فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ}
فيأيها المؤمنون حين تضربون في سبيل الله فتبينوا وتثبتوا فلا تعمل سيوفكم أو رماحكم أو سهامكم إلا بعد أن تتثبتوا: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
إذن فهذه آية تجمع بين كل المعاني، ففيها الحكم وحيثيته والمراد منه، وسبحانه يبدأها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، والخطاب الإيماني حيثية الالتزام بالحكم، فلم يقل: {يا أيها الناس إذا ضربتم فتبينوا}، ولكنه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ}، فهو يطلب المؤمنين به بحكم لأنهم آمنوا به إلهًا، وما داموا قد آمنوا فعليهم اتباع ما يطلبه الله. فحيثية كل حكم من الأحكام أن المؤمن قد آمن بمن أصدر الحكم، فإياك أيها المؤمن أن تقول: «ما العلة» أو «ما الحكمة» وذلك حتى لا تدخل نفسك في متاهة. ولا نزال نكرر هذه المسألة، لأن هذه المسألة تطفو في أذهان الناس كثيرًا، ويسأل بعضهم عن حكمة كل شيء، ولذلك نقول: الشيء إذا عرفت حكمته صرت إلى الحكمة لا إلى الآمر بالحكم.
ونرى الآن المسرفين على أنفسهم الذين لا يؤمنون بإله، أو يؤمنون بالله ولكنهم ارتكبوا الكبائر من شهادة زور، إلى ربا، إلى شرب خمر، وعندما يحلل الأطباء للكشف عن كبد شارب الخمر- على سبيل المثال- نجده قد تليف، وأن أي جرعة خمر ستسبب الوفاة. هنا يمتنع عن شرب الخمر. لماذا امتنع؟. لأنه عرف الحكمة. وقد يكون قائلها له مجوسيًا، فهل كان امتناعه عن الحكم تنفيذًا لأمر إلهي؟. لا، ولكن المؤمن يمتنع عن الخمر لأنها حرمت بحكم من الله والمؤمن ينفذ كل الأحكام حتى في الأشياء غير الضارة، فمن الذي قال: إن الله لا يحرم إلا الشيء الضار؟ إنه قد يحرم أمرًا تأديبًا للإنسان. ونضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نجد الزوج يقول لزوجه: إياك أن تعطي ابننا بعضًا من الحلوى التي أحضرتها. هو يحرم على ابنه الحلوى لا لأنها ضارة، ولكنه يريد تأديب الابن والتزامه.
والحق يقول: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
فالذي يذهب إلى تنفيذ حكم الله إنما يذهب إليه لأن الله قد قاله، لا لأن حكمة الحكم مفيدة له، فلو ذهب إنسان إلى الحكم من أجل فائدته أو ضرره فإن الإيمان يكون ناقصًا، والله يدير في كثير من الأوقات حكمته في الأحكام حتى يرى الإنسان وجهًا من الوجوه اللا نهائية لحكمة الله التي خفيت عليه، فيقول الإنسان: أنا كنت أقف في حكمة كذا، ثم بينت لي الأحداث والأيام صدق الله فيما قال.
وهذا يشجع الإنسان أن يأخذ أحكام الله وهو مسلِّم بها.
والحق يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} والإيمان هو الحيثية، يا من آمنت بي إلهًا قادرًا حكيمًا.. اسمع مني ما أريده منك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والضرب- كما نعرف- هو انفعال الجارحة على شيء آخر بعنف وقوة. وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101].
معناها أن الحياة كلها حركة وانفعال، ولماذا الضرب في الأرض؟. لأن الله أودع فيها كل أقوات الخلق، فحين يحبون أن يُخرجوا خيراتها؛ يقومون بحرثها حتى يهيجوها، ويرموا البذور، وبعد ذلك الرّي. ومن بعد ذلك تخرج الثمار، وهذه هي عملية إثارة الأرض. إذن كل حركة تحتاج إلى شدة ومكافحة، والحق يقول: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وما دامت المسألة ضربًا في الأرض فهي تحتاج إلى عزم من الإنسان وإلى قوة.
ولذلك يقال: الأرض تحب من يهينها بالعزق والحرث. وكلما اشتدت حركة الإنسان في الأرض أخرجت له خيرًا. والضرب في سبيل الله هو الجهاد، أو لإعداد مقومات الجهاد. والحق سبحانه يقول لنا: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
فالإعداد هو أمر يسبق المعارك، وكيف يتم الإعداد؟
أن نقوم بإعداد الأجسام، والأجسام تحتاج إلى مقومات الحياة. وأن نقوم بإعداد العُدُد. والعدد تحتاج إلى بحث في عناصر الأرض، وبحث في الصناعات المختلفة لنختار الأفضل منها. وكل عمليات الإعداد تطلب من الإنسان البحث والصنعة. ولذلك يقال في الأثر الصالح: «إن السهم الواحد في سبيل الله يغفر الله به لأربعة».
لماذا؟. لأن هناك إنسانًا قام بقطع الخشب الذي يتم منه صناعة السهم وصقله، وهناك إنسان وضع للسهم الريش حتى يطيره إلى الإمام، وهناك واضع النَّبْل، وهناك من يرمي السهم بالقوس.
والحق يريد منا أن نكون أقوياء حتى يكون الضرب منا قويا، فيقول: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ} ونعرف أن الضرب في سبيل الله لا يكون في ساعة الجهاد فقط، ولكن في كل أحوال الحياة؛ لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. و«تبينوا» تعني ألا تأخذوا الأمور بظواهرها فلا تمضوا أمرًا أو تعملوا عملًا إلا إذا تثبتم وتأكدتم حتى لا يصيب المؤمنون قومًا بظلم.
ولهذا الأمر قصة، كان هناك رجل اسمه «محلِّم بن جَثّامة»، وكان بينه وبين آخر اسمه «عامر بن الأضبط الأشجعي» إحن- أي شيء من البغضاء- وبعد ذلك كان «محلم» في سرية، وهي بعض من الجند المحدود العدد وصادف «عامرًا الأشجعي»، وكان «عامر» قد أسلم، لذلك ألقى السلام إلى «محلّم» فقال «محلم»: إن عامرًا قد أسلم ليهرب مني. وقتل محلم عامرًا. وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله الرسول: ولماذا لم تتبين؟. ألم يلق إليك السلام، فكيف تقول إنه يقول: «السلام عليكم» لينقذ نفسه من القتل؟
فقال: «محلّم»: استغفر لي يا رسول الله.
وإذا ما قال أحد لرسول الله: استغفر لي يا رسول الله.. فرسول الله ببصيرته الإيمانية يعرف على الفور حالَ طالبِ الاستغفار، فإن قال رسول الله: «غفر الله لك» فهو يعلم أنه كان معذورًا، وإن لم يقل رسول الله ذلك، فيعرف طالب الاستغفار أنه مذنب. ولأن بين «محلم» و«عامر» إحنا وعداوات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحلم: «لا غفر الله لك»؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن الإحَنَ والبغضاء هي التي جعلته لا يدقق في أمر «عامر».
وقال الرواة: ومات محلّم بعد سبعة أيام من هذه الحادثة، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: «إن الأرض تقبل مَن هِو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة».
وعندما كانت تأتي آية مخالفة لنواميس الدنيا المفهومة للناس فالنبي يريد ألا يفتتن الناس في هذه الآيات، ومثال ذلك عندما مات إبراهيم ابن النبي.. انكسفت الشمس.. وقال الناس: انكسفت الشمس من أجل ابن رسول الله. ولكن لأن المسألة مسألة عقائد فقد وضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الشريف:
عن المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله».
لقد قالوا ذلك تكريمًا لرسول الله وابنه إبراهيم، ولكن الرسول يريد أن يصحح للناس مفاهيمهم وعقائدهم. وكذلك عندما لفظت الأرض «محلم» حتى لا يفتتن أحد ولا يقولن أحد. إن كل من لا تلفظه الأرض هو حسن العمل، فهناك كفار كثيرون قد دفنوا ولم يلفظوا. لذلك قال رسول الله: إن الأرض قبلت من هو شر من «محلم» ولكن الله أراد أن يعظ الناس حتى لا يعودوا لمثلها، ولو لم يقل ذلك، فماذا كان يحدث؟. قد تحدث هِزة قليلة في جزئية ولظن الناس وقالوا: إن كل من لم تلفظه الأرض فهو حسن العمل، ولكان أبو جهل في حال لا بأس به، وكذلك الوليد بن المغيرة.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يضع مثل هذه الأمور في وضعها الصحيح؛ لذلك قال: إن الأرض تقبل من هو شر من «محلم»، ولكن الله أراد أن يعظ القوم ألاّ يعودوا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}.
وعلى ذكر ذلك قال لي أخ كريم: كنت أسمع إحدى الإذاعات وأخطأوا وقالوا (فتثبتوا) بدل من (فتبينوا) في قوله الحق: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
وأقول: هذه قراءة من القراءات، والمعاني دائمًا ملتقية، فـ «تبين» معناها «طلب البيان ليَثبت». ونعرف أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف، وكتابة القرآن كانت بغير نقط وبغير شكل، وهذا حال غير حالنا؛ حيث نجد الحروف قد تم تشكيلها بالفتحة والضمة والكسرة.
ونحن نعرف أن هناك حروفًا مشتبهة الصورة. فـ «الباء» تتشابه مع كل من «الياء»، والـ «نون» والـ «تاء» والـ «ثاء»، ولم تكن هذه النقط موجودة، ولم تكن هذه العلامات موجودة قبل الحجاج الثقفي، وكانوا يقرأون من ملكة العربية ومن تلقين واتباع للوحي، ولذلك: «فتبينوا» ممن تتكون؟ تتكون من: الـ «فاء» ولم يحدث فيها خلاف، والـ «تاء» وبقية الحروف هي الـ «باء» والـ «ياء» والـ «نون».
وكل واحدة من هذه الأحرف تصلح أن تجعلها «تثبتوا» بوضع النقاط أو تجعلها «تبينوا»، إنه خلاف في النقط. ولو حذفنا النقط لقرآناها على أكثر من صورة، والذي نتبعه في ذلك هو ما ورد عن الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك عندما جاءوا بشخص لم يكن يحفظ القرآن وأحضروا له مصحفًا ليقرأ ما فيه فقال: (صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة).
ولم يحدث خلاف في الـ «صاد» ولكن حدث خلاف في الـ «باء» فهي صالحة لتكون باءً أو نونًا، وكذلك «الغين» يمكن أن تكون «عيْنًا» وقراءة هذه الآية في قراءة «حفص»: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138].
وعندما قرأها الإنسان الذي لا يجيد حفظ القرآن قال: (صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة). والمعنى واحد.
ولكن قراءة القرآن توقيفية، واتباع للوحي الذي نزل به جبريل عليه السلام من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يصح لأحد أن يقرأ القرآن حسب ما يراه وإن كانت صورة الكلمة تقبل ذلك وتتسع له ولا تمنعه، ولذا قالوا: أن للقراءة الصحيحة أركانا هي:
1- أن تكون موافقة لوجه من وجوه اللغة العربية.
2- أن تكون موافقة لرسم أحد المصاحف العثمانية.
3- أن يصح إسنادها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق يقيني متواتر لا يحتمل الشك.
وهذه الضوابط نظمها صاحب طيبة النشر فقال: وكل ما وافق وجه نحو وكان للرسم احتمالا يحوي وصح إسنادا هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان.
وقوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} [الأعراف: 156].
هذه هي قراءة «حفص» وقرأ الحسن: {قال عذابي أصيب به من أساء}.
صحيح أن كلمة «أساء» وهي من الإساءة فيها ملحظ آخر للمعنى، لكن القراءة الأخرى لم تبعد بالمعنى، وعلى ذلك فكلمة «فتبينوا» تُقْرَأُ مرة «فتثبتوا» ومرة تقرأ «فتبينوا»، سواء في هذه الآية التي نحن بصددها، أو في الآية التي يقول فيها الحق: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
و«التبين» القصد منه التثبت، والتبين يقتضي الذكاء والفطنة فيرى ملامح إيمان من ألقى إليه بالسلام: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ} [النساء: 94].
فالمسلم يجب أن يفطن كيلا يأخذ إنسانًا بالشبهات، ولذلك نجد النبي يحزم الأمر مع أسامة بن زيد الذي قتل واحدًا بعد أن أعلن هذا الواحد إسلامه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فكيف بلا إله إلا الله. هل شققت عن قلبه».
ويقول إسامة للرسول: لقد قال الشهادة ليحمي نفسه من الموت. وتكون الإجابة: هل شققت قلبه فعرفت، فكيف بلا إله إلا الله؟! فلقول: «لا إله إلا الله» حرمة.
وقد روى أن الذي نزلت فيه هذه الآية هو محلم بن جثامة، وقال بعضهم: أسامة بن زيد، وقيل غير ذلك. عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وقال: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}.