فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} روي عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند عبد الله بن عباس بعدما كفّ بصره، فجاءه رجل فناداه: ما تقول فيمن قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدًا فيها.
{وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} فقال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له الهدى، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «يَأَتِي قَاتِلُ المُؤْمِنِ مُتَعَمِّدًا وَيَتَعَلَّقُ بِهِ المَقْتُولُ عِنْدَ عَرْشِ الرحمن، فَيَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هذا فِيمَ قَتَلَنِي؟» فوالذي نفسي بيده في هذا أنزلت هذه الآية، فما نسختها آية بعد نبيكم، وما نزل بعده من برهان.
وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما قالا: لا توبة له.
وقال غيرهم: له التوبة لأن الله تعالى ذكر الشرك والقتل والزنى ثم قال: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالحا فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حسنات وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} إلى قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالحا فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حسنات وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70] ويقال: معناه فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، أي داخلًا فيها لأنه لم يذكر فيها الأبد، كما أن الرجل يقول: خلدت فلانًا في السجن أي أدخلته.
ويقال فجزاؤه جهنم أي إن جازاه.
وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا وَعَدَ الله لِعَبْدِهِ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ، وَإِنْ أَوْعَدَ لَهُ العُقُوبَةَ فَلَهُ المَشِئَةُ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْه» ويقال: معناه من يقتل مؤمنًا متعمدًا يعني مستحّلًا لقتله، فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، لأنه كفر باستحلاله.
ويقال: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا} يعني يقتله متعمدًا لأجل إيمانه، كما روي في الأثر أن بغض الأنصار كفر إن كان بغضهم لأجل نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك ها هنا إذا قتله لأجل إيمانه صار كافرًا.
ويقال هو منسوخ بقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] ويقال: معناه فجزاؤهم جهنم بقتله خالدًا فيها بارتداده، لأن الآية نزلت في شأن رجل قتل مؤمنًا متعمدًا ثم ارتد عن الإسلام، وهو مقيس بن ضبابة، وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلًا في بني النجار، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من بني فهر إلى بني النجار، وأمره بأن يقرئهم السلام ويأمرهم بأن يطلبوا قاتله، فإن وجدوه قتلوه، وإن لم يجدوه حلفوا خمسين يمينًا وغرموا الدية، فلما أتاهم مقيس بن ضبابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم الرسالة، فقالوا سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله.
وقالوا: ما نعرف قاتله، فحلفوا وغرموا الدية.
فلما رجع مقيس بن ضبابة قال في نفسه: إني بعت دم أخي بمائة من الإبل.
ودخلت فيه حمية الجاهلية، وقال: أقتل هذا الفهري مكان أخي، وتكون الدية فضلًا لي.
فقتله وتوجه إلى مكة وقال في ذلك شعرًا:
قتلت به فهرًا وحملت عقله ** سراة بني النجار أرباب فارع

فأدركت ثأري واضطجعت موسدا ** وكنت إلى الأوثان أول راجع

فنزلت هذه الآية في شأنه إن جزاؤه جهنم خالدًا فيها وكل من يعمل مثل عمله. اهـ.

.قال الفخر:

نقل عن ابن عباس أنه قال: توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة، وقال جمهور العلماء: إنها مقبولة، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى: أن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول.
الحجة الثانية: قوله تعالى في آخر الفرقان: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يلق أثامًا يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالحا} [الفرقان: 68- 70] وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة: فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى.
الحجة الثالثة: قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر، فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى، والله أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني:

وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] وقوله: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25].
وقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، قالوا أيضًا: والجمع ممكن بين آية النساء هذه، وآية الفرقان، فيكون معناهما: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لاسيما، وقد اتحد السبب، وهو القتل، والموجب، وهو التوعد بالعقاب. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال الزمخشري: وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلًا.
وفي الحديث: «من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية، وقول ابن عباس مع التوبة، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة، واتباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغيرتوبة، {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أن يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسم للأطماع وأي حسم، ولكنْ لا حياة لمن تنادي.
(فإن قلت): هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر؟ (قلت): ما أبين الدليل فيها، وهو تناول قوله: {ومن يقتل}، أي قاتل كان من مسلم، أو كافر تائب، أو غير نائب، إلا أنَّ التائب أخرجه الدليل.
فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله انتهى كلامه.
وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع.
وأما قوله: ما أبين الدليل فيها، فليس ببين، لأن المدّعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر، وهذا عام في الكبائر.
والآية في كبيرة مخصوصة وهي: القتل لمؤمن عمدًا، وهي كونها أكبر الكبائر بعد الشرك، فيجوز أن تكون هذه الكبيرة المخصوصة حكمها غير حكم سائر الكبائر، مخصوصة كونها أكبر الكبائر بعد الشرك، فلا يكون في الآية دليل على ما ذكر، فظهر أنّ قوله: ما أبين الدّليل منها، غير صحيح. اهـ.

