فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام، منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني، فإنه قال في كتابه: إيثار الحق في (بحث الوعد والوعيد)، ما نصه: لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول، إما على جهة الجمع، ولا شك في جوازه وصحته وحسنه، والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها، بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح، فإن تعذر الجمع فالترجيح، فإن وضح عمل به، فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلم} [الإسراء: 36].
ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن، بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون، واجب قتله والبراءة منه، والقطع أن جزاءه جهنم خالدًا فيه، كما قال تعالى على ما أراد، وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في «العواصم» لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية، هل بين جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء؟ أو بين جزاءه الذي تخير له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول؟ والله سبحانه أعلم.
فمن رجع الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشَاء} [النساء: من الآية 48].
وسائر آيات الرجاء وأحاديثه- قال بالأول، ومن رجح [؟؟؟ كذا في المطبوع] وعيد القاتل في هذه الآية، وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن، بقطع الرجاء، كما أوضحته في «العواصم»- رجح وعيد القاتل، ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجبًا ولا إليه ضرورة- رجح الوقف، والله عند لسان كل قائل ونيته، ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع، واضطر إلى التحكم والتلوّن من غير حجة بينة وقد أجمع من يعتد به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي، متى كان أهل الصغائر من المسلمين، ولمن يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها، فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى، وذلك باب واحد، ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين، ولم ينكرها أحد، بل رواتها أكابرهم وأئمتهم، وفي «العواصم» من ذلك عن عليّ عليه السلام بضعة عشر أثرًا، بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية، وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد، وعلى أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير، وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه، وأجمعوا على أنه يسمى عفوًا، كما قال كعب بن زهير.
أنبئت أن رسول الله أوعدني ** والعفو عند رسول الله مأمول

وإنما اختلفوا، مع تسميته عفوًا، هل يسمى خلفًا أم لا؟ ومن منع من ذلك، منع صحة النقل له لغة، واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد. انتهى.
فصل:
تشرع الكفارة في قتل العمد، لما رواه الإمام أحمد عن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ.
قَالَ: «فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً، يَفْدِي اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ».
ورواه أيضًا بسند آخر عنه، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ، قَالَ: «أَعْتِقُوا عَنْهُ، يُعْتِقِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ».
وهذا رواه أبو داود والنسائي، ولفظ أبي داود: «قد أوجب (يعني النار) بالقتل».
قال الشوكانيّ في نيل الأوطار: في حديث وَاثِلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد، وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية، وأما إذا اقتصّ منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته، لحديث عبادة المذكور في الباب، ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة: أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، قال: «القتل كفارة»، وهو من حديث خزيمة بن ثابت، وفي إسناده ابن لهيعة.
قال الحافظ: لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنًا، ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن عليّ موقوفًا عليه. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
والقتل هنا لمؤمن بعمد، فالأمر إذن مختلف عن القتل الخطأ الذي لا يدري به القاتل إلا بعد أن يقع. وجزاء القاتل عمدًا لمؤمن هو جهنم، وليس له كفارة أبدًا. هكذا يبشع الحق لنا جريمة القتل العمد. لأن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكرة أن يقتل، ولذلك يقال في القانون: «قتل عمد مع سبق الإصرار». أي أن القاتل قد عاش القتل في تخيله ثم فعله، وكان المفروض في الفترة التي يرتب فيها القتل أن يراجعه وازعه الديني، وهذا يعني أن الله قد غاب عن باله مدة التحضير للجريمة، وما دام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، وما دام الإنسان قد غاب باله عن الله فالله يغيبه عن رحمته.
