فصل: تفسير الآية رقم (112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولنضرب هذا المثل للإيضاح- ولله المثل الأعلى- نحن نجد الرجل ينظر إلى وسامة زوجته بكل ملكاته، لكنه لو نظر إلى واحدة أخرى من غير محارمه فهو يقوم بعملية لخداع ملكات النفس حتى يتلصص ليرى هذه المرأة. ويحاول التحايل والافتعال ليتلصص على ما ليس له. ولذلك يقال عن الحلال: إنه «كسب» ويقال عن الحرام: إنه «اكتساب».
فإذا ما جاء القرآن للسيئة وقال «كسب سيئة» فهذا أمر يستحق الالتفات، فالإنسان قد يعمل السيئة ويندم عليها بمجرد الانتهاء منها إن كان من أهل الخير، ونجده يويخ نفسه ويلومها ويعزم على ألا يعود إليها. لكن لو ارتكب واحد سيئة وسعد بذلك وكأنها حققت له كسبًا ويفخر بها متناسيًا الخطر الجسيم الذي سوف يواجهه يوم القيامة والمصير الأسود، وهو حين يفخر بالمعصية ففي ذلك إعلان عن فساد الفطرة، وسيادة الفجور في أعماقه، وهو يختلف عن ذلك الذي تقع عليه المعصية ولحظة ما يتذكرها يقشعر بدنه ويستغفر الله.
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} فإياك أيها الإنسان أن تظن أنك حين تظلم أحدًا بعمل سوء قد كسبت الدنيا؛ فوالله لو علم الظالم ماذا أعد الله للمظلوم لضن على عدوه أن يظلمه. وأضرب هذا المثل للإيضاح- ولله المثل الأعلى دائمًا- هب أن رجلًا له ولدان. وجاء ولد منهما وضرب أخاه أو خطف منه شيئا يملكه، ورأى الأب هذا الحادث، فأين يكون قلب الأب ومع من يكون؟
إن الأب يقف مع المظلوم، ويحاول أن يرضيه، فإن كان الأخ الظالم قد أخذ منه شيئًا يساوي عشرة قروش، فالأب يعوض الابن المظلوم بشيء يساوي مائة قرش. ويعيش الظالم في حسرة، ولو علم أن والده سيكرم أخاه المظلوم لما ظلمه أبدًا. إذن فالظلم قمة من قمم الغباء.
ومن ضمن المفارقات التي تروى مفارقة تقول: إن كنت ولابد مغتابًا فاغتب أبويك. ولابد أن يقول السامع لذلك: وكيف أغتاب أبي وأمي؟ فيقول صاحب المفارقة: إن والديك أولى بحسناتك، فبدلًا من أن تعطي حسناتك لعدوك، ابحث عمن تحبهم وأعطهم حسناتك. وحيثية ذلك هي: لا تكن أيها المغتاب أحمق لأنك لا تغتاب إلا عن عداوة، وكيف تعطي لعدوك حسناتك وهي نتيجة أعمالك؟
ونعرف ما فعله سيدنا الحسن البصري، عندما بلغه أن واحدًا قد اغتابه.
فأرسل إلى المغتاب طبقًا من البلح الرطب مع رسول، وقال للرسول: اذهب بهذا الطبق إلى فلان وقل له: بلغ سيدي أنك اغتبته بالأمس فأهديت له حسناتك، وحسناتك بلاشك أثمن من هذا الرطب. وفي هذا إيضاح كاف لذم الغيبة.
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} ونعلم أنه إذا جاءت أي صفة من صفات الحق داخلة في صورة كينونة أي مسبوقة بـ «كان» فإياكم أن تأخذوا «كان» على أنها وصف لما حدث في زمن ماضٍ، ولكن لنقل «كان وما زال». لماذا؟ لأن الله كان أزلًا، فهو غفور رحيم قبل أن يوجد مغفور له أو مرحوم؛ فالله ليس من اهل الأغيار، والصفات ثابتة له؛ لأن الزمن في الأحداث يتغير بالنسبة للأغيار فقط، وعلى سبيل المثال نجد الواحد من البشر صحيحًا في زمن ومريضًا في زمن آخر.
ولذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الماضي إلا أصحاب الأغيار. وكذلك لا يخرج الزمن المستقبل عن الزمن الحاضر إلا في أصحاب الأغيار. ومادام الله هو الذي يغير ولا يتغير فلن يغيره زمن ما، بل كان في الأزل غفورًا رحيما، ولايزال أيضًا غفورًا رحيمًا. وكذلك كان علم الله أزليًا وحكمته لا حدود لها. اهـ.

.تفسير الآية رقم (112):

قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر ما يخص الإنسان من إثمه أتبعه ما يعديه إلى غيره فقال: {ومن يكسب خطيئة} أي ذنبًا غير متعمد له {أو إثمًا} أي ذنبًا تعمده.
ولما كان البهتان شديدًا جدًا قلَّ من يجترئ عليه، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم يرم به بريئًا} أي ينسبه إلى من لم يعمله- كما فعل طعمة باليهودي، وابن أبي بالصديقة رضي الله تعالى عنها.
وعظم جرم فاعل ذلك بصيغة الافتعال في قوله: {فقد احتمل} وبقوله: {بهتانًا} أي خطر كذب يبهت المرمى به لعظمه، وكأنه إشارة إلى ما يلحق الرامي في الدنيا من الذم {وإثمًا} أي ذنبًا كبيرًا {مبينًا} يعاقب به في الآخرة، وإنما كان مبينًا لمعرفته بخيانة نفسه وبراءة المرمى به، ولأن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته الجميلة أن يظهر براءة المقذوف به يومًا ما بطريق من الطرق ولو لبعض الناس. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ذكروا في الخطيئة والإثم وجوهًا:
الأول: أن الخطيئة هي الصغيرة، والإثم هو الكبيرة وثانيها: الخطيئة هي الذنب القاصر على فاعلها، والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل.
