فصل: تفسير الآيات (95- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لا إله إلا الله وقتلته؟! قلت: يا رسول الله إنما قالها فرقًا من السلاح. قال: ألا شققت عن قلبه حتى تعلم قالها أم لا..! فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يؤمئذ».
وأخرج ابن سعد عن جعفر بن برقان قال: حدثنا الحضرمي رجل من أهل اليمامة قال: «بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد على جيش. قال أسامة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أحدثه فقلت: فلما انهزم القوم أدركت رجلًا فأهويت إليه بالرمح، فقال: لا إله إلا الله فطعنته فقتلته. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ويحك يا أسامة..! فكيف لك بلا إله إلا الله؟ ويحك يا أسامة..! فكيف لك بلا إله إلا الله؟ فلم يزل يرددها علي حتى لوددت أني انسلخت من كل عمل عملته واستقبلت الإسلام يومئذ جديدًا، فلا والله أقاتل أحدًا قال لا إله إلا الله بعدما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وأخرج ابن سعد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قال أسامة بن زيد: لا أقاتل رجلًا يقول لا إله إلا الله أبدًا. فقال سعد بن مالك: وأنا- والله- لا أقاتل رجلًا يقول لا إله إلا الله أبدًا. فقال لهما رجل: ألم يقل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [البقرة: 193] فقالا: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله.
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن عقبة بن مالك الليثي قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فغارت على قوم، فأتبعه رجل من السرية شاهرًا فقال الشاذ من القوم: إني مسلم، فلم ينظر فيما قال فضربه فقتله، فنمي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولًا شديدًا، فبلغ القاتل. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قال القاتل: والله ما قال الذي قال إلا تعوّذًا من القتل. فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته ثم قال أيضًا: يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوّذًا من القتل. فأعرض عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته ثم لم يصبر فقال الثالثة: والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوّذًا من القتل. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه فقال: إن الله أبى عليّ لمن قتل مؤمنًا ثلاث مرارًا».
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن المقداد بن الأسود قال: قلت «يا رسول الله أرأيت إن اختلفت أنا ورجل من المشركين بضربتين فقطع يدي، فلما علوته بالسيف قال: لا إله إلا الله أضربه أم أدعه؟ قال: بل دعه. قلت: قطع يدي! قال: إن ضربته بعد أن قالها فهو مثلك قبل أن تقتله، وأنت مثله قبل أن يقولها».
وأخرج الطبراني عن جندب البجلي قال «إني لعند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه بشير من سريته، فأخبره بالنصر الذي نصر الله سريته، وبفتح الله الذي فتح لهم. قال: يا رسول الله بينا نحن نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى، إذ لحقت رجلًا بالسيف، فلما خشي أن السيف واقعه، وهو يسعى ويقول: إني مسلم، إني مسلم. قال: فقتلته...؟ فقال: يا رسول الله إنما تعوّذ. فقال: فهلا شققت عن قلبه فنظرت أصادق هو أم كاذب؟! فقال: لو شققت عن قلبه ما كان علمي هل قلبه إلا مضغة من لحم! قال: لا ما في قلبه تعلم ولا لسانه صدقت قال: يا رسول الله استغفر لي. قال: لا أستغفر لك. فمات ذلك الرجل، فدفنوه فأصبح على وجه الأرض، ثم دفنوه فأصبح على وجه الأرض ثلاث مرات، فلما رأوا ذلك استحيوا وخزوا مما لقي، فاحتملوه فألقوه في شعب من تلك الشعاب». اهـ.

.تفسير الآيات (95- 96):

قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

.قال البقاعي:

