فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنزل الله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل.
وقيل: زيد بن السّمين وقيل: رجل من الأنصار.
فلما أنزل الله ما أنزل، هرب ابن أبَيْرَق السارق إلى مكة، ونزل على سُلافة بنت سعد بن شهيد؛ فقال فيها حسان بن ثابت بيتًا يُعرِّض فيه بها، وهو:
وقد أنزَلتْه بنتُ سعد وأصبحتْ ** ينازعها جلْدَ آستها وتنازعه

ظننتم بأن يَخْفَى الذي قد صنعتمو ** وفينا نبيُّ عنده الوَحْيُ واضعه

فلما بلغها قالت: إنما أهديْتَ لي شعر حسان؛ وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل، فهرب إلى خيبر وارتدَّ.
ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليَسْرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدًا.
ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير محمد بن سلمة الحرَّاني.
وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة.
وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره، والقشيري كذلك وزاد ذكر الرّدة، ثم قيل: كان زيد بن السّمين ولبيد بن سهل يهوديين.
وقيل: كان لبيد مسلما.
وذكره المهدوي، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له.
فدل ذلك على إسلامه عنده.
وكان بشير رجلا منافقًا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعرَ غيره، وكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث.
فقال شعرا يتنصّل فيه؛ فمنه قوله:
أو كُلما قال الرجالُ قصيدةً ** نحلت وقالوا ابن الأُبَيْرَق قالها

وقال الضحاك: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعًا، فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به؛ فنزل {هَا أَنْتُمْ هؤلاء} يعني اليهود. والله أعلم. اهـ.

.قال الثعالبي:

سببها، باتفاق من المتأولين: أمْرُ بني أُبَيْرِقٍ، وكانوا إخْوَةً: بِشْرٌ، وبَشِيرٌ، وَمُبَشِّر، وطُعَيْمَةُ، وكان بَشِيرٌ رجلًا منافقًا يهجُو أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وينحل الشِّعْر لغيره، فكان المسلمونَ يَقُولُونَ: واللَّهِ، ما هو إلاَّ شِعْرُ الخَبِيثِ، فقال شعرًا يتنصَّل فيه؛ فَمِنْهُ قوله: [الطويل]
أَفِي كُلِّ مَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَة ** نُحِلْتُ، وَقَالُوا: ابن الأُبَيْرِقِ قَالَهَا

قال قتادةُ بنُ النُّعْمَانِ: وكان بَنُو أُبَيْرِقٍ أهْلَ فَاقَةٍ، فابتاع عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنْ دَرْمَكِ الشِّامِ، فجعله في مَشْرُبَةٍ له، وفي المَشْرُبَةِ دِرْعَانِ له، وسَيْفَانِ، فَعُدِيَ على المَشْرُبَةِ من اللَّيْلِ، فلما أصْبَحَ، أتانِي عَمِّي رفاعَةُ، فقال: يَابْنَ أَخِي، أتعلَمُ أنه قَدْ عُدِيَ علَيْنا في لَيْلَتِنَا هذه، فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتُنَا، وذُهِبَ بطَعَامِنَا، وسِلاَحِنا، قال: فتحسَّسْنا في الدَّار، وسألنا، فَقِيلَ لنا: قد رأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ استوقدوا نَارًا في هذه الليلةِ، ولاَ نُرَاهُ إلاَّ على بعض طعامِكُمْ، قال: وقد كان بَنُو أُبَيْرِقٍ قالُوا، ونَحْنُ نَسْأَلُ: وَاللَّهِ، مَا نرى صَاحِبَكُمْ إلاَّ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ، رَجلٌ مِنَّا لَهُ صَلاَحٌ وإسْلاَمٌ، فَسَمِعَ ذَلِكَ لَبِيدٌ، فاخترط سَيْفَهُ، ثُمَّ أتى بَنِي أُبَيْرِقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، فَقَالُوا: إلَيْكَ عَنَّا، أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَوَاللَّهِ، مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حتى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي: يَابْنَ أَخِي، لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأخبرتَهُ بِهَذِهِ القِصَّةِ، فأتيتُهُ صلى الله عليه وسلم، فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: انظر فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ، أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ، فكلَّموه في ذلكَ، واجتمع إلَيْهِ ناسٌ مِنْ أَهْلِ الدارِ، فأَتَوْا رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ رِفَاعَةَ عَمَدَا إلى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إسْلاَمٍ وَصَلاَحٍ يَرْمِيَانِهِمْ بِالسَّرِقَةِ على غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال قَتَادةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: عَمَدتَّ إلى أَهْلِ بَيْتٍ، ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ، فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال: فَرَجَعْتُ، وَقَدْ وَدِدتُّ أَنْ أَخْرُجَ عَنْ بَعْضِ مَالِي، وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، فَأَتَيْتُ عَمِّي، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اللَّهُ المُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ القُرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق...} الآيات، قال: فالخائِنُونَ: بنو أُبَيْرِقٍ، والبريءُ المَرْمِيُّ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ، والطائفةُ التي هَمَّتْ أُسَيْرٌ وأصحابُهُ.
قال قتادة وغَيْرُ واحدٍ: هذه القصَّة ونحوها إنما كان صاحبُها طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، ويقال فيه: طُعَيْمَةُ.
قال * ع *: وطُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِق صرَّح بعد ذلك بالاِرتدادِ، وهَرَبَ إلى مكَّة، فرُوِيَ أنه نَقَبَ حائطَ بَيْتٍ؛ ليسرقه، فانهدم الحائطُ عليه، فقَتَلَه، ويروى أنه اتبع قومًا من العرب، فسرقهم، فقتلوه. اهـ.

.قال الفخر:

اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق، ثم في كيفية الواقعة روايات:
أحدها: أن طعمة سرق درعًا فلما طلبت الدرع منه رمى واحدًا من اليهود بتلك السرقة، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي، فهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك فنزلت الآية، وثانيها: أن واحدًا وضع عنده درعًا على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها.
وثالثها: أن المودع لما طلب الوديعة زعم أن اليهودي سرق الدرع واعلم أن العلماء قالوا هذا يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} [النساء: 113] ثم روي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد وثقب حائطًا هناك لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ووقع في «كتاب أسباب النزول» للواحدي، وفي بعض روايات الطبري سوق القصة ببعض مخالفة لما ذكرتُه: وأنّ بني ظَفر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن أصحابهم كي لا يفتضحوا ويبرأ اليهودي، وأنّ رسول الله هَمّ بذلك، فنزلت الآية.
وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لام اليهودي وبَرّأ المتّهم، وهذه الرواية واهية، وهذه الزيادة خطأ بيِّنٌ من أهل القَصص دون علم ولا تبصّر بمعاني القرآن.
والظاهر أنّ صدر الآية تمهيد للتلويح إلى القصة، فهو غير مختصّ بها، إذ ليس في ذلك الكلام ما يلوّح إليها، ولكن مبدأ التلويح إلى القصة من قوله: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم}. اهـ.

.قال الفخر:

