فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن هاهنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتبارا بمقتضى العقاب ومانعه وإعمالا لأرجحها.
قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه ويكون الحكم للأغلب منهما فالقوة مقتضية للصحة والعافية وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة وفعل القوة والحكم للغالب منهما وكذلك قوى الأدوية والأمراض والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطي وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له.
ومن هاهنا يعلم انقسام الخلق إلى من يدخل الجنة ولا يدخل النار وعكسه ومن يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه.
ومن له بصيرة نورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله حتى كأنه يشاهده رأى عين ويعلم أن هذا هو مقتضى إلهيته سبحانه وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك ونسبة خلاف ذلك إليه نسبة مالا يليق به إليه فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره وهذا يقين الإيمان وهو الذي يحرق السيئات كما تحرق النار الحطب.
وصاحب هذا المقام من الإيمان: يستحيل إصراره على السيئات وإن وقعت منه وكثرت فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله بعدد أنفاسه وهذا من أحب الخلق إلى الله.
فهذه مجامع طرق الناس في نصوص الوعيد. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

{ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا} بأن يقصد قتله بما يقتل غالبًا عالمًا بإيمانه {فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه} أي: أبعده من رحمته {وأعدّ له عذابًا عظيمًا} في النار وهذا مخصوص بالمستحلّ له كما قاله عكرمة وغيره، ويؤيده أنّ الآية نزلت في نفيس بن ضبابة وجد أخاه هشامًا قتيلًا في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه، ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدًّا والمراد من الآية التغليظ كقوله تعالى: {وعلى الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين} [آل عمران].
تفسير من كفر بمن لم يحج، وكقوله صلى الله عليه وسلم للمقداد: «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن تقول الكلمة التي قال» أو إنّ هذا جزاؤه إن جوزي ولا بدع في خلف الوعيد لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء].
أو المراد بالخلود المكث الطويل فإنّ الدلائل متظاهرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم ولهذا لم يذكر في الآية أبدًا، وما روي عن ابن عباس أنه قال: «لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدًا» كما رواه الشيخان أراد به التشديد كما قاله البيضاويّ إذ روي عنه خلافه رواه البيهقي في سننه، وبينت آية البقرة إن قاتل العمد يقتل به وإنّ عليه الدية إن عفي عنه وسبق قدرها وبينت السنة أنّ بين العمد والخطأ قتلًا يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالبًا، فلا قصاص فيه بل فيه دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو أي: العمد أولى بالكفارة من الخطأ. اهـ.

.قال الذهبي:

قال تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا}
وقال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا. إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا}
وقال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا}.
وقال تعالى: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات». فذكر قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله تعالى قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك». قال: ثم أي قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قال: ثم أي قال: «أن تزاني حليلة جارك». فأنزل الله تعالى تصديقها: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار». قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه».
قال الإمام أبو سليمان رحمه الله: هذا إنما يكون كذلك إذا لم يكونا يقتتلان على تأويل إنما يقتتلان على عداوة بينهما وعصبية أو طلب دنيا. أو رئاسة أو علو فأما من قاتل أهل البغي على الصفة التي يجب قتالهم بها أو دفع عن نفسه أو حريمه فإنه لا يدخل في هذه لأنه مأمور بالقتال للذب عن نفسه غير قاصد به قتل صاحبه إلا إن كان حريصًا على قتل صاحبه. ومن قاتل باغيًا أو قاطع طريق من المسلمين فإنه لا يحرص على قتله إنما يدفعه عن نفسه فإن انتهى صاحبه كف عنه ولم يتبعه. فإن الحديث لم يرد في أهل هذه الصفة. فأما من خالف هذا النعت فهو الذي داخل في هذا الحديث الذي ذكرنا والله أعلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء». وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا». وقال صلى الله عليه وسلم: «الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس واليمين الغموس وسميت غموسًا لأنها تغمس صاحبها في النار». وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل». مخرج في الصحيحين وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن رائحتها لتوجد من مسيرة أربعين عامًا». أخرجه البخاري.
فإذا كان هذا في قتل المعاهد وهو الذي أعطى عهدًا من صلى الله عليه وسلم: «ألا ومن قتل نفسًا معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله اليهود والنصارى في دار الإسلام فكيف يقتل المسلم وقال فقد أخفر ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفًا». صححه الترمذي وقال صلى الله عليه وسلم: «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى». رواه الإمام أحمد. وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا». نسأل الله العافية. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، الآية، هذه الآية تدل على أن القاتل عمدا لا توبة له وأنه مخلد في النار، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ}- إلى قوله-: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات}، الآية. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية.
وللجمع بين ذلك أوجه:
- أن قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}، أي إذا كان مستحلا لقتل المؤمن عمدا، لأن مستحل ذلك كافر قاله عكرمة وغيره، ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير وابن جرير عن ابن جريج من أنها نزلت في مقيس بن صبابة فإنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه قتيلا في بني النجار ولم يعرف قاتله فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بالدية فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل وقد أرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من قريش من بني فهر فعمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله وارتد عن الإسلام وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة مرتدا وهو يقول في شعر له:
قتلت به فهرا وحملت عقله ** سراة بني النجار أرباب فارع

وأدركت ثأري وأضجعت موسدا ** وكنت إلى الأوثان أول راجع

ومقيس هذا هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أؤمنه في حل ولا في حرم»، وقتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة المستحل للقتل المرتد عن الإسلام لا إشكال في خلوده في النار، وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار.
الوجه الثاني: أن المعنى فجزاؤه أن جوزي مع إمكان ألا يجازى إذا تاب أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيء... وهذا قول أبي هريرة وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف.
الوجه الثالث: أن الآية للتغليظ في الزجر، ذكر هذا الوجه الخطيب والآلوسي في تفسيريهما وعزاه الآلوسي لبعض المحققين واستدلا عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، على القول بأن معناه: ومن لم يحج، وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب: «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن يقول الكلمة التي قال»، وهذا الوجه من قبيل كفر دون كفر، وخلود دون خلود، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود المكث الطويل، والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث الطويل ومنه وقول لبيد:
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا ** صما خوالد ما يبين كلامها

إلا أن الصحيح في معنى الآية الوجه الثاني والأول، وعلى التغليظ في الزجر حمل بعض العلماء كلام ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لكل ما سواها، والعلم عند الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر أن القاتل عمدا مؤمن عاص له توبة كما عليه جمهور علماء الأمة وهو صريح قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية، وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، وقد توافرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}، وقد قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس لان هذه الأمة بالتخفيف من بني إسرائيل لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم. اهـ.