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} وقالوا في سبب هذه الآية: إن واحدًا اسمه مِقْيَسْ بن ضبابة كان له أخ اسمه هشام، فوجد أخاه مقتولًا في بني النجار، وهم قوم من الأنصار بالمدينة. فلما وجد هشامًا قتيلًا ذهب مِقْيَس إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، فأرسل معه رجلًا من بني فهر وكتب إليهم أن يدفعوا إلى مِقْيَس قاتل أخيه، فقال بنو النجار والله ما نعلم له قاتلا، ولكننا نؤدي الدية فأعطوه مائة من الأبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مِقْيَس على الفِهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة مرتدًّا وجعل ينشد:
قتلت به فِهرًا وحملت عقله ** سراة بني النجار أرباب فارع

حللت به وترى وأدركت ثورتي ** وكنت إلى الأوثان أول راجع

فلما بلغ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أهدر دمه. ومعنى «أهدر دمه» أباح دمه، أي أن مَن يقتله لا عقاب عليه، إلى أن جاء يوم الفتح فَوُجد «مقيس» متعلقًا بأستار الكعبة ليحتمي بها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
وهنا نجد أكثر من مرحلة في العذاب: جزاء جهنم، خُلود في النار، غَضب من الله، لعنة من الله، إعداد من الله لعذاب عظيم. فكأن جهنم ليست كل العذاب؛ ففيه عذاب وفيه خلود في النار وفيه غضب وفيه لعنة ثم إعداد لعذاب عظيم. وهذا ما نستعيذ بالله منه. فبعضنا يتصور أن العذاب هو جهنم فحسب، وقد يغفل بعض عن أن هناك ألوانًا متعددة من العذاب. وفي الحياة نرى إنسانًا يتم حبسه فنظن أن الحبس هو كل شيء، ولكن عندما وصل إلى علمنا ما يحدث في الحبس عرفنا أن فيه ما هو أشر من الحبس.
وهنا وقفة وقف العلماء فيها: هل لهذا القاتل توبة؟ واختلف العلماء في ذلك، فعالم يقول: لا توبة لمثل هذا القاتل. وعالم آخر قال: لا، هناك توبة. وجاء سيدنا ابن العباس وجلس في جماعة وجاء واحد وسأله: أللقاتل عمدًا توبة؟ قال ابن العباس: لا. وبعد ذلك بمدة جاء واحد وسأل ابن العباس: أللقاتل عمدًا توبة؟ فقال ابن العباس: نعم. فقال جلساؤه: كيف تقول ذلك وقد سبق أن قلت لا، واليوم تقول نعم.
قال ابن العباس: سائلي أولًا كان يريد أن يقتل عمدًا، أما سائلي ثانيًا فقد قتل بالفعل، فالأول أرهبته والثاني لم أقَنِّطه من رحمة الله.
وكيف فرق ابن العباس بين الحالتين؟ إنها الفطنة الإيمانية والبصيرة التي يبسطها الله على المفتي. فساعة يوجد النبي صلى الله عليه وسلم في صحابته يسأله واحد قائلًا: «أي الإسلام خير»؟ فيقول صلوات الله عليه: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» ويسأله آخر فيجيبه بقوله: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يجيب كل سائل بما يراه أصلح لحاله أو حال المستمع، ويجيب كل جماعة بما هو أنفع لهم.. ويسأله عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: أي الأعمال أفضل؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: أن يسلم الناس من لسانك».
ونعرف أن آية القتل العمد تتطلب المزيد من التفكر حول نصها {فجزاءه جهنم خالدًا فيها}. وهل الخلود هو المكث طويلًا أو على طريقة التأبيد.. بمعنى أن زمن الخلود لا ينتهي؟ ولو أن زمن الخلود لا ينتهي لما وصف الحق المكث في النار مرة بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 88].
ومرة أخرى بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 169].