قال أبو علي الفارسي: قوله: {أَرَاكَ الله} إما أن يكون منقولًا بالهمزة من رأيت التي يراد بها رؤية البصر، أو من رأيت التي تتعدى إلى المفعولين، أو من رأيت التي يراد بها الاعتقاد، والأول باطل لأن الحكم في الحادثة لا يرى بالبصر، والثاني أيضًا باطل لأنه يلزم أن يتعدى إلى ثلاثة لا إلى المفعولين بسبب التعدية، ومعلوم أن هذا اللفظ لم يتعد إلا إلى مفعولين أحدهما: الكاف التي هي للخطاب، والآخر المفعول المقدر، وتقديره: بما أراكه الله، ولما بطل القسمان بقي الثالث، وهو أن يكون المراد منه رأيت بمعنى الاعتقاد. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ الله} معناه على قوانين الشرع؛ إمّا بوَحْيٍ ونَص، أو بنظر جارٍ على سنن الوَحي.
وهذا أصل في القياس؛ وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئًا أصاب؛ لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العِصْمَة؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئًا يظنه فلا قطع فيما رآه، ولم يُرد رؤية العين هنا؛ لأن الحكم لا يرى بالعين.
وفي الكلام إضمار، أي بما أراكه الله، وفيه إضمار آخر.
وأمض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه ثبت بما قدمنا أن قوله: {بِمَا أَرَاكَ الله} معناه بما أعلمك الله، وسمي ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريًا مجرى الرؤية في القوة والظهور، وكان عمر يقول: لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى، فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيّه، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنًا ولا يكون علمًا.
إذا عرفت هذا فنقول:
قال المحققون: هذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالوحي والنص.
وإذا عرفت هذا فنقول: تفرع عليه مسألتان:
إحداهما: أنه لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالنص، فوجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] وإذا كان كذلك وجب أن يكون العمل بالقياس حرامًا.
والجواب عنه أنه لما قامت الدلالة على أن القياس حجة كان العمل بالقياس عملًا بالنص في الحقيقة، فإنه يصير التقدير كأنه تعالى قال: مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر جامع بين الصورتين فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن، وإذا كان الأمر كذلك كان العمل بهذا القياس عملًا بعين النص. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {بما أراك الله} الباء للآلة جعل ما أراه الله إيّاه بمنزلة آلة للحكم لأنّه وسيلة إلى مصادفة العدل والحقّ ونفي الجور، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ.
والرؤية في قوله: {أراك الله} عرفانية، وحقيقتها الرؤية البصرية، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد.
والرؤية البصرية تنصب مفعولا واحدًا فإذ أدخلت عليها همزة التعدية نصبت مفعولين كما هنا، وقد حذف المفعول الثاني لأنّه ضمير الموصول، فأغنى عنه الموصول، وهو حذف كثير، والتقدير: بما أراكَه الله.
فكلّ ما جعله الله حقّا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس، وليس المراد أنّه يُعلمه الحقّ في جانب شخص معيّن بأنّ يقول له: إن فلانًا على الحقّ، لأنّ هذا لا يلزم اطّراده، ولأنّه لا يُلفى مدلولا لجميع آيات القرآن وإنْ صلح الحمل عليه في مثل هذه الآية، بل المراد أنّه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالّة على وصف الأحوال التي يتحقّق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبيّنة في الكتاب، مثل قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} [الأحزاب: 4]، فقد أبطل حكم التبنّي الذي كان في الجاهلية، فأعلَمنا أنّ قَول الرجل لمن ليس ولده: هذا ولدي، لا يجعل للمنسوب حقًّا في ميراثه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئ في إدراج الجزئيات تحت كليّاتها، وقد يعرض الخطأ لغيره، وليس المراد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصادف الحقّ من غير وجوهه الجارية بين الناس، ولذلك قال «إنّما أنا بَشَر وإنَّكُم تختصمون إليّ ولعَلّ بعضَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بحجّته من بعضضٍ فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه فلا يأخُذْه فإنّما أقْتَطِعُ له قِطعَة من نار».
وغير الرسول يخطئ في الاندراج، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل، ومن ثمّ استدلّ علماؤنا بهذه الآية على وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة.
وعن عمر بن الخطاب أنّه قال: «لا يقولّن أحد قضيت بما أراني الله تعالى فإنّ الله تعالى لم يجعل ذلك إلاّ لنبيّه وأمّا الواحد منّا فرأيه يكون ظنّا ولا يكون علمًا»، ومعناه هو ما قدّمناه من عروض الخطأ في الفهم لغير الرسول دون الرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ.