فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فنقول: هات هذه الفروض الخمسة من القرآن. ولسوف يصيبه البهت، وسيلتبس عليه أمر تحديد الصبح بركعتين والظهر بأربع ركعات، والعصر بمثلها، والمغرب بثلاث، والعشاء بأربع ركعات. وسيعترف أخيرًا أنه يصلي على ضوء قول الرسول: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وهذه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} وقد نجد واحدًا من اهل السطحية واللجاجة يقول: القرآن يكرر الكلمات في أكثر من موقع، ولماذا يذكر فضل الله في صدر هذه الآية، ويذكره مرة أخرى في ذيل نفس الآية؟.
نقول: أنت لم تلحظ فضل الله في الجزئية الأولى لأنه أنقذ رسوله من همّ التزيين بالحكم على واحد من أهل الكتاب ظلمًا، وفي الجزئية الثانية هو فضل في الإتمام بأنه علم رسوله الكتاب والحكمة وكان هذا الفضل عظيمًا حقًا.
وساعة يذهب هؤلاء الناس ليحدثوا الرسول في أمر طعمة ابن أبيرق، ألم يجلسوا معا ليتدارسوا كيف يفلت طعمة بن أبيرق من الجريمة؟.
لقد قاموا بالتداول فيما بينهم لأمر طعمة واتفقوا على أن يذهبوا للرسول؛ فكانت الصلة قريبة من النجوى. ولذلك حرص أدب الإسلام على أن يحترم كرامة أي جليس ثالث مع اثنين فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ لأن ذلك يحزنه.
وقد يكون الأمر جائزًا لو كان الجلوس أربعة، فواحد يتحدث مع آخر، وهناك يستطيع اثنان أن يتناجيا. إذن فالنجوى معناها المسارّة، والمسارّة لا تكون إلا عن أمر لا يحبون أن يشيع، وقد فعل القوم ذلك قبل أن يذهبوا إلى الرسول ليتكلموا عن حادثة طعمة بن أبيرق، ولذلك يفضح الحق أمر هذه النجوى، فينزل القول الحق: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ..} اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
هَذَا بَيَانٌ لِلْمَخْرَجِ مِنَ الذَّنْبِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَالسُّوءُ مَا يَسُوءُ أَيْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْغَمُّ وَالْكَدَرُ وَفَسَّرُوهُ بِالذَّنْبِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ عَاقِبَتَهُ تَسُوءُ وَلَوْ عِنْدَ الْجَزَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ تُشِيرُ إِلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتُكِبَتْ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَ السِّيَاقُ بِسَبَبِهَا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَاتُ تَحْذِيرٌ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ هَدْمَ رُكْنِهِمَا، وَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا يُمْتَثَلُ هَذَا التَّحْذِيرُ بِالِاجْتِهَادِ وَتَحَرِّي الْعَدْلِ وَعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْخُصَمَاءِ، وَالسُّوءُ مَا يَسُوءُ بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ، وَالظُّلْمُ مَا كَانَ ضَرَرُهُ خَاصًّا بِالْعَامِلِ كَتَرْكِ الْفَرِيضَةِ، أَيْ: هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِمَا هُنَا، وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لَازِمَهُ وَهُوَ الشُّعُورُ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةُ مِنْهُ، وَلِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- خُطْبَةً فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِغْفَارِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي تُذِيبُ الشَّحْمَ وَتُفْنِي الْعَظْمَ، وَمَعْنَى وِجْدَانِهِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا أَنَّ اللهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَرُدَّ تَوْبَةَ عَبْدِهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلِمَ مِنْهُ الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ.
أَقُولُ: وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي مُذَكِّرَاتِي عَنِ الدَّرْسِ عِنْدَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لابد مِنْ نُكْتَةٍ لِهَذَا التَّعْبِيرِ وَهِيَ: وَتَرَكْتُ بَيَاضًا لِأَكْتُبَ فِيهِ مَا ظَهَرَ لِي مِنَ النُّكْتَةِ ثُمَّ نَسِيتُهُ إِلَى الْآنَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِوِجْدَانِ اللهِ غَفُورًا رَحِيمًا هُوَ أَنَّ التَّائِبَ الْمُسْتَغْفِرَ يَجِدُ أَثَرَ الْمَغْفِرَةِ فِي نَفْسِهِ بِكَرَاهَةِ الذَّنْبِ وَذَهَابِ دَاعِيَتِهِ، وَيَجِدُ أَثَرَ الرَّحْمَةِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُطَهِّرُ النَّفْسَ وَتُزِيلُ ذَلِكَ الدَّرَنَ مِنْهُ، فَيَكُونُ السُّوءُ أَوِ الظُّلْمُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ الْعَبْدُ مِصْدَاقًا لِقَوْلِ ابْنِ عَطَاءِ اللهِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ: رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَانْكِسَارًا، خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا، وَالْمُرَادُ الذُّلُّ وَالِانْكِسَارُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي يُورِثُ صَاحِبَهُ الْعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ مَعَ غَيْرِهِ، وَفِي الْآيَةِ تَرْغِيبٌ لِطُعْمَةَ وَأَنْصَارِهِ فِي التَّوْبَةِ.
