فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن جرير عن الضحاك {فمن لم يجد فصيام شهرين} قال: الصيام لمن لا يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مسروق أنه سئل عن الآية التي في سورة النساء {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} صيام الشهرين عن الرقبة وحدها أو عن الدية والرقبة؟ قال: من لم يجد فهو عن الدية والرقبة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد. أنه سئل عن صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا يفطر فيها ولا يقطع صيامها، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامها جميعًا، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستون مسكينًا لكل مسكين مد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن {فصيام شهرين متتابعين} تغليظًا وتشديدًا من الله قال: هذا في الخطأ تشديد من الله.
وأخرج عن سعيد بن جبير في قوله: {توبة من الله} يعني تجاوزًا من الله لهذه الأمة حين جعل في قتل الخطأ كفارة ودية {وكان الله عليمًا حكيمًا} يعني حكم الكفارة لمن قتل خطأ، ثم صارت دية العهد والموادعة لمشركي العرب منسوخة، نسختها الآية التي في براءة {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين». اهـ.

.تفسير الآية رقم (93):

قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ساق تعالى الخطأ مساق ما هو للفاعل منفرًا عنه هذا التنفير، ناسب كل المناسبة أن يذكر ما ليس له من ذلك، إذ كان ضبط النفس بعد إرسالها شديدًا، فربما سهلت قتل من تحقق إسلامه إحنة، وجرت إليه ضغينة وقوت الشبه فيه شدة شكيمة، ولعمري إن الحمل على الكف بعد الإرسال أصعب من الحمل على الإقدام! وإنما يعرف ذلك من جرب النفوس حال الإشراف على الظفر واللذاذة بالانتقام مع القوى والقدرة فقال: {ومن يقتل مؤمنًا} ولعله أشار بصيغة المضارع إلى دوم العزم على ذلك لأجل الإيمان، وهو لا يكون إلا كفرًا، وترك الكلام محتملًا زيادة تنفير من قتل المسلم {متعمّدًا} أي وأما الخطأ فقد تقدم حكمه في المؤمن وغيره {فجزاؤه} أي على ذلك {جهنم} أي تتلقاه بحالة كريهة جدًا كما تجهم المقتول {خالداَ فيها} أي ماكثًا إلى ما لا آخر له {وغضب الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له مع ذلك {عليه ولعنه} أي وأبعده من رحمته {وأعد له عذابًا عظيمًا} أي لا تبلغ معرفته عقولكم، وإن عمم القول في هذه الآية كان الذي خصها ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48 و116] لا آية الفرقان فإنها مكية وهذه مدنية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}
هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس، وإنّما أخرّ لتهويل أمره، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلاّ خطأ} [النساء: 92].
والمتعمّد: القاصد للقتل، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب.
والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلًا لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء.
ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء: القتل نوعان عمد وخطأ، وهو الجاري على وفق الآية، ومن الفقهاء من جعل نوعًا ثالثًا سمّاه شبه العمد، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه.
وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَسًا بنَ صُبَابة وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلًا في بني النجّار، ولم يُعرف قاتله، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل، دية أخيه، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله، واستاق الإبل، وانصرف إلى مكة كافرًا، وأنشد في شأن أخيه:
قتلتُ به فهِرًا وحَمَّلْتُ عقلَه ** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع

حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي ** وكنتُ إلى الأوثاننِ أوّلَ راجع

وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، فقتِل بسوق مكة.
وقوله: {خالدًا فيها} مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمدًا، لأنّ قتل النفس ليس كفرًا بالله ورسوله، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر، على قول علمائنا من أهل السنّة، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي.
قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر:
ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه ** يَرُدّ مَلْكًا وللأرضضِ عامِرا

ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة.
وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمدًا، كما تَرِد على غيرها من الكبائر، إلاّ أنّ نَفرًا من أهل السنّة شذّ شذوذًا بيّنا في محمل هذه الآية: فروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس: أنّ قاتل النفس متعمّدًا لا تقبل له توبة، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به، أخذًا بهذه الآية، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال: آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس، فسألتُه عنها، فقال: نزلت هذه الآية {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها} الآية.
هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء، فلم يأخذ بطريق التأويل.
وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس: فحمله جماعة على ظاهره، وقالوا: إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل، فقد نَسخَت الآياتتِ التي قبلها، التي تقتضي عموم التوبة، مثل قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116]، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله: {واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} [طه: 82]، ومثل قوله: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا} [الفرقان: 68، 69].
والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة.
فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه، وهو طولُ المدّة في العقاب، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد، وكيف يُحرم من قبول التوبة، والتوبةُ من الكفر، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة، فكيف بما هو دونه من الذنوب.
وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر، لئلاّ يجترئ الناس على قتل النفس عمدًا، ويرجون التوبة، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال: «ألِمَنْ قتل مؤمنًا متعمّدًا توبة» فقال: «لاَ إلاّ النار»، فلمّا ذهب قال له جلساؤه «أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة» فقال: «إنّي لأحْسِبُ السائل رجلًا مغضَبًا يريد أن يقتل مؤمنًا»، قل: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.
وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفسًا يقول له: «توبتُك مقبولة» وإذا سأله من لم يقتل، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس، قال له: لا توبةَ للقاتل.
وأقول: هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره، دون تأويل، لشدّة تأكيده تأكيدًا يمنع من حمل الخلود على المجاز، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة، بخلاف بقية آي الوعيد، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد: من محامِل التأويل، أو الجمععِ بين المتعارضات، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان [68، 69]: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} إلى قوله: {إلاّ من تاب} لأنّ قوله: {ومن يفعل ذلك} إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمدًا أجدر، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمدًا مما عُدَّ معها.
ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير: إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء.
ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة.
وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، بناء على أنّ عموم {من يشاء} نَسَخ خصوصَ القتل.
وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسٍ بن صُبابة، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ «من» شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه.
وهذه كلّها ملاجئ لا حاجة إليها، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر.
على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيدًا لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود.
إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّدًا لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض.
وهو الوعيد، لا أنواعه.
وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة.
وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه، والتعويل عليه. اهـ.

.قال ابن عطية:

«المتعمد» في لغة العرب القاصد إلى الشيء، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما: هو من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة ونحوه، وقالت فرقة: «المتعمد» كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، وهذا قول الجمهور وهو الأصح، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد، ورأوا فيه تغليظ الدية، ومالك رحمه الله لا يرى شبه العمد ولا يقول به في شيء، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمدًا وخطأ لا غير، والقتل بالسم عنده عمد، وإن قال ما أردت إلا سكره، وقوله: {فجزاؤه جهنم} تقديره عند أهل السنة، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك ومستحقه لعظم ذنبه، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره، وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية، وأنها مخصصة بعمومها لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء 48- 116] وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت الشديدة بعد الهينة، يرد نزلت {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا} بعد {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء 48- 116] فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتمًا على كل قاتل يقتل مؤمنًا، ويرونه عمومًا ماضيًا لوجهه، مخصصًا للعموم في قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48 و116] كأنه قال: إلا من قتل عمدًا.