فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقام العلماء بحصر تلك العطاءات الربانية بسبع درجات، فواحد ينال الدرجات جميعًا. وآخر أصابه ظمأ فقط فنال درجة الظمأ، فأخذ درجة النصب أي التعب، وثالث أصابته مخمصة، ورابع جمع ثلاث درجات، وخامس جمع كل الدرجات.
وعندما نقوم بحساب هذه الدرجات نجدها: الإصابة بالظمأ، النَّصَب- أي التعب- الجوع، ولا يطأون موطئا يغيط الكفار أي لا ينزلون في مكان يتمكن فيه المسلمون منهم ويبسطون سلطانهم عليهم، والمقصود الحصن الحصين عند الكافر، النَّيْل: التنكيل بالعدو، النفقة الصغيرة أو الكبيرة، وقطع أي واد في سبيل الله، وهذه هي الدرجات السبع التي يجزي الله عنها بأحسن مما عمل أصحابها، كما فسرها العلماء، فمن نال الدرجات السبع فقد نال منزلة عظيمة، وكل مجاهد على حسب ما بذل من جهد. فمن المجاهدين من ينال درجة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست أو سبع درجات.
وعندما نقرأ الآيتين معًا: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 95- 96].
نجد أن الله يُرغّب المؤمنين في أن يكونوا مجاهدين، وأن يبذلوا الجهد لتكون كلمة الله هي العليا. فإذا ما آمن الإنسان فليس له أن يتخلف عن الصف الإيماني؛ لأنه ما دام قد تقع نفسه بالإيمان فلمَ لا ينضم إلى ركب من ينفع سواه بالإيمان؟. ويريد الله أن يعبئ كل مَنْ مسّ الإيمان قلبه، وحتى ولو كان موجودًا في مكان يسيطر عليه الكفار، فيدعوه لأن يتخلص من التفاف الكفار حوله وليخرج منضمًا إلى إخوانه المؤمنين. وليشيع الإيمان لسواه ويعبر عمليًا عن حبه للناس مما أحبه لنفسه. ولكن هناك من قالوا: نحن ضعاف غير قادرين على الهجرة أو القتال في سبيل الله. فيأتي القرآن بقطع العذر لأي إنسان يتخلف عن ركب الجهاد في سبيل الله وسبيل نصرة دين الله فيقول الحق: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ...}. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا}
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَسُوقُ غَنَمًا لَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: مَا سَلَّمَ عَلَيْنَا إِلَّا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ، الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِّيَّةً فِيهَا الْمِقْدَادُ فَلَمَّا أَتَوُا الْقَوْمَ وَجَدُوهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا وَبَقِيَ رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَقَتَلَهُ الْمِقْدَادُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ غَدًا؟ وَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ وَمُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَمَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمٌ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ نَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْمَقْتُولِ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكَ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَاسْمُ الْقَاتِلِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَنَّ اسْمَ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ اللِّيثِيُّ، وَأَنَّ قَوْمَ مِرْدَاسٍ لَمَّا انْهَزَمُوا بَقِيَ هُوَ وَحْدَهُ وَكَانَ أَلْجَأَ غَنَمَهُ بِجَبَلٍ فَلَمَّا لَحِقُوهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ وَعَبْدٍ كَذَا- وَهُوَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ- مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مِرْدَاسٍ وَهُوَ شَاهِدٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ جُزْءِ ابْنِ الْحَدْرَجَانِ قَالَ: وَفَدَ أَخِي قَدَادٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَتْهُ سَرِيَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُؤْمِنٌ، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَقَتَلُوهُ فَبَلَغَنِي ذَلِكَ فَخَرَجَتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلْتُ... فَأَعْطَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ أَخِي، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
وَحَدِيثُ جُزْءٍ إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ ابْنُ جَرِيرٍ بِزِيَادَةِ تَفْصِيلٍ، وَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَهَا بَعْدَ وُقُوعِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى أَصْحَابِ كُلِّ وَقْعَةٍ فَيَرَوْنَ أَنَّهَا سَبَبُ نُزُولِهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْهُ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا، وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِينَ يُلْقُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ السَّلَمَ وَيَعْتَزِلُونَ قِتَالَهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ، وَبَعْدَ هَذَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُنَبِّهَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ قَتْلِ الْخَطَأِ كَانَ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ عِنْدَ السَّفَرِ إِلَى أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ قَدِ انْتَشَرَ وَلَمْ يَبْقَ مَكَانٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَقَبَائِلِهِمْ يَخْلُو مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِمَّنْ يَمِيلُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَتَرَبَّصُونَ الْفُرَصَ لِلِاتِّصَالِ بِأَهْلِهِ لِلدُّخُولِ فِيهِمْ، فَأَعْلَمَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَأَمْرَهُمْ أَلَّا يَحْسَبُوا كُلَّ مَنْ يَجِدُونَهُ فِي دَارِ الْكُفْرِ كَافِرًا، وَأَنْ يَتَبَيَّنُوا فِيمَنْ تَظْهَرُ مِنْهُمْ عَلَامَاتُ الْإِسْلَامِ كَالشَّهَادَةِ أَوِ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَامَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِئْمَانِ، وَأَلَّا يَحْمِلُوا مِثْلَ هَذَا عَلَى الْمُخَادَعَةِ إِذْ رُبَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ قَدْ طَافَ عَلَى هَذِهِ الْقُلُوبِ وَأَلَمَّ بِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَكَّنَ فِيهَا، وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ قَتْلِ مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ لِشُبْهَةِ التَّقِيَّةِ قَدْ مَضَى عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ بِإِنْزَالِهَا أَنْ يُعَدَّ مَا يَقَعُ مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِهَا مِنْ قَتْلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ فِيهَا بِالتَّثَبُّتِ وَنَهَى عَنِ إِنْكَارِ إِسْلَامِ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَلَوْ بِإِلْقَاءِ تَحِيَّتِهٍ فَكَيْفَ بِمَنْ يَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقَوِّيَ الشُّبْهَةَ فِي نَفْسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ التَّقِيَّةِ وَهُوَ ابْتِغَاءُ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهَدَى الْمُؤْمِنَ بِهَذَا إِلَى أَنْ يَتَّهِمَ نَفْسَهُ وَيُفَتِّشَ عَنْ قَلْبِهِ وَلَا يَبْنِيَ الظَّنَّ عَلَى مَيْلِهِ وَهَوَاهُ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الظَّاهِرِ وَيَقْبَلَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُهُ اهـ.