.قال القرطبي:

قال رحمه الله:
اختلف العلماء في صفة المتعمِّد في القتل؛ فقال عطاء والنَّخَعيّ وغيرهما: هو من قَتل بحديدة كالسيف والخنجر وسِنان الرّمح ونحو ذلك من المشحوذ المُعَدّ للقطع أو بما يُعلم أن فيه الموتَ من ثقال الحجارة ونحوها.
وقالت فرقة: المتعمّد كل مَن قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك؛ وهذا قول الجمهور.
ذكر الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شِبْهَ العمد وقد اختلف العلماء في القول به؛ فقال ابن المنذر: أنكر ذلك مالك، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ.
وذكره الخَطّابِيّ أيضًا عن مالك وزاد: وأما شبه العمد فلا نعرفه.
قال أبو عمر: أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد؛ فمن قُتل عندهما بما لا يَقتل مثلُه غالبًا كالعَضّة واللّطْمة وضربة السوط والقَضِيب وشبه ذلك فإنه عَمْد وفيه القَوَد.
قال أبو عمر: وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين.
وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كلّه شبهُ العمد.
وقد ذُكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين.
قال ابن المنذر: وشبه العمد يُعمل به عندنا.
وممن أثبت شِبْهَ العَمْد الشَّعْبيُّ والحَكَم وحمّاد والنَّخَعيّ وقَتادةُ وسفيان الثَّوْرِيّ وأهلُ العراق والشافعيّ، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.
قلت: وهو الصحيح؛ فإن الدماء أحقُّ ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أُهُبِها، فلا تُستباح إلا بأمر بيِّن لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال؛ لأنه لمّا كان متردّدًا بين العَمْد والخطأ حكم له بشبه العمد؛ فالضرب مقصود والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القَوَد وتُغلّظ الديّة.
وبمثل هذا جاءت السنة؛ روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألاَ إن دِيَةَ الخطأ شبهِ العمد ما كان بالسوط والعصا مائةٌ من الإبل منها أربعون في بطونها أولادُها» وروى الدّارَقُطْنِيّ عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العَمْد قَوَد اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قُتل في عِميَّة بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل» وروي أيضًا من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقل شبه العمد مغلّظ مثلُ قتل العمد ولا يقتل صاحبه» وهذا نصّ.
وقال طاوس في الرجل يصاب في الرِّميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة.
يُوَدَى ولا يقتل به من أجل أنه لا يُدْرَى مَن قاتله.
وقال أحمد بن حنبل: العِميَّا هو الأمرُ الأعمى للعَصَبِيَّة لا تستبين ما وجهُه.
وقال إسحاق: هذا في تحارج القوم وقتلِ بعضهم بعضًا.
فكأن أصله من التّعمية وهو التلبيس؛ ذكره الدّارَقُطْنِيّ.
مسألة:
واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلّظة، فقال عطاء والشافعيّ: هي ثلاثون حِقّة وثلاثون جَذَعة وأربعون خَلِفة.
وقد رُوي هذا القول عن عمر وزيد ابن ثابت والمغيرة بنِ شعبة وأبي موسى الأشعري؛ وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد، ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المُدلجِي بابنه حيث ضربه بالسيف.
وقيل: هي مُرَبّعة ربع بنات لبون، وربع حِقاق، وربع جِذاع، وربع بنات مخاض.
هذا قول النعمان ويعقوب؛ وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمرة عن عليّ.
وقيل: هي مُخمَّسة: عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لَبُون وعشرون ابن لبون وعشرون حِقة وعشرون جذعة؛ هذا قول أبي ثَوْر.
وقيل: أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون.
ورُوي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصريّ وطاوس والزّهرِيّ.
وقيل: أربع وثلاثون خَلِفة إلى بازل عامها، وثلاث وثلاثون حِقّة، وثلاث وثلاثون جذعة؛ وبه قال الشعبي والنَّخعِيّ، وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمْرة عن عليّ.