فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {ولأَضِلَّنَّهُمْ} يعني عن الحق، قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا.
فالأصل الأول: المضل هو الشيطان، وليس المضل هو الله تعالى قالوا: وإنما قلنا: أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه، ونظيره قوله: {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا} وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] وأيضًا أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلًا للناس في معرض الذم له، وذلك يمنع من كون الإله موصوفًا بذلك.
والأصل الثاني: وهو أن أهل السنة يقولون: الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا: ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال.
والجواب: أن هذاكلام إبليس فلا يكون حجة، وأيضًا أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب جدًا، فتارة يميل إلى القدر المحض، وهو قوله: {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله: {رَبّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى} [القصص: 39] وتارة يظهر التردد فيه حيث قال: {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] يعني أن قول هؤلاء الكفار: نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين؟ ولابد من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله.
وثالثها: قوله: {وَلأَمَنّيَنَّهُمْ}
واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال: {وَلأمَنّيَنَّهُمْ} وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق، وطلب الأماني يورث شيئين: الحرص والأمل، والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم: «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص والأمل» والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقًا في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة، ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة.
ورابعها: قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الانعام} البتك القطع، وسيف باتك أي قاطع، والتبتيك التقطيع.
قال الواحدي رحمه الله: التبتيك هاهنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرًا، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها.
وقال آخرون: المراد أنهم يقطعون آذان الأنهام نسكًا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق.
خامسها: قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} وللمفسرين هاهنا: قولان: الأول: أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة، وفي تقرير هذا القول وجهان: الأول: أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به، فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.
والوجه الثاني: في تقرير هذا القول: أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حرامًا أو الحرام.
القول الثاني: حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر، وذكروا فيه وجوهًا الأول: قال الحسن: المراد ما روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصلات والواشمات» قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا.
الثاني: روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله هاهنا هو الاخصاء وقطع الآذان وفقء العيون، ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفًا عوروا عين فحلها.
الثالث: قال ابن زيد هو التخنث، وأقول: يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول، لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى، والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر الرابع: حكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون، فغيروا خلق الله، هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ويخطر ببالي هاهنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى، وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه: التشوش، والنقصان، والبطلان.
فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين، وضرر الدين هو قوله: {وَلأمَنّيَنَّهُمْ} وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية، فهذا مرض روحاني من جنس التشوش، وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام} وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان، وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة، وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله: {وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى، ومن المعلوم أن من بقي مواظبًا على طلب اللذات العاجلة معرضًا عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة، ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة ألبتة، ولا يزول عن خاطره حب الدنيا ألبتة، فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا، وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر، وهي متوجهة إلى عالم القيامة، فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات التي لابد من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييرًا للخلقة، وهو كما قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فأنساهم أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] وقال: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46]. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {ولأضلنهم} معناه أصرفهم عن طريق الهدى، {ولأمنينهم} لأسولن لهم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وهذا لا ينحصر إلى نوع واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما تمنيه بقدر نصبته وقرائن حاله، ومنه قوله عليه السلام: «إن الشيطان يقول لمن يركب ولا يذكر الله: تغن، فإن لم يحسن قاله له تمن»، واللامات كلها للقسم، «والبتك»: القطع، وكثر الفعل إذ القطع كثير على أنحاء مختلفة، وإنما كنى عز وجل عن البحيرة والسائبة ونحوه مما كانوا يثبتون فيه حكمًا، بسبب آلهتهم وبغير ذلك، وقرأ أبو عمرو بن العلاء {ولآمرنهم} بغير ألف، وقرأ أبيّ {وأضلهم وأمنيهم وأمرهم} واختلف في معنى «تغيير خلق الله»، فقال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم: أراد: يغييرون دين الله وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] أي لدين الله، والتبديل يقع موضعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه، وقالت فرقة: «تغيير خلق الله» هو أن الله تعالى خلق الشمس والنار والحجارة وغيرها من المخلوقات ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وقال ابن عباس أيضًا وأنس وعكرمة وأبو صالح: من تغيير خلق الله الإخصاء، والآية إشارة إلى إخصاء البهائم وما شاكله، فهي عندهم أشياء ممنوعة، ورخص في إحصار البهائم جماعة إذا قصدت به المنفعة، إما السمن أو غيره، ورخصها عمر بن عبد العزيز في الخيل، وقال ابن مسعود والحسن: هي إشارة إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن، فمن ذلك الحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات والموشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله» ومنه قوله عليه السلام، «لعن الله الواصلة والمستوصلة» وملاك تفسير هذه الآية: أن كل تغيير ضار فهو في الآية، وكل تغيير نافع فهو مباح، ولما ذكر الله تعالى عتو الشيطان وما توعد به من بث مكره، حذره تبارك وتعالى عباده، بأن شرط لمن يتخذه وليًا جزاء الخسران، وتصور الخسران إنما هو بأن أخذ هذا المتخذ حظ الشيطان، فكأنه أعطى حظ الله تبارك وتعالى فيه وتركه من أجله. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلأضِلَّنَّهُمْ} عن الحق {وَلأمَنّيَنَّهُمْ} الأماني الباطلة وأقول لهم: ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم، وقيل: أمنيهم بطول البقاء في الدنيا فيسوفون العمل وقيل: أمنيهم بالأهواء بالباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعو كلا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة، وروي الأول عن الكبي {وَلاَمُرَنَّهُمْ} بالتبتيك كما قال أبو حيان أو بالضلال كما قال غيره {فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام} أي فليقطعنها من أصلها كما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، أو ليشقنها كما قال الزجاج بموجب أمري من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير كما يؤذن بذلك الفاء، وهذا إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرًا وتحريم ركوبها والحمل عليها وسائر وجوه الانتفاع بها.
{وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ} ممتثلين به بلا ريث {خَلَقَ الله} عن نهجه صورة أو صفة، ويندرج فيه ما (فعل) من فقء عين فحل الإبل إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه، ويقال له الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلًا وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالًا ولا يوجب لها من الله سبحانه زلفى.
وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع الخصاء مطلقًا، وروي النهي عنه عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل والبهائم».
وادعى عكرمة أن الآية نزلت في ذلك، وأجاز بعضهم ذلك في الحيوان، وأخرج ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلًا له، وعن طاوس أنه خصى جملًا، وعن محمد بن سيرين أن سئل عن خصاء الفحول، فقال: لا بأس به، وعن الحسن مثله، وعن عطاء أنه سئل عن خصاء الفحل فلم ير به عند عضاضة وسوء خلقه بأسًا.
وقال النووي: «لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره ويجوز إخصاء المأكول في صغره لأن فيه غرضًا وهو طيب لحمه، ولا يجوز في كبره»، والخصاء في بني آدم محظور عند عامة السلف والخلف، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يكره شراء الخصيان واستخدامهم وإمساكهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى إخصائهم، وخص من تغيير خلق الله تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص ما زاد منها على السنة ونحو ذلك، وعن قتادة أنه قرأ الآية ثم قال: ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله تعالى ولونه سبحانه، ولا يكاد يسلم له إن أراد ما يعم الخضاب المسنون كالخضاب بالحناء بل وبالكتم أيضًا لإرهاب العدو، وقد صح عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وحديث النهي محمول على غير ذلك {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيًّا مّن دُونِ الله} بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته، وقيد {مِن دُونِ الله} لبيان أن اتباعه ينافي متابعة أمر الله تعالى وليس احترازيًا كما يتوهم، وأما ما قيل: من أنه ما من مخلوق لله تعالى إلا ولك فيه ولاية لو عرفتها، ولك في وجوده منفعة لو طلبتها، فلهذا قيدت الولاية بكونها من دون الله تعالى فناشئ من الغفلة عن تحقيق معنى الولاية فافهم {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} أي ظاهرًا وأيّ خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار؟ وأي صفقة أخسر من فوات رضا الرحمن برضا الشيطان؟. اهـ.