فصل: سؤال وجوابه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث، التي يبين السياق أحكامها هنا:
الحالة الأولى: أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام. ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله.. فأما تحرير الرقبة المؤمنة، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة. وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام. وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس، وشراء لخواطر المفجوعين، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول.. ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو- إذا اطمأنت نفوسهم إليه- لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم.
{ومن يقتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدّقوا}.
والحالة الثانية: أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب.. وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت، وفقدها الإسلام. ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين، يستعينون بها على قتال المسلمين! ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم، فهم محاربون، وهم عدو للمسلمين.
والحالة الثالثة: أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون- عهد هدنة أو عهد ذمة- ولم ينص على كون المقتول مؤمنًا في هذه الحالة. مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه. ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله- المعاهدين- ولو لم يكن مؤمنًا.
لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين.
ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن. {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ}.. ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنًا. وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال: {وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن} فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو. ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة. مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضًا عنه. وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقًا دون شرط الإيمان.
«وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى بعض القتلى من المعاهدين: ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم» مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية. وأن هذا ثبت بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بهذه الآية. وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن. سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.. ميثاق هدنة أو ذمة.. وهذا هو الأظهر في السياق.
ذلك القتل الخطأ. فأما القتل العمد، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله:
{ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه. وأعد له عذابًا عظيمًا}.
إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب- بغير حق- ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم. إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها.
ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم- ومنهم ابن عباس- إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.. فرجا للقاتل التائب المغفرة.. وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل.
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم،- قبل إسلامهم- يمشون على الأرض- وقد دخلوا في الإسلام- فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة. ولكنهم لا يفكرون في قتلهم. لا يفكرون مرة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدًا ولذعًا ومرارة. بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقًا واحدًا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام.
واحتراسًا من وقوع القتل ولو كان خطأ؛ وتطهيرًا لقلوب المجاهدين حتى ما يكون فيها شيء إلا لله، وفي سبيل الله.
يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة، ألا يبدأوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا؛ وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان (إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان).
{يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا. تبتغون عرض الحياة الدنيا. فعند الله مغانم كثيرة. كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم. فتبينوا. إن الله كان بما تعملون خبيرًا}.
وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية: خلاصتها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلًا معه غنم له. فقال السلام عليكم. يعني أنه مسلم. فاعتبر بعضهم أنها كلمة يقولها لينجو بها، فقتله.
ومن ثم نزلت الآية، تحرج على مثل هذا التصرف؛ وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من طمع في الغنيمة؛ أو تسرع في الحكم.. وكلاهما يكرهه الإسلام.
إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله. إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه.. وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين. وقد يكون دم مسلم عزيز، لا يجوز أن يراق.
والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة. ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم. ويمن عليهم أن شرع لهم حدودًا وجعل لهم نظامًا؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر. كما كانوا في جاهليتهم كذلك.. وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم- على قومهم- من الضعف والخوف، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين.
{كذلك كنتم من قبل. فمن الله عليكم. فتبينوا. إن الله كان بما تعلمون خبيرًا}.
وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله.. وعلى هذه الحساسية والتقوى، يقيم الشرائع والأحكام؛ بعد بيانها وإيضاحها.
وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح، ومثل هذه النظافة. منذ أربعة عشر قرنًا. اهـ.

.سؤال وجوابه:

فإن قيل: إذا كان من قولكم: إن عسى من الله واجب فقد قال الله: {عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ونحن نراهم في بأس وشدة، فأين ذلك الوعد؟
فيقال لهم: قد قيل: إن المراد به الكفرة الذين كفّ بأسهم في بدر الصغرى، والحديبية بقوله: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} الآية، فإن كان ظاهرها العموم فالمراد منها الخصوص.
وقيل: أراد به المدة التي أمر الله فيها القتال لزوال الكفر بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فعند ذلك يكف بأس الذين كفروا، وهو الوقت. حتى ينزل فيه (المهدي) فيكون حكمًا قسطًا ويظهر الإسلام على الدين كله.
وقيل: إن ذلك في القوم قذف الله في قلوبهم الرعب وأخرجهم من ديارهم وأموالهم بغير قتال من المؤمنين لهم وهذا بأس قد كفّه الله عن المؤمنين.
وقد قيل: إنه أراد به اليهود والنصارى وهم يعطون الجزية وتركوا المحاربة، وقد كف بأسهم عن المؤمنين إذا صاروا يؤدّون الجزية صاغرين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
عَاشِرُوا الناسَ على ما يُظْهِرُون من أحوالهم، ولا تَتَفَرَّسوا فيهم بالبطلان؛ فإنَّ مُتَوَلِّيَ الأسرار الله. هذا إذا كان غرضٌ فاسدٌ يحملكم عليه من أحكام النَفْس، فأمَّا من كان نظرُه بالله ولم يَنْسَتِرْ عليه شيءٌ فَلْيَحْفَظْ سِرَّ الله فيما كوشِفَ به، ولا يظهر لصاحبه ما أراد الله فيه. اهـ.

.قال الفخر:

قال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي أو النصراني: أنا مؤمن أو قال أنا مسلم لا يحكم بهذا القدر بإسلامه، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام وهو الإيمان، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعند قوم لا يحكم بإسلامه، لأنه فيهم من يقول: إنه رسول الله إلى العرب لا إلى الكل، ومنهم من يقول: إن محمدًا الذي هو الرسول الحق بعد ما جاء، وسيجيء بعد ذلك، بل لابد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم. اهـ.

.من فوائد السعدي في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن، وأن القتل من الكفر العملي، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول.
فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته.
وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار، أو حرمان الجنة.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين. والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق: شمس الدين بن القيم رحمه الله في «المدارج» فإنه قال- بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال: وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه.
وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلابد من إعمال النصوص من الجانبين.
ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا لأرجحها.
قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما. وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما.
فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة، وفعل القوة والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له.
ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار، وعكسه، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه. ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي عين.
ويعلم أن هذا هو مقتضى إلهيته سبحانه، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره.
وهذا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات، كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه، وهذا من أحب الخلق إلى الله. انتهى كلامه قدس الله روحه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا. اهـ.