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} أَيْ: وَمَنْ يَعْمَلِ الْإِثْمَ عَنْ قَصْدٍ وَيَرَ أَنَّهُ قَدْ كَسَبَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ، فَإِنَّمَا كَسْبُهُ هَذَا وَبَالٌ عَلَى نَفْسِهِ وَضَرَرٌ لَا نَفْعَ لَهُمَا كَمَا يَتَوَهَّمُ لِجَهْلِهِ بِعَوَاقِبِ الْآثَامِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْعَوَاقِبِ غَيْرِ الْمَأْمُونَةِ فِي الدُّنْيَا فَضِيحَةُ الْآثِمِ وَمَهَانَتُهُ بِظُهُورِ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ وَلِلْحَاكِمِ الْعَادِلِ، كَمَا وَقَعَ لِأَصْحَابِ الْقِصَّةِ الَّذِينَ نَزَلَتْ بِسَبَبِهِمُ الْآيَاتُ، وَسَتَرَى تَحْدِيدَ مَعْنَى الْإِثْمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَدَّدَ لِلنَّاسِ بِعِلْمِهِ حُدُودَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَضُرُّهُمْ تَجَاوُزُهَا، وَبِحِكْمَتِهِ جَعَلَ لَهَا عِقَابًا يَضُرُّ الْمُتَجَاوِزَ لَهَا، فَهُوَ إِذَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللهَ شَيْئًا.
{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، أَقُولُ: يُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ الْخَطِيئَةَ وَالْإِثْمَ وَالذَّنْبَ وَالسَّيِّئَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِكُلِّ لَفْظٍ مِنْهَا مَعْنًى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ، وَيَقُولُ الرَّاغِبُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، أَيْ: مِثْلَ السُّكْرِ وَالْمَيْسِرِ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْغَلَانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [2: 219]، وَأَمَّا الْخَطِيئَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مِنَ الْخَطَأِ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَصِيغَةُ فَعِيلَةُ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَيْضًا فَالْخَطِيئَةُ الْفِعْلَةُ الْعَرِيقَةُ فِي الْخَطَأِ لِظُهُورِهِ فِيهَا ظُهُورًا لَا يُعْذَرُ صَاحِبُهُ بِجَهْلِهِ، وَالْخَطَأُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تُخْطِئَ مَا يُرَادُ مِنْكَ، وَهُوَ مَا يُطَالِبُكَ بِهِ الشَّرْعُ وَيَفْرِضُهُ عَلَيْكَ الدِّينُ، أَوْ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالْعَهْدُ، وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مَا يُخْطِئُهُ الْفَاعِلُ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرْعِ: أَيْ يَتَجَاوَزُهُ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْ هُنَا جَعَلُوا الْخَطِيئَةَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ هُنَا بِالْخَطَأِ وَالْإِثْمِ بِالْعَمْدِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَطِيئَةُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الذَّنْبِ عَنِ الْفَاعِلِ خَطَأً، أَيْ: مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَالْإِثْمُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَيَعْنِي بِالْمُلَاحَظَةِ تَذَكُّرَ ذَلِكَ وَتَصَوُّرَهُ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدَمَ الْمُلَاحَظَةِ وَالشُّعُورِ بِالذَّنْبِ عِنْدَ فِعْلِهِ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ تَمَكُّنَ دَاعِيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ وَوُصُولَهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَالْأَخْلَاقِ الثَّابِتَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَقُولُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَيَانُ تَوْجِيهًا لِقَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْخَطِيئَةَ هُنَا بِالْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ، وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ أَيْ: يُحَيِّرُهُ وَيُدْهِشُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يُبْرِئْ نَفْسَهُ مِنْهُ أَيْ: مِمَّا ذَكَرَ، وَيَرْمِ بِهِ بَرِيئًا أَيْ: يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ وَيَزْعُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَسَبَهُ، فَقَدِ احْتَمَلَ أَيْ كَلَّفَ نَفْسَهُ أَنْ يَحْمِلَ وِزْرَ الْبُهْتَانِ بِافْتِرَائِهِ عَلَى الْبَرِيءِ وَاتِّهَامِهِ إِيَّاهُ، وَوِزْرُ: الْإِثْمُ الْبَيِّنُ الَّذِي كَسَبَهُ وَتَنَصَّلَ مِنْهُ، وَقَدْ فَشَا هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَعَ هَذَا يَنْسُبُ الْمَارِقُونَ ضَعْفَهُمْ إِلَى دِينِهِمْ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ تَرْكُ هِدَايَتِهِ، فَالْحَادِثَةُ الَّتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِثْرَ وُقُوعِهَا كَانَتْ فَذَّةً فِي بَابِهَا، وَمَا زَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَرَقَ أَوْ خَانَ بَعْضُهُمْ، وَنَصَرَهُ آخَرُونَ وَبَهَتُوا الْيَهُودِيَّ بِرَمْيِهِ بِجُرْمِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ، لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِثْمِ الْمُبِينِ، وَالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ، لَا يَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلَكِنَّ مِثْلَهَا صَارَ الْيَوْمَ مَأْلُوفًا، بَلْ وُجِدَ فِي بَعْضِهِمْ مَنْ يُفْتِي بِجَوَازِ خِيَانَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا عَلِمْنَا مِنْ وَاقِعَةِ حَالٍ اسْتُفْتِينَا فِيهَا وَنُشِرَتِ الْفَتْوَى فِي الْمَنَارِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ هَذَا الْخِذْلَانِ.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَالْحِكَمَ وَالْمَوَاعِظَ الْمُنْطَبِقَةَ عَلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَوَجَّهَ إِلَى كُلِّ مَنْ لَهُ شَأْنٌ فِيهَا مَا يُنَاسِبُهُ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، خَاطَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} أَيْ: لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالتَّأْيِيدِ بِالْعِصْمَةِ، وَرَحْمَتُهُ لَكَ بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ، لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ بِمُسَاعَدَةِ الْخَائِنِ أَنْ يُضِلُّوكَ عَنِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ الْمُنْطَبِقِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَضِيَّةِ فِي نَفْسِهَا، أَيْ: يُضِلُّوكَ بِقَوْلِ الزُّورِ وَتَزْكِيَةِ الْمُجْرِمِ وَبُهْتِ الْيَهُودِيِّ الْبَرِيءِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالظَّوَاهِرِ، أَوْ بِمُحَاوَلَةِ الْمَيْلِ إِلَى إِدَانَةِ الْيَهُودِيِّ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُبِيحُ تَرْجِيحَ الْمُسْلِمِ عَلَى غَيْرِهِ وَنَصْرَهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا كَمَا يَعْهَدُونَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمِلَلِ، وَلَكِنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَطْمَعُوا فِي ذَلِكَ وَيَهُمُّوا بِهِ جَاءَكَ الْوَحْيُ بِبَيَانِ الْحَقِّ، وَإِقَامَةِ أَرْكَانِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، إِذْ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: جِئْنَا لِنُبَايِعُكَ عَلَى أَلَّا تَكْسِرَ أَصْنَامَنَا وَلَا تُعَشِّرْنَا، فَرَدَّهُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِانْحِرَافِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهِ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَقَدْ عَصَمَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُجَادِلْ عَنْهُمْ وَلَا أَطْمَعُهُمْ فِي التَّحَيُّزِ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ وَلَا بَعْدَهُ بِالْأَوْلَى.
هَذَا مَا ظَهَرَ لِيَ الْآنَ، وَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَتِهِ إِلَى مُذَكِّرَاتِي الَّتِي كَتَبْتُهَا فِي دَرْسِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فَإِذَا فِيهَا مَا نَصَّهُ:
كَانَ الْكَلَامُ فِي الْمُخْتَانِينَ أَنْفُسَهُمْ وَمُحَاوَلَتِهِمْ زَحْزَحَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَرَادَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَتَوْجِيهِهَا إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَ فَضْلَهُ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا وَرَدَ مِنْ قِصَّةِ طُعْمَةَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ قَدْ هَمَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِإِضْلَالِ النَّبِيِّ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ قَدْ صَرَفَ نُفُوسَ الْأَشْرَارِ عَنِ الطَّمَعِ فِي إِضْلَالِهِ وَالْهَمِّ بِذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْرَارَ إِذَا تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُمْ وَهِمَمُهُمْ إِلَى التَّلْبِيسِ عَنْ شَخْصٍ وَمُخَادَعَتِهِ وَمُحَاوَلَةِ صَرْفِهِ عَنِ الْحَقِّ فَلابد لَهُ أَنْ يَشْغَلَ طَائِفَةً مِنْ وَقْتِهِ لِمُقَاوَمَتِهِمْ وَكَشْفِ حِيَلِهِمْ وَتَمْيِيزِ تَلْبِيسِهِمْ، وَذَلِكَ يَشْغَلُ الْمَرْءَ عَنْ تَقْرِيرِ الْحَقَائِقِ وَصَرْفِ وَقْتِ الْمُقَاوَمَةِ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ صَالِحٍ نَافِعٍ؛ وَلِذَلِكَ تَفَضَّلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَحِمَهُ بِصَرْفِ كَيْدِ الْأَشْرَارِ عَنْهُ حَتَّى بَالِهِمْ بِغِشِّهِ وَزَحْزَحَتِهِ عَنْ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي أَقَامَهُ عَلَيْهِ اهـ.
{وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}، الْكِتَابُ: الْقُرْآنُ وَالْحِكْمَةُ فِقْهُ مَقَاصِدِ الْكُتَّابِ وَأَسْرَارِهِ، وَوَجْهِ مُوَافَقَتِهَا لِلْفِطْرَةِ وَانْطِبَاقِهَا عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَاتِّحَادِهَا مَعَ مَصَالِحِ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [42: 52]، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَعْلِيمُهُ الْغَيْبَ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ الْكِتَابُ وَالشَّرِيعَةُ، وَخُصُوصًا مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَخَاصَمَ فِيهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْيَهُودِيِّ.
{وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} إِذِ اخْتَصَّكَ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ وَأَرْسَلَكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ النَّاسِ شُكْرًا لَهُ، وَيَجِبُ عَلَى أُمَّتِكَ مِثْلُ ذَلِكَ لِيَكُونُوا بِهَذَا الْفَضْلِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَقُدْوَةً لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أَقُولُ: تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ طُعْمَةَ الْخَائِنَ لَمْ يَكَدْ يَفْتَضِحُ أَمْرُهُ حَتَّى فَرَّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَظْهَرَ الشِّرْكَ وَالطَّعْنَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ لِيَتَّخِذَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْوَانًا وَنُصَرَاءَ يُعِينُونَهُ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْخِيَانَةِ بِالْعَصَبِيَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَمَا عَلِمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَاءَ لِيُبْطِلَ الْخِيَانَةَ وَالضَّلَالَ، وَيَمْحَقَ الْأَبَاطِيلَ، وَيُؤَيِّدَ الْحَقَّ وَالْفَضِيلَةَ، أَفَلَا يَسْمَعُ هَذَا الْمُبْطِلُونَ مِنْ أَهْلِ أُورُبَّةَ الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ يُقَلِّدُونَ قُسُوسَ قُرُونِهِمُ الْمُظْلِمَةِ مُثِيرِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ جَمْعِيَّةَ لُصُوصٍ وَقُطَّاعَ طُرُقٍ، أَلَا يَدُلُّونَنَا عَلَى حُكُومَةٍ مِنْ أَرْقَى حُكُومَاتِهِمْ أَوْصَلَهَا دِينُهَا وَمَدَنِيَّتُهَا وَعُلُومُهَا وَحَضَارَتُهَا إِلَى الرِّضَا بِمُسَاوَاةِ أَبْنَائِهَا وَأَوْلِيَائِهَا بِأَعْدَى أَعْدَائِهَا وَيُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ مِثْلَمَا شَدَّدَتِ الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَضِيَّةِ طُعْمَةَ مَعَ الْيَهُودِيِّ؟ كَيْفَ وَنَحْنُ نَرَاهُمْ فِي بِلَادِنَا لَا يَرْضَوْنَ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَشْرَارِ جُنَاتِهِمْ وَتُحُوتِ صَعَالِيكِهِمْ قَدْ يَقْتُلُ الْوَاحِدُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ فِي مِصْرَ فَيُحَاكِمُهُ قُنْصُلُ دَوْلَتِهِ كَمَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَغِيبَ عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي لَوَّثَهَا بِدَمِ الْجِنَايَةِ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا ثُمَّ يَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ؟
فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، وَمَا بَعْدَهُ نَزَلَ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ ضَمِيرَ نَجْوَاهُمْ، يَعُودُ عَلَى أُولَئِكَ الْمُخْتَانِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، الَّذِينَ يُبَيِّتُونَ فِي لَيْلِهِمْ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لَا يُرْضِي رَبَّهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. اهـ.