فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
مَضَتْ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي مَزْجِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ بِمَا يُرَغِّبُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيُنَشِّطُ عَلَيْهَا، وَيُحَفِّزُ الْهِمَمَ إِلَيْهَا، وَيُنَفِّرُ مِنَ الْقُعُودِ عَنْهَا، وَالتَّكَاسُلِ وَالتَّوَاكُلِ فِيهَا، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ جَاءَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ بَيْنَ آيَاتِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ، فَهُمَا مُتَّصِلَتَانِ بِهَا أَتَمَّ الِاتِّصَالِ.
قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، أَيْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَأْيِيدِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَصَدِّ غَارَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنَ الْفَسَادِ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، الْعَاجِزِينَ عَنْ هَذَا الْجِهَادِ كَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: لَا يَكُونُ الْقَاعِدُونَ عَنِ الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ بُخْلًا بِهَا وَحِرْصًا عَلَيْهَا، وَبِأَنْفُسِهِمْ إِيثَارًا لِلرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ عَلَى التَّعَبِ وَرُكُوبِ الصِّعَابِ فِي الْقِتَالِ، مُسَاوِينَ لِلْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَالْمُؤْنَةِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ؛ لِأَجْلِ مَنْعِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ؛ لِأَنَّ الْمُجَاهِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَحْمُونَ أُمَّتَهُمْ وَبِلَادَهُمْ، وَالْقَاعِدِينَ الَّذِينَ لَا يَأْخُذُونَ حَذْرَهُمْ، وَلَا يُعِدُّونَ لِلدِّفَاعِ عُدَّتَهُمْ، يَكُونُونَ عُرْضَةً لِفَتْكِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [2: 251]، بِغَلَبَةِ أَهْلِ الطَّاغُوتِ عَلَيْهَا، وَظُلْمِهِمْ لِأَهْلِهَا، وَإِهْلَاكِهِمْ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فِيهَا.
{فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}، هَذَا بَيَانٌ لِمَفْهُومِ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَفَعَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَيْهِمْ دَرَجَةً، وَهِيَ دَرَجَةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ دَفْعُ شَرِّ الْأَعْدَاءِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى، أَيْ: وَوَعَدَ اللهُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَجْزًا مِنْهُمْ عَنْهُ، وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ فَقَامُوا بِهِ، فَإِنَّ إِيمَانَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدٌ وَإِخْلَاصَهُ وَاحِدٌ، وَقَدَّمَ مَفْعُولَ وَعَدَ، الْأَوَّلَ وَهُوَ لَفْظُ كُلًّا، لِإِفَادَةِ حَصْرِ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ فِي هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، الْمُتَفَاضِلَيْنِ فِي الْعَمَلِ، لِقُدْرَةِ أَحَدِهِمَا وَعَجْزِ الْآخَرِ، وَفَسَّرَ قَتَادَةَ الْحُسْنَى بِالْجَنَّةِ.
وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، عَلَى الْقَاعِدِينَ، مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَجْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {دَرَجَاتٌ مِنْهُ وَمَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ}، أَمَّا الدَّرَجَاتُ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِيهَا مِنْ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [17: 21]، وَبَيَّنَّا أَنَّ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى دَرَجَاتِ الدُّنْيَا فِي الْإِيمَانِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ، لَا فِي الرِّزْقِ وَعَرَضِ الدُّنْيَا، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدَّرَجَاتِ هُنَا عَلَى مَا يَكُونُ لِلْمُجَاهِدِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: الْإِسْلَامُ دَرَجَةٌ، وَالْإِسْلَامُ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْجِهَادِ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْقِتَالُ فِي الْجِهَادِ دَرَجَةٌ اهـ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْجِهَادَ هُنَا عِدَّةَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الدَّرَجَاتُ هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَة التَّوْبَةِ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [9: 120]، يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ السَّبْعَةَ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الْمُجَاهِدُونَ هِيَ الدَّرَجَاتُ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهَا أَجْرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى، وَمَجْمُوعُهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلْأَجْرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهِيَ مُرْتَبَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ وَعَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَفْضُلُ الْمُجَاهِدُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ، وَأَهَمُّهُ مَصْدَرُهُ مِنَ النَّفْسِ وَهُوَ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَإِيثَارُ رِضَاهُ عَلَى الرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ، وَتَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْخَاصَّةِ، وَالْمَغْفِرَةُ الْمَقْرُونَةُ بِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ هِيَ أَنْ يَكُونَ لِذُنُوبِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ عِنْدَ الْحِسَابِ أَثَرٌ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي قَضَى عَدْلُ اللهِ بِأَنْ تَكُونَ سَبَبَ الْعِقَابِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ يَتَلَاشَى فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَتَلَاشَى الْوَسَخُ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَالرَّحْمَةُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ الرَّحْمَنُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَا خَوَّلَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالظَّفَرِ وَجَمِيلِ الذِّكْرِ وَالثَّانِي مَا حَصُلَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الدَّرَجَةُ ارْتِفَاعُ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: الْقَاعِدُونَ «الْأُولَى» الْأَضِرَّاءُ، وَالْقَاعِدُونَ الثَّانِيَةُ: هُمُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ اكْتِفَاءً بِغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ الْأَوَّلُونَ مَنْ جَاهَدَ الْكُفَّارَ، وَالْآخِرُونَ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ عليه السلام: رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، اهـ.
{وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، وَكَانَ شَأْنُ اللهِ وَصَفَتُهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ، رَحِيمٌ بِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِنَفَحَاتِ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ مَا فَضَّلَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا بِمَا اقْتَضَتْهُ صِفَاتُهُ، وَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِذًا لابد مِنْ ذَلِكَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ بِأَنْوَاعِهِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ نَافِعًا وَابْنَ عَامِرٍ قَرَءَا غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، بِنَصْبِ غَيْرِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ وَهِيَ حِينَئِذٍ صِفَةٌ لِلْقَاعِدُونَ وَقُرِئَتْ بِالْجَرِّ شُذُوذًا عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: {أَجْرًا عَظِيمًا}، نَصْبَ أَجْرًا عَلَى الْمَصْدَرِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَجَرَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ ودَرَجَاتٍ، بَدَلٌ مِنْهُ.
وَقَدْ تَرَكْتُ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}، نَزَلَ لِأَجْلِ ابْنِ أُمٍّ مَكْتُومٍ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الْجَدِيرَةِ بِالرَّدِّ مَهْمَا قَوَّوْا سَنَدَهَا، وَلَعَلَّنَا نُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي مُقَدِّمَةِ التَّفْسِيرِ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {غير أولي الضرر} قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو وحَمْزَة وعَاصِم: {غير} بالرفع، والباقون: بالنَّصْب، والأعْمَش: بالجرِّ.
والرَّفع على وجهَيْن:
أظهرهما: أنه على البَدَل من {القاعدون} وإنما كان هذا أظْهَر؛ لأن الكَلاَم نفي، والبدلُ معه أرْجَحُ؛ لما قُرِّر في علم النَّحْو.
والثاني: أنه رَفْعٌ على الصِّفَة لـ {القاعدون}، ولابد من تأويل ذلك؛ لأن «غير» لا تتعَرَّفُ بالإضَافَة، ولا يَجُوز اختِلاَفُ النَّعت والمَنْعُوت تعريفًا وتنكيرًا، وتأويله: إمَّا بأن القاعِدِين لَمَّا لم يَكُونوا نَاسًا بأعْيَانِهِم، بل أُرِيد بهم الجَنْسُ، أشْبَهوا النَّكِرة فَوُصِفوا كما تُوصَف، وإمَّا بأن «غير» قد تَتَعَرَّف إذا وقَعَت بين ضِدَّين، وهذا كما تَقَدَّم في إعْرَاب {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] في أحَد الأوْجُه، وهذا كلُّه خُرُوج عن الأصُول المقرَّرة، فلذلك اخْتِير الأوّل؛ ومثله: [الرمل]
وَإذا أقْرِضْتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ ** إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى غَيْرُ الْجَمَلْ

برفع «غير» كذا ذكره أبو عَلِيّ، والرِّوَاية: «لَيْسَ الجَمَلْ» عند غَيْره.
وقال الزَّجَّاج: ويجُوزُ أن يكُون «غير» رفعًا على جِهَة الاستِثْنَاءِ، والمعنى: لا يَسْتَوِي القَاعِدُون من المُؤمنين والمُجَاهِدُون، إلا أولي الضَّرَر فإنَّهم يساوون المُجَاهِدِين، أي: الذين أقعدهم عن الجِهَاد الضَّرر، والكَلامُ في رفع المُسْتَثْنَى بعد النفي قد تقدم عِند قوله: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66].
والنَّصْب على أحد ثلاثة أوْجُه:
الأوّل: النَّصْبُ على الاستِثْنَاء من {القاعدون} وهو الأظهر؛ لأنه المحدَّثُ عَنْهُ، والمعنى: لا يَسْتَوِي القَاعِدُون إلا أولِي الضَّرَر، وهو اخْتِيَار الأخْفَش.
والثاني: من {المؤمنين} وليس بِوَاضِح.
والثالث: على الحَالَ من {القاعدون} والمعنى: لا يستوي القاعدون في حَالِ صِحَّتهم والمُجَاهِدون؛ كما يُقَال: جاءَني زيد غير مَرِيضٍ، أيك جاءني زَيْد صَحِيحًا، قاله الزَّجَّاج والفراَّء؛ وهو كقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} [المائدة: 1].
