فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأهل الحق يقولون لهم: هذا العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين، إحداهما ما أنتم معنا مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقرأ بالقتل عمدًا ويأتي السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودًا، فهذا غير متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعًا متركبًا. على الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت، أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له، وهذا نقض للعموم، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم، بل لفظ مشترك يقع كثيرًا للخصوص، كقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه، وكقول الشاعر زهير بن أبي سلمى: [الطويل]
وَمَنْ لا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ ** يُهَدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ

وهذا إنما معناه الخصوص، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان، ومراده باللينة قوله تعالى: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الفرقان: 68]، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال: أنزلت الآية {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا} بعد قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48- 116] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن حبابة، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتدًا، وجعل ينشد: [الطويل]
قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ** سراةَ بني النَّجَّارِ أربابَ فَارِعِ

حَللْتُ بِهِ وِتْرِي وأدْرَكْتُ ثورتي ** وكنتُ إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجِعِ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أؤمنه في حل ولا في حرم» وأمر بقتله يوم فتح مكة، وهو متعلق بالكعبة، وأما أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال: {متعمدًا} معناه مستحلًا لقتله. فهذا يؤول أيضًا إلى الكفر، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل، فجزاؤه أ، جازاه، ويكون قوله: {خالدًا} إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك، ويدل على هذا سقوط قوله «أبدًا» فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار.
واختلف العلماء في قبول توبة القاتل، فجماعة على أن لا تقبل توبته، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر، وكان ابن عباس يقول: الشرك والقتل مبهمان، من مات عليهما خلد، وكان يقول: هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان، إذ الفرقان مكية والجمهور على قبول توبته، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحيانًا، فيطلقون: لا تقبل توبة القاتل، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له: توبتك مقبولة، وإذا سأله من لم يفعل، قال له: لا توبة للقاتل، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلًا سأله أللقاتل توبة؟ فقال له: لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم، فلما مضى السائل قال له أصحابه: ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة، فقال لهم: إني رأيته مغضبًا وأظنه يريد أن يقتل، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه، فإذا هو كذلك. وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48- 116] وقال: هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر، فإنهما قالا: هي محكمة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفيما قاله هبة الله نظر، لأنه موضع عموم وتخصيص، لا موضع نسخ، وإنما ركب كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل، والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

استدلت الوعيدية بهذه الآية على أمرين:
أحدهما: على القطع بوعيد الفساق.
والثاني: على خلودهم في النار، ووجه الاستدلال أن كلمة «من» في معرض الشرط تفيد الاستغراق، وقد استقصينا في تقرير كلامهم في سورة البقرة في تفسير قوله: {بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [البقرة: 81] وبالغنا في الجواب عنها، وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة.
قال: وأنا لا أرتضي شيئا منها لأن التي ذكروها إما تخصيص، وإما معارضة، وإما إضمار، واللفظ لا يدل على شيء من ذلك.
قال: والذي أعتمده وجهان:
الأول: إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر تلك القصة.
والثاني: أن قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} معناه الاستقبال أي أنه سيجزى بجهنم، وهذا وعيد قال: وخلف الوعيد كرم، وعندنا أنه يجوز أن يخلف الله وعيد المؤمنين، فهذا حاصل كلامه الذي زعم أنه خير مما قاله غيره.
وأقول: أما الوجه الأول فضعيف، وذلك لأنه ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا ثبت أن اللفظ الدال على الاستغراق حاصل، فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم، فيسقط هذا الكلام بالكلية، ثم نقول: كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة، فكذا هاهنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر، وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون إليه عند اشتغالهم بالجهاد، فابتدأ بقوله: {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ} [النساء: 92] فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات: كفارة قتل المسلم في دار الإسلام، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ، وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين، فإن لم يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه.
الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف، وعلى هذا التقدير: فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الايمان؛ وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا} نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار.
الثالث: أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وبهذا الطريق عرفنا أن قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقوله: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا} [النور: 2] الموجب للقطع هو السرقة، والموجب للجلد هو الزنا، فكذا هاهنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو هذا القتل العمد، لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم، فلزم كون ذلك الحكم معللا به، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال: أينما ثبت هذا المعنى فإنه يحصل هذا الحكم، وبهذا الوجه لا يبقى لقوله: الآية مخصوصة بالكافر وجه.
الوجه الرابع: أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص، فإن كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلا قبل هذا القتل، فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر ألبتة في هذا الوعيد، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال: إن من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه، لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد، ومعلوم أن ذلك باطل، وإن كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلا عمدا فحينئذ يلزم أن يقال: أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد، وحينئذ يسقط هذا السؤال، فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء.
وأما الوجه الثاني: من الوجهين اللذين اختارهما فهو في غاية الفساد لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر، فإذا جوز على الله الخلف فيه فقد جوز الكذب على الله، وهذا خطأ عظيم، بل يقرب من أن يكون كفرًا، فإن العقلاء أجمعوا على أنه تعالى منزه عن الكذب، ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال: إن الخلف في الوعيد كرم، فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة، ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن وكل الشريعة فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء.
وحكى القفال في تفسيره وجها آخر، هو الجواب وقال: الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر، لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا، وقد يقول الرجل لعبده: جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا، إلا أني لا أفعله، وهذا الجواب أيضًا ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين.
قال تعالى: {مَن يَعْمَلُ سُوءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقال: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل إليهم هذا الجزاء وهو قوله: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} فإن بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} فلو كان قوله: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} إخبارا عن الاستحقاق كان تكرارا، فلو حملناه على الاخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار، فكان ذلك أولى.
واعلم أنا نقول: هذه الآية مخصوصة في موضعين:
أحدهما: أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد ألبتة.
والثاني: القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فإنه لا يحصل فيه الوعيد، وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] وأيضًا فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد، وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد، وما ذكره في ترجيح عمومات الوعيد قد أجبنا عنه وبينا أن عمومات الوعد راجحة، وكل ذلك قد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطت بِهِ خَطِيئَتُهُ فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [البقرة: 81]. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم: هي محكمة، واحتجّوا بأنها خبرٌ، والأخبار لا تحتمل النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين، إِحداهما قالت: هي على ظاهرها، وقاتل المؤمن مخلد في النار.
والفرقة الثانية قالت: هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص، فأي دليل صلح للتخصيص، وجب العمل به.
ومن أسباب التخصيص أن يكون قَتله مستحلًا، فيستحق الخلود لاستحلاله.
وقال قومٌ: هي مخصوصة في حقّ من لم يَتُب، واستدلوا بقوله تعالى في الفرقان: {إِلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فاؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا} [الفرقان: 70].
وقال آخرون: هي منسوخة بقوله: {إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. اهـ.