فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الشواهد هي خير دليل على أنّ الهجرة هي إِحدى القوانين الخالدة للحياة، فهل يصح أن يكون الإِنسان أقل حظًا من الحيوان في هذا المجال؟
وحين تتعرض، حياته المعنوية، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية إِلى الخطر، فهل يستطيع هذا الإِنسان البقاء في مكان الخطر متشبثًا بالأرض والمولد وغير ذلك متحم ألوان الذل والإِهانة والحرمان وسلب الحريات، والأهم من ذلك كلّه زوال أهدافه التي يعيش من أجلها؟!
أو أن عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة، ويترك ذلك المكان، ويختار مكانًا آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟
الطريف في هذا الأمر أنّ الهجرة- أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ النفس وحماية الشريعة الإِسلامية- تعتبر مبدأ- أو بداية- التاريخ الإِسلامي، وهي بذلك تعد البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والاعلامية والاجتماعية للمسلمين.
فلننظر لماذا انتخبت هجرة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم مبدأ- أو بداية- للتاريخ الإِسلامي؟
إِنّ هذا الموضوع جدير بالملاحظة، لأنّنا نعلم أن أي مجموعة بشرية صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها، يفالمسيحيون مث اتّخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى عليه السلام، أمّا المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة، مثل يوم ولادة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويوم البعثة المحمّدية الشريفة، وفتح مكّة، ووفاة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم لم يتخذوا أي واحد من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإِسلامي.
إِنّ التاريخ يقول: إنّ المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له أهمية عامّة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإِسلامية- وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن أبي طالب عليه السلام باتّخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإِسلامي.
والحقيقة أنّ هذا الاختيار كان هو المتعيّن، لأنّ الهجرة كانت أهم والمع حدث أو برنامج حصل للإِسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإِسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكّة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم الحياتية وفق دينهم الجديد (الإسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة- على ما يبدو- أي قدرة سياسية وإجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة- في كل المجالات- ولو أنّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة، لما تيسر عند ذلك للإِسلام أن يمتد خارج حدود مكّة، بل حتى كان من الممكن أن يقبر الإِسلام في مكّة ويمحى أثره.
ويتّضح لنا أنّ الهجرة لم تكن حكمًا خاصًا بزمن الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل أنّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي وأصحابه صلى الله عليه وآله وسلم إِلى ترك مكّة والهجرة إِلى المدينة.
والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهرًا لوجود الحرية والرفاه، وقد أشارت الآية- موضوع البحث- إِلى هذا الأمر، كما أن الآية [41] من سورة النحل تشير من جانب آخر إِلى هذه الحقيقة، إِذ تقول: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدّنيا حسنة}.
وتجدر الإِشارة- أيضًا- إِلى هذه النقطة، وهي أنّ الهجرة في نظر الإِسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإِنسانية، لكي يتيسر له بهذا السبيل إِلى الهجرة المكانية- إِذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإِنسان المسلم هجرته الخارجية- وإِذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إِلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.
والأساس في الهجرة هو الفرار من «الظلمات» إِلى «النور».
ومن الكفر إِلى الإِيمان، ومن الخطأ والعصيان إِلى إطاعة حكم الله، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإِنّ من تتحقق لديه الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إِلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقًا. اهـ. بتصرف يسير.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
وتضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبديع.
منها الاستعارة في قوله: {إذا ضربتم في سبيل الله}، استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء، والسبيل لدينه، وفي: لا يستوي عبَّر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة وفي: درجة حقيقتها في المكان فعبر به عن المعنى الذي القتضى التفضيل، وفي: يدركه استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت، وفي: فقد وقع استعار الوقوع الذي هو من صفات الإجرام لثبوت الأجر.
والتكرار في: اسم الله تعالى، وفي: فتبينوا، وفي: فضل الله المجاهدين على القاعدين.
والتجنيس المماثل في: مغفرة وغفورًا.
والمغاير في: أن يعفو عنهم وعفوًا، وفي: يهاجر ومهاجرًا.
وإطلاق الجمع على الواحد في: توفاهم الملائكة على قول من قال أنه ملك الموت وحده.
والاستفهام المراد منه التوبيخ في: فيم كنتم، وفي: ألم تكن.
والإشارة في كذلك وفي: فأولئك.
والسؤال والجواب في: فيم كنتم وما بعدها.
والحذف في عدة مواضع. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ثم يدركه} الجُمْهُور على جَزْم {يدركْه} عَطْفًا على الشَّرْطِ قبله، وجوابه: {فقد وقع} وقرأ الحَسَن البصري بالنَّصْب.
قال ابن جِنِّي: وهذا لَيْسَ بالسَّهْل، وإنما بَابُه الشَّعْر لا القُرْآنُ، وأنشد [الوافر]
سَأتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم ** وَألْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا

والآيةُ أقْوَى من هذا؛ لتقدُّم الشرط قَبْلَ «المَعْطُوف»، يعني: أن النَّصْب بإضْمَار «أن» في غَير تِلك المَوَاضِع ضَرُورَةٌ؛ كالبيتِ المتقدم؛ وكَقوْل الآخر: [الطويل]
وَيَأوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا

وتبع الزَّمَخْشَرِي أبا الفَتْح في ذلك، وأنْشَدَ البَيْت الأوَّل.
وهذه المَسْألة جَوَّزها الكُوفيُّون لمدركٍ أخرَ، وهو أن الفِعْلَ الواقِع بين الشَّرْط والجَزَاء، يجوز فيه الرَّفْع والنَّصْب والجَزْمُ إذا وَقَعَ بعد الواوِ والفَاءِ؛ واستدَلُّوا بقول الشاعر: [الطويل]
ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَهً مُطْمَئِنَّةً ** فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوى الْقَاعِ يَزْلَقِ

وقول الآخر: [الطويل]
ومَنْ يَقْتَرِب مَنِّا ويَخْضَعَ نُؤوِه ** ولا يَخْشَ ظُلْمًا مَا أقَامَ وَلاَ هَضْمَا

وإذا ثَبَتَ ذلك في الواوِ والفضاءِ، فليَجُزْ في «ثُمَّ»؛ لأنها حَرْف عَطْفٍ.
وقرأ النَّخعيُّ، وطَلْحَة بن مُصَرِّف برفع الكَاف، وخَرَّجَها ابن جنِّي على إضْمَار مُبْتَدَأ، أي: «ثم هو يُدْرِكُه المَوْتُ» فعطَ جُمْلَةً اسمِيّةً على فِعْلِيَّةً، وهي جُمْلَة الشَّرْطِ: الفعلُ المَجْزُومُ وفاعلُه، وعلى ذلك حَمَل يُونُس قولَ الأعْشَى: [البسيط]
إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الخَيْلِ عَادَتُنَا ** أوْ تَنْزِلُون فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ

أي: وأنتم تنزلون، ومقله قول الآخر: [البسيط]
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتِيِنِي بَقِيَّتُكُمْ ** فَمَا عَلّيَّ بِذَنْبٍ عِنْدَكُمْ حُوبُ

أي: ثم أنتم تَأتيني، وهذا أوْجهُ من أن يُحْمَل على أن يَأتِيني.
قلتُ: يريدُ أنه لا يُحْمَلُ على إهْمَالِ الجَازِمِ، فيُرْفَعُ الفعل بعده، كما رفع في:
ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ** بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ

فلم يَحْذِفِ اليَاء، وهذا البَيْت أنشده النَّحويُّون على أنَّ عَلاَمَةَ الجَزْم، حَذْفُ الحَرَكَةِ المُقَدَّرة في حَرْفِ العِلَّة، وضَمُّوا إليه أبياتًا أخَرَ، أمَّا أنَّهم يَزْعُمُون: أنَّ حَرْف الجَزْم يُهْمَل، ويَسْتدلون بهذا البَيْت فَلا.
ومنهم مَنْ خَرَّجَهَا على وَجْه أخَر؛ وهو أنه أراد الوَقْفَ على الكلمة، فنقلَ حَركَة هاءِ الضَّمِير إلى الكَافِ السَّاكِنَة للجَزْمِ، كقولِ الآخَر: [الرجز]
عَجِبْتُ والدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُه ** مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أضْرِبُهْ

يريد: «لم أضْرِبْه» بسكون البَاء للجَازِم، ثم نَقَل إليها حَرَكَة الهاءِ، فصار اللَّفْظُ «ثم يُدْرِكُهْ» ثم أجْرَى الوصْلَ مُجْرى الوَقْفِ، التقى ساكنان، فاحْتاجَ إلى تَحرِيك الأوَّلِ وهو الهَاءُ، فَحَرَّكها بالضَّمِّ؛ لأنه الأصلُ، وللإتباع أيضًا.
ثمَّ قالَ الله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} أي: ويَغْفِرُ الله ما كَانَ مِنْهُ مِنِ القُعود إلَى أنْ خَرَجَ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}
مَنْ هَاجَرَ في الله عما سوى الله، وصحح قَصَده إلى الله وَجَدَ فسحة في عقوة الكَرَم، ومقيلًا في ذرى القبول، وحياة وَسَعةً في كنف القرب.
والمهاجر- في الحقيقة- من هجر نَفْسَه وهواه، ولا يصحُّ ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته، ومَنْ قَصَدَه ثم أدركه الأجلُ قبل وصوله فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محطُّ روحه إلا أوطان قربه. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}
الذي يهاجر في سبيل الله سيجد السعة إن كان قد وضع في نفسه العملية الإيمانية. وفي البداية كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة؛ لأنهم لم يكونوا آمنين في مكة على دينهم.
ولذلك قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط الله له كونه واستعرض قضية العدالة في الكون، فلم يقبل النبي إلا أن يذهب المهاجرون إلى الحبشة، ولابد أن الحق قد أعلمه أن الحبشة في ذلك الزمان هي أرض بلا فتنة.
وقد يقول قائل: ولماذا لم يختر النبي أن يهاجر المهاجرون الأوائل إلى قبيلة عربية في الجنوب أو في الشمال؟
لقد كانت لقريش السيادة على كل الجزيرة العربية بقبائلها، فكل القبائل تحج عند قريش ولم تكن هناك أي بيئة عربية قادرة على أن تقف أمام هوى قريش. ولذلك استعرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد جميعًا إلى أن أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، والعلة في الذهاب إلى الحبشة أن هناك ملكًا لا يظلم عنده أحد. وكان العدل في ذاته وسامًا لذلك الملك وسماها المؤمنون دار أمن، وإن لم تكن دار إيمان. وأما الهجرة إلى المدينة فقد كانت إلى دار الإيمان. وعلينا أن نعرف نحن الذين نعيش في هذا الزمان أنه لا هجرة بعد الفتح، إلا إن كانت هجرة يقصد بها صاحبها المعونة على طاعة الله. وهو ما يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».