أَقُولُ: وَيُزَادُ عَلَى هَذَا أَنَّ إِلْقَاءَ السَّلَامِ قَدْ يَكُونُ إِلْقَاءً لِلسِّلْمِ وَإِيذَانًا بِعَدَمِ الْحَرْبِ، وَقُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ {السَّلَمَ} كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ نَفْسِهِ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الَّذِينَ يَعْتَزِلُونَ الْقِتَالَ وَيَكُفُّونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ وَيُلْقُونَ السَّلَمَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ الْإِسْلَامُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الْقَتْلِ؛ إِذْ لَيْسَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفَّارُ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْحَرْبِ، وَمَا كَانَ الْقِتَالُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا دِفَاعًا، حَتَّى فِي الْغَزَوَاتِ الَّتِي صُورَتُهَا صُورَةُ الْمُهَاجِمَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا مُهَاجَمَةُ قَوْمٍ حَرْبٍ يُدْعَوْنَ إِلَى السِّلْمِ فَلَا يُجِيبُونَ، وَمَا رَضُوا بِالسِّلْمِ مَرَّةَ وَأَبَاهَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي ثَقُلَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ يَأْبَاهَا وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [8: 61]، وَقَدْ أَشَارَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى هَذَا فَاشْتَرَطَ فِيمَنْ يُبَاحُ قَتْلُهُ أَنْ يَكُونَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ عِبَارَتَهُ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهَا نَعْتَمِدُ فِي جُلِّ تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللهَ وَصَدَقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِذَا سِرْتُمْ مَسِيرًا لِلَّهِ فِي جِهَادِ أَعْدَائِكُمْ فَتَبَيَّنُوا، يَقُولُ: فَتَأَنُّوا فِي قَتْلِ مَنْ أُشْكِلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ فَلَمْ تَعْلَمُوا حَقِيقَةَ إِسْلَامِهِ وَلَا كُفْرِهِ، وَلَا تُعَجِّلُوا فَتَقْتُلُوا مَنِ الْتَبَسَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُ، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى قَتْلِ مَنْ عَلِمْتُمُوهُ يَقِينًا حَرْبًا لَكُمْ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ، يَقُولُ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنِ اسْتَسْلَمَ لَكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ مُظْهِرًا لَكُمْ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِكُمْ وَدَعْوَتِكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَتَقْتُلُوهُ ابْتِغَاءَ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ: طَلَبًا لِمَتَاعِهَا الَّذِي هُوَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَمَا أَذِنَ اللهُ لَكُمْ فِي قِتَالِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ لِتَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي أَطْمَاعِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَشْرِ هِدَايَتِهِ فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ، مِنْ رِزْقِهِ وَفَوَاضِلِ نِعَمِهِ، هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ذَكَرْنَاهُ بِلَفْظِهِ إِلَّا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَسْتَ مُؤْمِنًا} إِلَخْ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا بِالْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ مَا وَالتَّبَيُّنُ طَلَبُ بَيَانِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {فَتَثَبَّتُوا} فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ التَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ التَّأَنِّي وَاجْتِنَابِ الْعَجَلَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ {السَّلَمَ} بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَهُوَ كَالسِّلْمِ بِكَسْرِ السِّينِ ضِدُّ الْحَرْبِ، وَبِهِ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ الْبَاقِينَ {السَّلَامُ} بِالسِّلْمِ وَهُوَ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبُهَا بِالْأَرْجُلِ فِي السَّفَرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ تَسْتَخْفُونَ بِدِينِكُمْ كَمَا اسْتَخْفَى بِدِينِهِ مِنْ قَوْمِهُ هَذَا الَّذِي أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ فَقَتَلْتُمُوهُ إِلَى أَنْ لَحِقَ بِكُمْ، أَيْ: فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يُخْفِي الْإِسْلَامَ بَيْنَهُمْ إِلَّا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَهُمْ خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ يُخْفُونَ إِسْلَامَهُمْ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ فَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَحَمَلَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ، ثُمَّ كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِذَا أَسْلَمَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ حَتَّى يَتَيَسَّرَ لَهُ الْهِجْرَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ، بِالْهِجْرَةِ وَالْقُوَّةِ حَتَّى أَظْهَرْتُمُ الْإِسْلَامَ وَنَصَرْتُمُوهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّكُمْ كَذَلِكَ كُنْتُمْ كُفَّارًا مِثْلَ مَنْ قَتَلْتُمْ بِتُهْمَةِ الْكُفْرِ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَمِنْكُمْ مَنْ أَسْلَمَ لِظُهُورِ حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ لَهُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمِنْكُمْ مَنْ أَسْلَمَ تَقِيَّةً أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ عِنْدَمَا خَبِرَ الْإِسْلَامَ وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى {مَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ}: أَنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمُوهُ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ الَّتِي كُنْتُمْ مِثْلَهُ فِيهَا فَتَبَيَّنُوا، أَيْ: اطْلُبُوا الْبَيَانَ أَوْ كُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الْأَمْرِ تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا تَأْخُذُوا بِالظَّنِّ وَلَا بِالظِّنَّةِ (التُّهْمَةِ)، أَوْ تَثَبَّتُوا وَلَا تَعْجَلُوا بَعْدُ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نِيَّتِكُمْ فِيهِ، وَمِنَ الْمُرَجَّحِ لَهُ هَلْ هُوَ مَحْضُ الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَمِ ابْتِغَاءُ الْغَنِيمَةِ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ التَّنْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، لِأَجْلِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْوَعِيدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، حُكْمٌ جَدِيدٌ بِأَنَّ قَتْلَ مَنْ أَلْقَى السَّلَامَ يُعَدُّ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مُرَجِّحَاتِ الْحَمْلِ عَلَيْهَا فِي نُفُوسِكُمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ابْتِغَاءُ حَظِّ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَغْفُلُوا، بَلْ تَثَبَّتُوا وَتَبَيَّنُوا، وَحُكْمُ الْآيَةِ يُعْمَلُ بِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعَدُّ مُسْلِمًا وَلَا يُبْحَثُ عَنِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُتَّهَمُ فِي صِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ.
أَقُولُ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حِرْصِ مَنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِكِتَابِ اللهِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَلَا فِي عَمَلِهِمْ بِأَحْكَامِهِ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، بَلْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَلِيَعْتَبِرِ الْمُعْتَبِرُونَ.
أَقُولُ هَذَا وَإِنَّ الْجَاهِلِينَ بِتَارِيخِ الْإِسْلَامِ وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ- رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- كَانُوا مَلُومِينَ فِي أَخْذِ الْغَنَائِمِ مِمَّنْ يَظْفَرُونَ بِهِمْ، وَأَنَّ بَعْضَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ صَارَتْ أَرْقَى فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قَوَانِينَهَا فِي الْحَرْبِ أَقْرَبُ إِلَى النَّزَاهَةِ وَالْعَدْلِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَكَيْفَ هَذَا وَقَوَانِينُ الدُّوَلِ الْمُرْتَقِيَةِ كُلِّهَا تُبِيحُ أَخْذَ كُلِّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُحَارِبِينَ؟ لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ سَلَامٌ وَلَا دِينٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ قَتْلَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَمَنْ يُلْقِي السَّلَمَ أَوِ السَّلَامَ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ إِمَّا عَلَى الْمُنَاصَرَةِ وَإِمَّا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَمَنِ اتَّصَلَ بِأَهْلِ الْمِيثَاقِ الْمُعَاهِدِينَ، وَمَنِ اعْتَزَلَ الْقِتَالَ فَلَمْ يُسَاعِدْ فِيهِ قَوْمَهُ الْمُقَاتِلِينَ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ رَغِبَ عَنِ ابْتِغَاءِ عَرَضِ الدُّنْيَا بِالْقِتَالِ؛ لِيَكُونَ لِمَحْضِ رَفْعِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَقْرِيرِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ، وَلَا هَمَّ لِجَمِيعِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ الْآنَ إِلَّا الرِّبْحَ وَجَمْعَ الْأَمْوَالِ، وَهُمْ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ مَعَ الضُّعَفَاءِ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ حِفْظَ الْمُعَاهَدَاتِ إِلَّا مَعَ الْأَقْوِيَاءِ، وَهُوَ مَا شَدَّدَ الْإِسْلَامُ فِي حِفْظِهِ، وَحَافَظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عَهْدِهِ، وَحَافَظَ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَيْنَ أَرْقَى أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ!؟ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.