هذا الخطأ فإنه يندم ويتمنى أن لا يكون ذلك مما وقع فسمى الله تعالى ذلك الندم وذلك التمني توبة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها.
{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} أي فعليه صيام شهرين.
{مُتَتَابِعَيْنِ} حتى لو أفطر يومًا استأنف؛ هذا قول الجمهور.
وقال مَكِّيّ عن الشعبي: إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد.
قال ابن عطية: وهذا القول وَهَم؛ لأن الديّة إنما هي على العاقلة وليست على القاتل.
والطبريّ حكى هذا القول عن مسروق.
والحَيْض لا يمنع التتابع من غير خلاف، وأنها إذا طهرت ولم تؤخر وَصَلَتْ باقي صيامها بما سلف منه، لا شيء عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرًا قبل الفجر فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها، فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء؛ قاله أبو عمر.
واختلفوا في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين؛ فقال مالك: وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يُفطر إلا من عذر أو مرض أو حيض، وليس له أن يسافر فيُفطر.
وممن قال يبْنِي في المرض سعيد بن المُسِّيب وسليمان بن يَسار والحسن والشّعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس.
وقال سعيد بن جُبير والنَّخَعيّ والحكم بن عيينة وعطاء الخراساني: يستأنف في المرض؛ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حَيّ؛ وأحد قولي الشافعي؛ وله قول آخر: إنه يبني كما قال مالك.
وقال ابن شُبْرُمة: يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان.
قال أبو عمر: حجة من قال يبني لأنه معذور في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد، وقد تجاوز الله عن غير المتعمد.
وحجّة من قال يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط لعذر، وإنما يسقط المأثم؛ قياسًا على الصلاة؛ لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذر استأنف ولم يَبْن. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

{وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} والمعنى أنه تعالى عليم بأنه لم يقصد ولم يتعمد حكيم في أنه ما يؤاخذه بذلك الفعل الخطأ، فإن الحكمة تقتضي أن لا يؤاخذ الإنسان إلا بما يختار ويتعمد.
واعلم أن أهل السنة لما اعتقدوا أن أفعال الله تعالى غير معللة برعاية المصالح قالوا: معنى كونه تعالى حكيما كونه عالما بعواقب الأمور.
وقالت المعتزلة: هذه الآية تبطل هذا القول لأنه تعالى عطف الحكيم على العليم، فلو كان الحكيم هو العليم لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وهو محال.
والجواب: أن في كل موضع من القرآن ورد فيه لفظ الحكيم معطوفا على العليم كان المراد من الحكيم كونه محكما في أفعاله، فالأحكام والإعلام عائدان إلى كيفية الفعل، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَكَانَ الله} أي في أزله وأبده.
{عَلِيمًا} بجميع المعلومات.
{حَكِيمًا} فيما حكم وأبرم. اهـ.

.قال الخازن:

فصل في أحكام تتعلق بالآية:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في بيان صفة القتل:
قال الشافعي: القتل على ثلاثة أقسام: عمد وشبه عمد وخطأ، أما العمد المحض فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقتل به غالبًا فقتل به ففيه القصاص عند وجود التكافؤ أو دية حالة مغلظة في مال القاتل.
وأما شبه العمد فهو أن يقصد ضرب إنسان بما لا يقتل بمثله غالبًا مثل أن ضربه بعصا خفيفة أو رماه بحجر صغير فمات فلا قصاص عليه وتجب عليه دية مغلظة على عائلته مؤجلة إلى ثلاث سنين.