فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (101):

قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أوجب السفر للجهاد والهجرة، وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى: {وإذا ضربتم} أي بالسفر {في الأرض} أيّ سفر كان لغير معصية.
ولما كان القصر رخصة غير عزيمة، بينه بقوله: {فليس عليكم جناح} أي إثم وميل في {أن تقصروا} ولما كان القصر خاصًا ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال: {من الصلاة} أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء مثلًا في صلاة الخوف بقول عمر رضي الله تعالى عنه ليعلى بن أمية- حين قال له: كيف تقصر وقد أمنا-: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» وهذا هو حقيقة القصر والذي دلت عليه «من»، وأما الإيماء ونحوه من كيفيات صلاة الخوف فإبدال لا قصر، والسياق كام ترى مشير إلى شدة الاهتمام بشأنها، وأنه لا يسقطها عن المكلف شيء، وقاض بأن المخاطرة بالنفس والمال لا تسقط الجهاد ولا الهجرة إذ الخوف والخطر مبنى أمرهما ومحط قصدهما، فهذا سر قوله: {وإن خفتم أن يفتنكم} أي يخالطم مخالطة مزعجة {الذين كفروا} لا أنه شرط في القصر، كما بينت نفي شرطيته السنة، والحاصل أن هذا الشرط ذكر لهذا المقصد، لا لمخالفة المفهوم للمنطوق بشهادة السنة؛ وقد كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين، فأتمت بعد الهجرة إشارة إلى أن المدينة دار الإقامة وما قبلها كان محل سفر ونقلة؛ روى الشيخان وأحمد- وهذا لفظه- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر».
ولما ذكر الخوف منهم، علله مشيرًا بالإظهار موضع الإضمار، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما، أعرق فيه، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال: {إن الكافرين} أي الراسخين منهم في الكفر {كانوا} أي جبلة وطبعًا.
ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله: {لكم} دون عليكم {عدوًا} ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال: {مبينًا} أي ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلًا، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها، ولولا أنها لا رخصة فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن أحد الأمور التي يحتاج المجاهد إليها معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف، والاشتغال بمحاربة العدو؛ فلهذا المعنى ذكره الله تعالى في هذه الآية. اهـ.
قال الفخر:
قال الواحدي: يقال قصر فلان صلاته وأقصرها وقصرها، كل ذلك جائز وقرأ ابن عباس: تقصروا من أقصر، وقرأ الزهري: من قصر، وهذا دليل على اللغات الثلاث. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن لفظ القصر مشعر بالتخفيف، لأنه ليس صريحًا في أن المراد هو القصر في كمية الركعات وعددها أو في كيفية أدائها، فلا جرم حصل في الآية قولان: الأول: أن المراد منه صلاة المسافر، وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات، فإنها تصير في السفر ركعتين، فعلى هذا القصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما المغرب والصبح، فلا يدخل فيهما القصر.
الثاني: أنه ليس المراد بهذه الآية صلاة السفر، بل صلاة الخوف، وهو قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وجماعة، قال ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيّكم محمد صلى الله عليه وسلم، فهذان القولان متفرعان على ما إذا قلنا: المراد من القصر تقليل الركعات.
القول الثاني: أن المراد من القصر إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات، وهو أن يكتفي في الصلاة بالإيماء والإشارة بدل الركوع والسجود، وأن يجوز المشي في الصلاة، وأن تجوز الصلاة عند تلطخ الثوب بالدم، وذلك هو الصلاة التي يؤتى بها حال شدة التحام القتال، وهذا القول يروى عن ابن عباس وطاوس.
واحتج هؤلاء على صحة هذا القول بأن خوف الفتنة من العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على إتمام أوصافهما، وإنما ذلك فيما يشتد فيه الخوف في حال التحام القتال، وهذا ضعيف، لأنه يمكن أن يقال: إن صلاة المسافر إذا كانت قليلة الركعات، فيمكنه أن يأتي بها على وجه لا يعلم خصمه بكونه مصليًا، أما إذا كثرت الركعات طالت المدة ولا يمكنه أن يأتي بها على حين غفلة من العدو.
واعلم أن وجه الاحتمال ما ذكرنا، وهو أن القصر مشعر بالتخفيف، والتخفيف كما يحصل بحذف بعض الركعات فكذلك يحصل بأن يجعل الإيماء والإشارة قائمًا مقام الركوع والسجود.
واعلم أن حمل لفظ القصر على إسقاط بعض الركعات أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كيف نقصر وقد أمنا، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» وهذا يدل على القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وأن ذلك كان مفهومًا عندهم من معنى الآية.