هذا القول يدل على أن لفظ التأبيد في {أبدًا} فيه ملحظ يزيد على معنى الخلود دون تأبيد. وإذا اتحد القولان في أن الخلود على إطلاقه يفيد التأبيد، وأن {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} تفيد التأبيد أيضًا، فمعنى ذلك أن اللفظ {أبدًا} لم يأت بشيء زائد. والقرآن كلام الله، وكلام الله منزه عن العبث أو التكرار. إذن لابد من وقفة تفيدنا أن الخلود هو المكث طويلًا، وأن الخلود أبدًا هو المكث طويلًا طولًا لا ينتهي، وعلى ذلك يكون لنا فهم. فكل لفظ من القرآن محكم وله معنى. ثم إن كلمة {خالدين} حين وردت في القرآن فإننا نجد الحق سبحانه وتعالى يقول في خلود النار: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 105- 107].
فكأن الحق سبحانه وتعالى استثنى من الخلود: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} تفيد أن الخلود عندهم تنتهي. ما دام هناك استثناء؛ فالاستثناء لابد له من زمن، والزمن مستثنى من الخلود وعلى ذلك لا يكون الخولد تأبيديًا.
وعلينا أن نتناول الآيات بهذه الروح، وفي هذه المسألة نجد وقفة لعالم من أعلام العقائد في العصر العباسي هو عمرو بن عبيد، وكان عمرو من العلماء الذين اشتهروا بالمحافظة على كرامة العلم وعزة العلماء لدرجة أن خليفة ذلك الزمان قال عنه وسط بعض المنتسبين إلى العلم: «كلهم طالب صيد إلا عمرو بن عبيد» وقد كانت منزلته العلمية عالية ونفسه ذات عزة إيمانية تعلو على صغائر الحياة. وكان عمرو بن عبيد دقيق الرأي، ويحكى عنه قيس بن أنس هذه الحكاية: كنت في مجلس عمرو بن عبيد فإذا بعمرو بن عبيد يقول: يؤتى بي يوم القيامة فيقال لي: لم قلت بأن قاتل العمد لا توبة له. قال: فقرأت الآية: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} وكان يجب أن يلتفت عمرو بن عبيد إلى أن الإلهام الذي جاءه أو الرؤيا التي أراها له الله بأنه سوف يؤتي به يوم القيامة ليسأل لماذا أفتى بألا توبة لقاتل العمد، كان يجب أن يلتفت إلى أن ذلك يتضمن أن لقاتل العمد توبة؛ لأن سؤاله عن ذلك يوم القيامة يشير إلى عتاب في ذلك.
نقول ذلك لنعرف أنَّ الحق سبحانه وتعالى جعل فوق كل ذي علم عليما.. ولكنَّ عمرا ذكر ما جاء في قول الحق: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}. وقال قيس بن أنس: وكنت أصغر الجالسين سنًا، فقلت له: لو كنت معك لقلت كما قلت: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} وقلت أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
قال قيس: فوالله ما رد على عمرو بن عبيد ما قلت: ومعنى ذلك موافقة عمرو بن عبيد.
ماذا تفيد هذه؟. تفيد ألا نأخذ كلمة {خَالِدًا فِيهَا} بمعنى التأبيد الذي لا نهاية له؛ لأن الله قد استثنى من الخلود في آية أخرى.
والحق سبحانه وتعالى بعد أن شرح حكم القتل العمد والقتل الخطأ، بحث العلماء ووجدوا أن هناك قتلًا اسمه «شبه العمد» أي أنه لا عمد ولا خطأً، كأن يأتي إنسان إنسانًا آخر ويضربه بآلة لا تقتل عادة فيموت مقتولًا، وهنا يكون العمد موجودًا، فالضارب يضرب، ويمسك بآلة ويضرب بها، وصادف أن تقتل الآلة التي لا تقتل غالبا، وقال العلماء: القتل معه لا به، فلا قصاص، ولكن فيه دية.
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح: بعد ما حدث وحدثتكم عن القتل بكل صوره وألوانه سواء أكان القتل مباحا كقتل المسلمين الكافرين في الحرب بينهما، أم القتل العمد، أم القتل الخطأ، أم القتل شبه العمد، لذلك ينبهنا: يجب أن تحتاطوا في هذه المسألة احتياطًا لتتبينوا أين تقع سيوفكم من رقاب إخوانكم، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ...}. اهـ.