فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الصابوني:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
[6] جريمة القتل وجزاؤها في الإسلام:

.التحليل اللفظي:

{فَتَحْرِيرُ}: التحرير من الحرية، وهو كما قال الراغب: جعل الإنسان حرًا، وإخراج العبد من الرق إلى الحرية يسمى تحريرًا، والحر في الأصل: الخالص، وسمي الإنسان حرًا لأنه تخلّص مما يكدّر إنسانيته، ومنه قوله تعالى: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أي مخلصًا للعبادة.
الدية: ما تعطى عوضًا عن دم القتيل إلى وليه، قال في اللسان: الدية حق القتيل، والهاء عوض عن الواو، تقول: وديتُ القتيل أدية دية إذا أعطيت ديته.
وفي «التهذيب»: ودى فلان فلانًا إذا أدّى ديته إلى وليه، وأصل الدية ودية فحذفت الواو، كما قالوا: شيه من الوشي. وقد خصص الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس، دون ما الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس، دون ما يؤدي في المتلفات وبدل الأطراف.
{مُّسَلَّمَةٌ}: أي مدفوعة ومؤداة إلى أهل القتيل.
{يَصَّدَّقُواْ}: أي يتصدقوا عليهم بالدية فأدغمت التاء في الصاد، والمعنى إلا أن يعفوا ويسقطوا حقهم في الدية، وسمي صدقة لأنه معروف وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة».
{مِّيثَاقٌ}: أي عهد وذمة، قال الراغب: الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد.
{ضَرَبْتُمْ}: الضرب له معان: منها الضرب باليد، والعصا، والسيف، ومنها الضرب في الأرض بمعنى السفر، وسمي به لأن المسافر يضرب دابته بالعصا لتسير به، أو لأنه يضرب برجليه الأرض في سيره.
ومعنى الآية: إذا سافرتم في سبيل الله لجهاد أعدائكم.
{فَتَبَيَّنُواْ}: التبين طلب بيان الأمر، والمراد التأني واجتناب العجلة، ومنه البينة أي تثبتوا وتحققوا قال تعالى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6].
{السلام}: السّلام والسّلْم بمعنى واحد وهو إلقاء السلاح والاستسلام، ومعنى الآية: لا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم لست مؤمنًا فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا.
{عَرَضَ}: سمي متاع الحياة الدنيا عَرضًا لأنه عارض زائل غير ثابت، وكل شيء يقل لبثه يسمى عرضًا وفي الحديث: «الدنيا عَرضٌ حاضر، يأكل منها البر والفاجر».
وفي اللسان: العَرض بالتحريك متاع الدنيا وحطامها وفي التنزيل {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169] وعرض الدنيا ما كان من مال قلّ أو كثر.
{مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}: المغانم جمع مغنم وهو ما يغنمه الإنسان من عدوه، والمراد به هنا الفضل الواسع والرزق الجزيل قال الطبري: المعنى: «لا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم لست مؤمنًا فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه».

.المعنى الإجمالي:

يقول الله جل ثناؤه ما معناه: ما كان من شأن المؤمن ولا ينبغي له أن يقدم على قتل مؤمنٍ، إلا إذا وقع هذا القتل خطأ، فإذا حصل ووقع القتل بطريق الخطأ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلّمة إلى أهل القتيل تدفعها عاقلته، إلاّ إذا عفوا عنه وأسقطوا الدية باختيارهم فلا تجب حينئذٍ، وإذا كان المقتول مؤمنًا وأهله من أعدائهم فالواجب على قاتله عتق رقبة مؤمنة، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على قتالهم وأما إذا كان المقتول معاهدًا أو ذميًا، فالواجب في قتله كالواجب في قتل المؤمن، دية مسلّمة إلى أهله تكون عوضًا عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى، فمن لم يجد الرقبة التي يحررها فعليه صوم شهرين قمريين متتابعين، توبة من الله على عباده المذنبين وكان الله عليمًا بما يصلح الناس حكيمًا في تشريعه.
ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن عمدًا، وغلّظ في العقوبة لأن جرمه عظيم، ولم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعّد به الكافرين، وهو الخلود في جهنم، واستحقاق غضب الله ولعنته، عدا العذاب الشديد الذي أعده الله له يوم القيامة. وقد ختم الله هذه الآيات الكريمة بأمر المؤمنين إذا خرجوا مجاهدين في سبيل الله أن يتثبتوا في قتل من أشكل عليهم أمره، فلم يعلموا هل هو مسلم أم كافر؟ فلا يقدموا على قتله إلا بعد التحقق من كفره، وأمّا إذا استسلم وأظهر الإسلام فلا يحل قتله، طمعًا في متاع الدنيا الزائل، وقد ذكّرهم بأنهم كانوا مشركين كفارًا فمنّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام، وكفى بها نعمة!!