الثاني: أن القصر عبارة عن أن يؤتي ببعض الشيء، ويقتصر عليه، فأما أن يؤتى بشيء آخر، فذلك لا يسمى قصرًا، ولا اقتصارًا، ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود، وتجويز المشي في الصلاة وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم، ليس شيء من ذلك قصرًا، بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء آخر، فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى.
الثالث: أن {مِنْ} في قوله: {مِنَ الصلاة} للتبعيض، وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة، فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة.
الرابع: أن لفظ القصر كان مخصوصًا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى لما صلّى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، قال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ الخامس: أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى الركعات، لئلا يلزم التكرار، والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قال الشافعي رحمه الله: القصر رخصة، فإن شاء المكلف أتم، وإن شاء اكتفى على القصر، وقال أبو حنيفة: القصر واجب، فإن صلّى المسافر أربعًا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته، وإن قعد بينهما مقدار التشهد تمت صلاته، واحتج الشافعي رحمه الله على قوله بوجوه:
الأول: أن ظاهر قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} مشعر بعدم الوجوب، فإنه لا يقال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} في أداء الصلاة الواجبة، بل هذا اللفظ إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء، فأما إيجابه على التعيين فهذا اللفظ غير مستعمل فيه، أما أبو بكر الرازي فأجاب عنه بأن المراد من القصر في هذه الآية لا تقليل الركعات، بل تخفيف الأعمال.
واعلم أنا بيّنا بالدليل أنه لا يجوز حمل الآية على ما ذكره، فسقط هذا العذر.
وذكر صاحب الكشاف وجهًا آخر فيه، فقال: إنهم لما ألفوا الاتمام، فربما كان يخطر ببالهم أن عليهم نقصانًا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر، فيقال له: هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم: رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال: أوجبت عليكم هذا القصر، وحرمت عليكم الاتمام، وجلعته مفسدًا لصلاتكم، فهذا الاحتمال مما لا يخطر ببال عاقل أصلًا، فلا يكون هذا الكلام لائقًا به.
الحجة الثانية: ما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت يا رسول الله: بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت وصمت وأفطرت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علي، وكان عثمان يتم ويقصر، وما ظهر إنكار من الصحابة عليه.
الحجة الثالثة: أن جميع رخص السفر شرعت على سبيل التجويز، لا على سبيل التعيين جزمًا فكذا ههنا، واحتجوا بالأحاديث منها ما روى عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال فيه «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» فظاهر الأمر للوجوب، وعن أبي عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرًا صلّى ركعتين.
والجواب: أن هذه الأحاديث تدل على كون القصر مشروعًا جائزًا، إلا أن الكلام في أنه هل يجوز غيره؟ ولما دل لفظ القرآن على جواز غيره كان القول به أولى، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف العلماء في حكم القصر في السفر؛ فروي عن جماعة أنه فرض.
وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان؛ واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها: «فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين» الحديث، ولا حجة فيه لمخالفتها له؛ فإنها كانت تُتمّ في السفر وذلك يُوهِنُه.
وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم؛ وقد قال غيرها من الصحابة كعمر وابن عباس وجُبير بن مُطعِم: «إن الصلاة فُرِضت في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» رواه مسلم عن ابن عباس.
ثم إن حديث عائشة قد رواه ابن عِجْلان عن صالح بن كَيْسان عن عُروة عن عائشة قالت: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين.
وقال فيه الأُوزاعيّ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين؛ الحديث، وهذا اضطراب.
ثم إن قولها: «فرضت الصلاة» ليس على ظاهره؛ فقد خرج عنه صلاة المغرب والصبح؛ فإن المغرب ما زِيد فيها ولا نقص منها، وكذلك الصبح، وهذا كله يضعّف متنه لا سنده.
وحكى ابن الجَهْم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض، ومشهور مذهبه وجُل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنَّة، وهو قول الشافعيّ، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
ومذهب عامّة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير؛ وهو قول أصحاب الشافعيّ.
ثم اختلفوا في أيهما أفضل؛ فقال بعضهم: القصر أفضل؛ وهو قول الأبْهَرِيّ وغيره.
وقيل: إن الإتمام أفضل؛ وحكي عن الشافعيّ.
وحكى أبو سعيد الفَرْوِيّ المالكيّ أن الصحيح في مذهب مالك التخيير للمسافر في الإتمام والقصر.
قلت وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} إلا أن مالكًا رحمه الله يستحبّ له القصر، وكذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم.