فصل: فصل نفيس لابن القيم في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال النووي في شرح المهذب: قلت ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح.
لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند اه. منه وعقده صاحب المراقي بقوله:
والرفع والوصل وزيد اللفظ ** مقبولة عند إمام الحفظ

إلخ... واستدل أيضًا من قال بأن الإقامة المجردة عن النية لا تقطع حكم السفر بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن حصين- رضي الله عنهما- قال: غزوت مع النَّبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يُصلّي إلا ركعتين يقول: «يا أهل البلدة صلوا اربعًا فإنا سفر» فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فإنا سفر مع إقامته ثماني عشرة يدل دلالة واضحة على أن المقيم من غير نية الإقامة يصدق عيه إسم المسافر، ويؤيده حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وهذا الحديث حسنه الترمذي وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
قال ابن حجر: وإنما حسن الترمذي حديثه لشاهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما علم من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق اه. وعلي بن زيد المذكور أخرج له مسلم مقرونًا بغيره.
وقال الترمذي في حديثه في السفر: حسن صحيح وقال: صدوق ربما رفع الموقوف ووثقه يعقوب بن شيبة.
وقال بعض أهل العلم: اختلط في كبره، وقد روى عنه شعبة، والثوري، وعبد الوراث، وخلق.
وقال الدارقطني: إنما فيه لين، والظاهر أن قول الدارقطني هذا أقرب للصواب فيه، لكن يتقى منه ما كان بعد الاختلاط. اه. إلى غير ذلك من الأدلة على أن الإقامة دون نيتها لا تقطع حكم السفر، «وقد أقام الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة». رواه البيهقي بإسناد صحيح، وتضعيفه بعكرمة بن عمار مردود بأن عكرمة المذكور من رجال مسلم في صحيحه.
وقد روى أحمد في مسنده عن ثمامة بن شراحيل عن ابن عمر أنه قال: «كنت بأذربيجان لا أدري قال: أربعة اشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين» وأخرجه البيهقي.
وقال ابن حجر في التلخيص: إن إسناده صحيح اه. ومذهب مالك الفرق بين العسكر بدار الحرب فلا يقصر وبين غيره فيقصر بنية إقامة أربعة أيام صحاح.
الفرع الخامس: إذا تزوج المسافر ببلد أو مر على بلد فيه زوجته أتم الصلاة. لأن الزوجة في حكم الوطن، وهذا هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد، وبه قال ابن عباس: وروي عن عثمان بن عفان، واحتج من قال بهذا القول بما رواه الإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنديهما عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه صلى بأهل منى اربعًا وقال: يا ايها الناس لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة المقيم».
قال العلامة ابن القيم- رحمه الله- في زاد المعاد بعد أن ساق هذا الحديث وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان. يعني: في مخالفته النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في قصر الصلاة في منى وأعل البيهقي حديث عثمان هذا بانقطاعه وأن في إسناده عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف.
قال ابن القيم: قال أبو البركات بن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك وأصحابهما اه. منه بلفظه.
قال مقيده- عفا الله عنه- الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان، وعائشة في الإتمام في السفر أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة، كما ثبت في صحيح مسلم أنه «صدقة تصدق الله بها» اه،. وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر ويدل لذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة «أنها كانت تصلي أربعًا قال: فقلت لها: لو صليت ركعتين فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي» وهذا أصرح شيء عنها في تعيين ما تأولت به والله أعلم.
الفرع السادس: لا يجوز للمسافر في معصية القصر. لأن الترخيص له والتخفيف عليه إعانة له على معصيته، ويستدل لهذا بقوله تعالى: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] الآية. فشرط في الترخيص بالاضطرار إلى أكل الميتة كونه غير متجانف لإثم، ويفهم من مفهوم مخالفته أن المتجانف لإثم لا رخصة له والعاصي بسفره متجانف لإثم والضرورة اشد في اضطرار المخمصة منها في التخفيف بقصر الصلاة ومنع ما كانت الضرورة إليه ألجأ بالتجانف للإثم يدل على منعه به فيما دونه من باب أولى، وهذا النوع من مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ عند الجمهور لا من القياس خلافًا للشافعي وقوم كما بيناه مرارًا في هذا الكتاب وهو المعروف بإلغاء الفارق وتنقيح المناط، ويسميه الشافعي القياس في معنى الأصل، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة- رحمه الله- فقال: يقصر العاصي بسفره كغيره لإطلاق النصوص. ولأن السفر الذي هو مناط القصر ليس معصية بعينه، وبه قال الثوري والأوزاعي: والقول الأول أظهر عندي والله أعلم. اهـ.

.فصل نفيس لابن القيم في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته:

قال عليه الرحمة:
كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرةَ بين أربعة أسفار: سفرِه لهجرته، وسفره للجهاد وهو أكثرها، وسفرِه للعمرة، وسفرِه للحج.
وكان إذا أراد سفرًا، أقرع بين نسائه، فأيَّتُهُن خرج سهمُها، سافر بها معه، ولما حجّ، سافر بهن جميعًا.
وكان إذا سافر، خرج مِن أول النهار، وكان يستحِبُّ الخروجَ يوم الخميس، ودعا اللّه تبارك وتعالى أن يُبارك لأُمَّتِهِ في بُكورها.وكان إذا بعث سرية أو جيشًا، بعثهم من أول النهار، وأمرَ المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمِّروا أحدهم. ونهى أن يُسافر الرجل وحدَه، وأخبر أن الراكِبَ شَيْطَانٌ، والرَّاكِبانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلاثَةُ رَكْب.
وذُكِرَ عنه أنه كان يقول حين ينهض للسفر «اللَهُم إلَيْك تَوَجَهْتُ، وبِكَ اعْتَصَمْت، اللَّهُم اكْفِني مَا أَهمَّني وَمَا لاَ أَهْتَم بهِ، اللَّهُمَّ زَوِّدْني التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لي ذَنْبِي، وَوَجِّهْنِي لِلخَيْرِ أَيَنَمَا تَوَجَّهْتُ».
وكان إذا قُدِّمتَ إليه دابتُه ليركبها، يقول: «بسم اللّه حين يضع رجله في الرِّكاب، وإذا استوى على ظهرها، قال: الحمدُ لله الَذي سَخَّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنَّا لَهُ بمقْرِنينَ وَإنَّا إِلَى رَبِّنَا لمنْقَلِبونَ، ثُمَّ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ، الحَمد لِلَّهِ، الحَمْدُ لِلَّهِ، ثم يقول:. اللَّه أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكبر، ثم يقولٌ: سُبْحَانَكَ إِنَيّ ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغفِرِ لِي إِنَّه لاَ يَغْفر الذُنُوبَ إِلاَّ أَنتَ» وكان يقول: «اللَّهم إنَّا نَسْألُكَ في سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُم هَوِّن عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، وَاطْوِ عَنَّا بُغدَهُ، اللَّهم أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ في الأَهْلِ، اللَهُمَّ إنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المنقَلَبِ، وَسوءِ المَنْظَرِ في الأَهلِ وَالمَالِ» وإذا رجع، قالهن، وزاد فيهن: «آيبون تَائِبُونَ عَابِدُون لِرَبِّنَا حَامِدُون».
وكان هو وأصحابُه إذا عَلوا الثنايا، كبَّروا، وإذا هبطوا الأودية، سبَحوا.
وكان إذا أشرف على قرية يُريد دخولَها يقولُ «اللَّهُمًّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وما أظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرضين السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وما أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَما ذَرَيْنَ، أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذِه القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِهَا، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا».
وذكر عنه أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أسأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ القَرْيَة وَخَيْرِ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشرِّ مَا جَمَعْتَ فِيهَا، اللَّهُمّ ارزُقْنَا جَنَاهَا، وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا، وَحَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحَبِّب صَالِحِي أَهْلِهَا إِلَيْنَا».
وكان يَقصُر الرُّبَاعية، فيصليها ركعتين مِن حين يخرُج مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبُت عنه أنه أتمَّ الرُّباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصُرُ في السفر ويتِمُّ، ويُفْطِرُ ويَصُومُ، فلا يَصحّ. وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم انتهى، وقد روي: كان يقصرُ وتتم، الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك يُفطر ويَصوم، أي: تأخذ هي بالعزيمة في. الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لِتُخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميعَ أصحابه، فتصليَ خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها أنها قالت: إن اللّه فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجرَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، زِيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يُظن بها مع ذلك أن تُصليَ بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه.
قلت: وقد أتمَّت عائشةُ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس وغيره: إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائمًا، فركب بعضُ الرواة من الحديثين حديثًا، وقال: فكان رسول صلى الله عليه وسلم يقصر وتُتم هي، فغلط بعضُ الرواة، فقال: كان يقصُرُ ويُتِمُّ، أي: هو.
والتأويل الذي تأولته قد اختُلِف فيه، فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف، زال سكبُ القصر، وهذا التأويل غيرُ صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمِنًا وكان يقصرُ الصلاة، والآية قد أشكلت على عُمر وعلى غيره، فسأل عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأجابه بالشِّفاء وأن هذا صَدَقَة مِنَ اللَّهِ وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيانَ أن حكم المفهوم غيرُ مراد، وأن الجناح مرتفعٌ في قصر الصلاة عن الآمِن والخائف، وغايتُه أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرًا يتناول قصرَ الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنُقصان ركعتين، وقُيِّدَ ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوفِ، فإذا وُجدَ الأمرانِ، أبيحَ القصران، فيُصلُون صلاةَ الخوف مقصورة عددُها وأركانُها، وإن انتفى الأمرانِ، فكانوا آمنين مقيمين، انتفى القصران، فتصلُّون صلاة تامة كاملة، وإن وُجِدَ أحدُ السببين، ترتب عليه قصرُه وحدَه، فإذا وُجِدَ الخوف والإِقامة، قُصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفرُ والأمن، قُصِرَ العدد واستوفي الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قَصْرٍ، وليس بالقصر المطلق، وقد تُسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تُسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة، كعائشة وابن عباس وغيرهما، قالت عائشة: فُرِضَتِ الصلاةُ ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، زيد في صلاة الحضر، وأُقِرَّتْ صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غيرُ مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرضَ اللَّهُ الصَّلاَة على لِسان نبيكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس وقال عمر رضى اللّه عنه: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان محمد، وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي اللّه عنه، وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالُنا نقصُر وقد أمِنَّا؟ فقال له رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «صدَقَةٌ تَصَدَّقَ بهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلوا صَدَقَتَهُ».