والجرُّ على الصفَة للمؤمنين وتأويله كما تقدم في وجه الرفع على الصفة.
قال الأخْفَش القراءة بالنَّصْب على الاستثنَاء أوْلَى؛ لأن المَقْصُود منه استِثْنَاء قوم لم يَقْدرُوا على الخُروج؛ كما روي في التَّفْسير أنه لما ذكر الله تعالى فضيلة المُجَاهِدِين، جاء قَوْمٌ من أولي الضرر، فقالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم: حالتنا كما تَرَى، ونحن نَشْتَهِي الجَهِاد، فهل لنا من طَرِيقٍ؟ فنزل {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} فاستثناهم الله تعالى.
وقال آخرون: القِرَاءة بالرَّفع أولى؛ لأن الأصْل في كلمة {غَيْر} أن تكون صفة، كانت القراءة بالرَّفْع أوْلَى.
فالضَّرر النُّقْصَان، سواء كان بالعَمَى أو العَرَج أو المَرَض، أو بسبب عَدَمِ الأهْبَة.
قوله: {درجةً} في نصبه أربعة أوْجُه:
أحدها: أنها مَنْصُوبة على المَصْدر؛ لوقوع {درجة} موقع المَرَّة من التَّفْضِيل؛ كأنه قيل: فَضَّلهم تَفْيلة، نحو: «ضَرَبْتُه سَوْطًا» وفائدة التنكير التَّفْخِيم.
الثاني: أنها حَالٌ من {المُجَاهِدِين} أي: ذوي درجة.
الثالث: مَنْصُوبة انتصابَ الظَّرْف، أي: في دَرَجَةٍ ومَنْزِلة.
الرابع: انْتِصَابها على إسْقَاط الجَارِّ أي: بِدَرَجة.
فلما حُذِف الجَارُّ، وَصَل الفِعْل فعَمِل، وقيل: نُصِب على التَّمْيييز.
قوله: {وكلًا وعد الله الحسنى} {كلًا} مَفْعُول أول لـ {وَعَد} مُقَدمًا عليه، و{الحُسْنَى} مفعول ثان، وقرئ: {وكُلٌّ} على الرَّفْع بالابتداء، والجُمْلَة بعده خبره، وتالعَائشد مَحْذُوف، أي: وعده؛ وهذه كَقِرَاءة ابن عامر في سورة الحديد: {وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى} [الحديد: 10].
قوله تعالى: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْرًا عَظِيمًا} في انتصاب {أجرًا} أربعة أوجُه:
أحدها: النَّصْب على المَصْدَر من مَعْنَى الفِعْل الذي قَبْلَه لا من لَفْظَه؛ لأن مَعْنَى {فَضَّلَ الله}: آجرَ؛ فهو كقوله: أطْرُهُم أجْرٌ، ثم قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} بدل من قوله: {أجْرًا}.
الثاني: أنه انْتَصَب على إسْقَاط الخافِضِ، أي: فضلهم بأجْر.
الثالث: النَّصْب على أنَّه مَفْعُول ثاني؛ لأنه ضَمَّن فضَّل معنى أعْطَى، أي: أعْطَاهُم أجرًا تفضلًا مِنْه.
الرابع: أنه حالٌ من درجات.
قال الزمخشري: وانتصب {أجْرًا} على الحَالِ من النّكرة التي هي {دَرَجَاتٍ} مقدَّمةً عليها وهو غير ظَاهِر؛ لأنه لو تأخَّر عن {دَرَجَاتٍ} لم يَجُز أن يَكُون نعتًا لـ {دَرَجَاتٍ} لعدم المطابقة؛ لأنَّ {درجات} جَمْع، و{أجْرًا} مفرد، كذا ردَّه بعضهم، وهي غَفْلَة؛ فإنَّ {أجرًا} مَصْدرٌ، والأفْصَح فيه يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مكلقًا، وقيل: انتصب على التَّمْيِيز، و{دَرَجَاتٍ} عَطْف بَيَان.
قوله تعالى: {درجات} فيه سِتَّة أوجه:
الأربعة المذكورة في {دَرَجَة}.
والخامس: أنه بدلٌ من {أجْرًا}.
السادس ذكره ابن عَطِيَّة أنه منصوبٌ بإضْمَار فعلٍ، على أن يكون تَأكِيدًا للأجْرِ، كما تقول: «لك عليَّ ألفُ دِرْهَمٍ عُرْفًا» كأنك قُلْت: أعْرِفُها عُرْفًا، وفيه نظر، و{مغفرة ورحمة} عطف على {دَرَجَاتٍ}، ويجُوز فيهما النَّصْب بإضْمَار فِعْلِهِمَا تَعْظِيمًا، أي: وغَفَرَ لهم مَغْفِرَةً، ورحِمَهُم رَحْمَةً. اهـ. بتصرف يسير.