ولما ناسبت هذه الآية ما قبلها من آية القتل العمد، والتفتت إلى {وحرض المؤمنين} [النساء: 84] وإلى آية التحية، فاشتد اعتناقها لهما، وعلم بها أن في الضرب في سبيل الله هذا الخطر، فكان ربما فتر عنه؛ بين فضله لمن كأنه قال: فحينئذ نقعد عن الجهاد لنسلم، بقوله: {لا يستوي القاعدون} أي عن الجهاد حال كونهم {من المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، ليفيد التصريح بتفضيل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد لئلا يخصه أحد بالكافر الجاحد.
ولما كان من الناس من عذره سبحانه وتعالى برحمته استثناهم، فقال واصفًا للقاعدين أو مستثنيًا منهم: {غير أولي الضرر} أي المانع أو العائق عن الجهاد في سبيل الله من عوج أو مرض أو عمى ونحوه، وبهذا بان أن الكلام في المهاجرين؛ وفي البخاري في التفسير عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليّ فقال: يا رسول الله! والله لو استطيع الجهاد لجاهدت- وكان أعمى؛ فأنزل الله عز وجل على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سرى عنه فأنزل الله: {غير أولي الضرر}» وأخرجه في فضائل القرآن عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: «لما نزلت {لا يستوي القاعدون}- الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدًا وليجئ باللوح والدواة والكتف؛ ثم قال: اكتب- فذكره» وحديث زيد أخرجه أيضًا أبو داود والترمذي والنسائي، وفي رواية أبي داود: قال: «كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت شيئًا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سرى عنه فقال لي: اكتب، فكتبت في كتف {لا يستوي القاعدون} إلى آخرها؛ فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلًا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا زيد! فقرأت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {غير أولي الضرر}- الآية كلها، قال زيد: أنزلها الله وحدها فألحقتها والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف» ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وفيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل».
ولما ذكر القاعد أتبعه قسيمه المجاهد بقوله: {والمجاهدون في سبيل الله} أي دين الملك الأعظم الذي من سلكه وصل إلى رحمته {بأموالهم وأنفسهم} ولما كان نفي المساواة سببًا لترقب كل من الحزبين الأفضليبة، لأن القاعد وإن فاته الجهاد فقد تخلف الغازي في أهله، إذ يحيي الدين بالاشتغال بالعلم ونحوه؛ قال متسأنفًا: {فضل الله} أي الذي له صفات الكمال {المجاهدين} ولما كان المال في أول الأمر ضيقًا قال مقدمًا للمال: {بأموالهم وأنفسهم} أي جهادًا كائنًا بالفعل {على القاعدين} أي عن ذلك وهم متمكنون منه بكونهم في دار الهجرة {درجة} أي واحدة كاملة لأنهم لم يفوقوهم بغيرها، وفي البخاري في المغازي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر».
ولما شرك بين المجاهدين والقاعدين بقوله: {وكلًا} أي من الصنفين {وعد الله} أي المحيط بالجلال والإكرام أجرًا على إيمانهم {الحسنى} بين أن القاعد المشارك إنما هو الذي يه قوة الجهاد القريبة من الفعل، وهو التمكن من تنفيذ الأمر بسبب هجرته لأرض الحرب وكونه بين أهل الإيمان، وأما القاعد عن الهجرة مع التمكن فليس بمشارك في ذلك، بل هو ظالم لنفسه فإنه ليس متمكنًا من تنفيذ الأوامر فلا هو مجاهد بالفعل ولا بالقوة القريبة منه، فقال: {وفضل الله} أي الملك الذي لا كفوء له فلا يجبر عليه {المجاهدين} أي بالفعل مطلقًا بالنفس أو المال {على القاعدين} أي عن الأسباب الممكنة من الجهاد ومن الهجرة {أجرًا عظيمًا} ثم بينه بقوله: {درجات} وعظمها بقوله: {منه} وهي درجة الهجرة، ودرجة التمكن من الجهاد بعد الهجرة ودرجة مباشرة الجهاد بالفعل.
ولما كان الإنسان لا يخلو عن زلل وإن اجتهد في العمل قال: {ومغفرة} أي محوًا لذنوبهم بحيث أنها لا تذكر ولا يجازى عليها {ورحمة} أي كرامة ورفعة {وكان الله} أي المحيط بالأسماء الحسنى والصفات العلى {غفورًا رحيمًا} أزلًا وأبدًا، لم يتجدد له ما لم يكن. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن في كيفية النظم وجوهًا:
الأول: ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك بيان أحكام الجهاد.
فالنوع الأول من أحكام الجهاد: تحذير المسلمين عن قتل المسلمين، وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف، وعلى سبيل العمد كيف، وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف، فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية.
الوجه الثاني: لما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة، فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور، فلا جرم ذكر الله تعالى في عقيبه هذه الآية وبيّن فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة.
الوجه الثالث: أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد، كأنه قيل: من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند الله تعالى، فليحترز صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة، والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عطية:

في قوله: {لا يستوي} إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما. اهـ.

.قال الزمخشري:

فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفي الاستواء؟
قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته، ونحوه {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} قال ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها.
ثم قال: {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} والضّرَر الزَّمَانة.
روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشِيته السكينة فوقعت فخِذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثِقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سُرِّي عنه فقال: «اكتب» فكتبت في كَتِف {لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالمْجَاهِدُونَ فيِ سَبِيلِ الله} إلى آخر الآية؛ فقام ابن أُم مكتوم وكان رجلًا أعمى لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشِيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرّة الثانية كما وجدت في المرّة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اقرأ يا زيد» فقرأت {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} الآية كلها.