وثالثها: الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو بالخطأ، والإثم ما يحصل بسبب العمد، والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} [النساء: 111] فبيّن أن الإثم ما يكون سببًا لاستحقاق العقوبة.
وأما قوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} فالضمير في {بِهِ} إلى ماذا يعود؟ فيه وجوه: الأول: ثم يرم بأحد هذين المذكورين.
الثاني: أن يكون عائدًا إلى الإثم وحده لأنه هو الأقرب كما عاد إلى التجارة في قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا}
الثالث: أن يكون عائدًا إلى الكسب، والتقدير: يرم بكسبه بريئًا، فدل يكسب على الكسب.
الرابع: أن يكون الضمير راجعًا إلى معنى الخطيئة فكأنه قال: ومن يكسب ذنبًا ثم يرم به بريئًا.
وأما قوله: {فَقَدِ احتمل بهتانا} فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكر وهو برئ منه.
واعلم أن صاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم، ومعاقب في الآخرة أشد العقاب، فقوله: {فَقَدِ احتمل بهتانا} إشارة إلى ما يلحقه من الذم العظيم في الدنيا، وقوله: {وَإِثْمًا مُّبِينًا} إشارة إلى ما يلحقه من العقاب العظيم في الآخرة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خطيئة أَوْ إِثْمًا} قيل: هما بمعنى واحد كرر لاختلاف اللفظ تأكيدًا.
وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد.
وقيل: الخطيئة ما لم تتعمده (خاصة) كالقتل بالخطأ.
وقيل: الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة، وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} قد تقدّم اسم البريء في البقرة.
والهاء في {به} للإثم أو للخطيئة.
لأن معناها الإثم، أولهما جميعًا.
وقيل: ترجع إلى الكسب.
{فَقَدِ احتمل بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} تشبيه؛ إذ الذنوب ثِقل ووِزر فهي كالمحمولات.
وقد قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
والبُهتان من البَهْت، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغِيبة»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: «ذِكْرُك أخاك بما يكره».
قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته» وهذا نَصٌّ؛ فرمي البريء بهت له.
يقال: بَهتَه بَهْتًا وبَهَتًا وبُهْتَانًا إذا قال عليه ما لم يفعله.
وهو بَهّات والمقول له مَبْهُوت.
ويقال: بهِت الرجل (بالكسر) إذا دُهِش وتحيّر.
وبَهُت (بالضم) مثله، وأفصح منهما بُهِت، كما قال الله تعالى: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] لأنه يقال: رجل مبهوت ولا يقال: باهِت ولا بَهِيت، قاله الكسائي. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ومن يكسب خطيئةً أو إِثمًا} جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة بقصة طُعمة بن أبيرق.
وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله ابن أبيِّ بن سلول إِذ رمى عائشة عليها السلام بالإِفك.
وفي قوله: {خطيئةً أو إِثمًا} أربعة أقوال:
أحدها: أن «الخطيئة» يمين السارق الكاذبة، و«الإِثم»: سرقته الدرع، ورميه اليهودي، قاله ابن السائب.
والثاني: أن «الخطيئة» ما يتعلق به من الذنب، و«الإِثم»: قذفه البريء، قاله مقاتل.
والثالث: أن «الخطيئة» قد تقع عن عمد، وقد تقع عن خطأ، و«الإثم»: يختصّ العمد.
قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي.
وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإِثم.
والرابع: أنه لمّا سمى الله عز وجل بعض المعاصي خطيئة، وبعضها إِثمًا، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين، ثم قذف به بريئًا، فقد احتمل بهتانًا، ذكره الزجاج أيضًا فأما قوله: {ثم يرم به بريئًا} أي: يقذفُ بما جناه بريئًا منه.
فإن قيل: الخطيئة والإِثم اثنان، فكيف قال: به، فعنه أربعة أجوبة.
أحدها: أنه أراد: ثم يرم بهما، فاكتفى بإعادة الذكر على الإثم من إِعادته على الخطيئة، كقوله: {انفضّوا إِليها} فخصّ التجارة، والمعنى للتجارة واللّهو.
والثاني: أن الهاء تعودُ على الكسب، فلما دلّ بـ {يكسب} على الكسب، كنى عنه.
والثالث: أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإِثم، كأنه قال: ومَن يكسب ذنبًا، ثم يرم به.
ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
والرابع: أن الهاء تعود على الإِثم خاصة، قاله ابن جرير الطبري.
وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان:
أحدهما: أنه كان يهوديًا، قاله ابن عباس، وعكرمة، وابن سيرين، وقتادة، وابن زيد، وسمّاه عكرمة، وقتادة: زيد بن السُّمَير.
والثاني: أنه كان مسلمًا، روي عن ابن عباس، وقتادة بن النعمان، والسدي، ومقاتل.
واختلفوا في ذلك المسلم، فقال الضحاك عن ابن عباس: هو عائشة لما قذفها ابن أبيّ، وقال قتادة بن النعمان: هو لبيد بن سهل، وقال السدي، ومقاتل: هو أبو مُليل الأنصاري.
فأما البهتان: فهو الكذب الذي يُحيّر من عِظَمه، يقال: بهت الرجل: إِذا تحيّر.
قال ابن السائب: فقد احتمل بهتانًا برميه البريء، وإِثمًا مبينًا بيمينه الكاذبة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} أي صغيرة أو ما لا عمد فيه من الذنوب.