.سبب النزول:

1- روي أن (عيّاش بن أبي ربيعة)- وكان أخًا لأبي جهل من أمه- أسلم وهاجر خوفًا من قومه إلى المدينة، فأقسمت أمه ألا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه (الحارث بن يزيد) فأتياه، فقال أبو جهل: أليس محمد يأمرك بصلة الرحم؟ انصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك، فرجع فلما دنوا من مكة قيّدوا يديه ورجليه، وجلده أبو جهل مائة جلدة، وجلده الحارث مائة أخرى، فقال للحارث: هذا أخي فمن أنت؟ لله عليّ إن وجدتك خاليًا أن أقتلك، فلما دخل على أمه حلفت ألا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول، ففعل ثم هاجر بعد ذلك. وأسلم الحارث بن يزيد وهو لا يعلم بإسلامه، فلقيه عياش خاليًا فقتله، فلما أُخبر أنه كان مسلمًا ندم على فعله، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت هذه الآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا}.
ب- وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مرّ رجل من بني سليم ينفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنمًا له فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم علينا إلاّ ليتعوذ منا، فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ...}.

.وجوه القراءات:

1- قرأ الجمهور {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ}، وقرأ حمزة والكسائي {فتثبتوا} بالثاء.
2- قرأ الجمهور {لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام} بفتح السين مع الألف، وقرأ نافع وحمزة {السّلم} من غير ألف.
3- قرأ الجمهور {لَسْتَ مُؤْمِنًا} بكسر الميم الثانية وقرأ عكرمة {لست مُؤمنًا} بفتح الميم من الأمَان.

.وجوه الإعراب:

أولًا: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا...} أن يقتل في محل رفع اسم كان، ولمؤمن خبره وقوله: {إلاّ خطأً} استثناء منقطع والمعنى: لكن إن قتل خطأً فحكمه كذا، ومثّل له الطبري بقول الشاعر:
من البيضِ لم تَظْعنْ بعيدًا ولم تَطَأْ ** على الأرض إلاّ ريط بُرْد مُرحّل

ثانيًا قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا} خطأً صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره قتلًا خطأً، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال تقديره: قتله خاطئًا.
ثالثًا: قوله تعالى: {تَوْبَةً مِّنَ الله} توبة مفعول لأجله أي شرع لكم ذلك توبة منه.
رابعًا: قوله تعالى: {لَسْتَ مُؤْمِنًا} مؤمنًا خبر ليس والجملة مقول القول، وجملة {تبتغون عرض الحياة} في محل نصب على الحال من فاعل تقولوا أي لا تقولوا ذلك مبتغين عرض الحياة.
لطائف التفسير:
اللطيفة الأولى:
النفي في مثل هذا الموطن يسمى (نفي الشأن) وهو أبلغ من نفي الفعل كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} [التوبة: 17] فهو استبعاد للفعل بطريق البرهان كأنه يقول: ليس من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن أن يقتل أحدًا من أهل الإيمان، إذ لا يتصور أن يصدر منه مثل هذا العفل لأن إيمانه- وهو الحاكم على تصرفه وإرادته- يمنعه من اجتراح القتل عمدًا، ولكنه قد يقع منه ذلك خطأً.
اللطيفة الثانية:
في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مجاز مرسل علاقته (الجزئية) أطلق الرقبة وقصد به المملوك من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وهو مجاز مشهور.
اللطيفة الثالثة:
التعبير بهذا الأسلوب اللطيف {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} وتسمية العفو بالصدقة، فيه حثٌ على فضيلة العفو، وتنبيه الأولياء إلى أنّ عفوهم عن القاتل، وعدم أخذ الدية هو في نفسه صدقة وهو من مكارم الأخلاق التي يرغب فيها الإسلام.
اللطيفة الرابعة:
وردت عقوبة قتل المؤمن عمدًا في غاية التغليظ والتشديد {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} فقد حكمت الآية على القاتل بعقوبات ثلاث: 1- الخلود في جهنم 2- واستحقاق الغضب واللعنة 3- والعذاب الشديد الذي أعده الله له في الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الشريف: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن» وفي الحديث أيضًا: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله» ولهذا أفتى ابن عباس بعدم قبول توبة القاتل.
قال صاحب الكشاف: «والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس يمنع التوبة، ثم يطمعون في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبةٍ {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]»؟
اللطيفة الخامسة:
الخلود في جهنم لقاتل المؤمن محمول على من استحلّ قتله، أو المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود بمعنى طول المدة والبقاء قال زهير:
ألا لا أرى على الحوادث باقيًا ** ولا خالدًا إلا الجبال الرواسيا

والعرب تقول: خلّد الله ملكه، وتقول: لأخلدّن فلانًا في السجن، مع أنه لا شيء في الدنيا يدوم.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما هي أنواع القتل، وفي أيها تجب الكفارة؟

أوجب الله تعالى (القصاص) في القتل في آية البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] وأوجب (الدية والكفارة) في القتل الخطأ في الآية التي معنا، فيعلم أنّ الذي وجب فيه القصاص هو القتل العمد لا الخطأ.
ذهب مالك رحمه الله إلى أن القتل إمّا عمد، وإمّا خطأ، ولا ثالث لهما، لأنه إما أن يقصد القتل فيكون عمدًا، أو لا يقصده فيكون خطأ، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ.
وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن القتل على ثلاثة أقسام (عمد، وخطأ، وشبه عمد).
أما العمد: فهو أن يقصد قتله بما يفضي إلى الموت كسيفٍ، أو سكين، أو سلاح، فهذا عمد يجب فيه القود (القصاص) لأنه تعمد قتله بشيء يقتل في الغالب.
وأما الخطأ: فهو ضربان: أحدهما: أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فيصيب مسلمًا.
والثاني: أن يظنه مشركًا بأن كان عليه شعار الكفار فيقتله، والأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد.
وأما شبه العمد: فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالبًا فيموت فيه، أو يلطمه بيده، أو يضربه بحجر صغير فيموت، فهذا خطأ في القتل وإن كان عمدًا في الضرب.
قال القرطبي: وممن أثبت شبه العمد الشعبي، والثوري، وأهل العراق، والشافعي، وروينا ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها، فلا تستباح إلاّ بأمر بيّن لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال لأنه لما كان مترددًا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد، فالضرب مقصود، والقتل غير مقصود، فيسقط القَود وتغلّظ الدية، وبمثل هذا جاءت السنة، روى أبو داود من حديث (عبد الله بن عمرو) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها».
حجة الجمهور:
وحجة الجمهور في إثبات (شبه العمد) أن النيات مغيبة عنا لا اطلاع لنا عليها، وإنما الحكم بما ظهر، فمن ضرب آخر بآلة تقتل غالبًا حكمنا بأنه عامد، لأن الغالب أن من يضرب بآلة تقتل يكون قصده القتل، ومن قصد ضرب رجل بآلة لا تقتل غالبًا كان متردّدًا بين العمد والخطأ، فأطلقنا عليه شبه العمد، وهذا بالنسبة إلينا إلا بالنسبة إلى الواقع ونفس الأمر، إذ هو في الواقع إمّا عمد، وإمّا خطأ، وقد أشبه العمد من جهة قصد الضرب، وأشبه الخطأ من جهة أن الآلة لا تقتل غالبًا، ولما لم يكن عمدًا محضًا سقط القود، ولما لم يكن خطأ محضًا لأن الضرب مقصود بالفعل دون القتل وجبت فيه دية مغلّظة.
واستدلوا بالحديث السابق وبما رواه أحمد، وأبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: «ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلّظة..» الحديث.