فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَطْعِ آذَانِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ لِأَصْنَامِهِمْ كَالْبَحَائِرِ الَّتِي كَانُوا يَقْطَعُونَ أَوْ يَشُقُّونَ آذَانَهَا شَقًّا وَاسِعًا وَيَتْرُكُونَ الْحِمْلَ عَلَيْهَا، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْخَفِ أَعْمَالِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ وَسَفَهِ عُقُولِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلِهَذَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيمَا قَبْلَهُ.
{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} تَغْيِيرُ خَلْقِ اللهِ وَسُوءُ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَامٌّ يَشْمَلُ التَّغْيِيرَ الْحِسِّيَّ كَالْخِصَاءِ، وَقَدْ رَوَوْا تَفْسِيرَهُ بِالْخِصَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا- فَلْيَعْتَبِرْ بِهِ مَنْ يَطْعَنُونَ فِي الْإِسْلَامِ نَفْسِهِ بِاتِّخَاذِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَائِهِمْ لِلْخِصْيَانِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ خَصْيِهِمْ جَائِزٌ فِي هَذَا الدِّينِ- وَيَشْمَلُ سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّشْوِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بِالنَّاسِ الَّذِي حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّمَ تَبْتِيكَ آذَانِ الْأَنْعَامِ فَكَيْفَ لَا يُحَرِّمُ سَمْلَ أَعْيُنِ النَّاسِ وَصَلْمَ آذَانِهِمْ وَجَدْعَ أُنُوفِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا حُجَّةٍ، وَيَشْمَلُ التَّغْيِيرَ الْمَعْنَوِيَّ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِخَلْقِ اللهِ دِينُهُ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْفِطْرَةِ وَهِيَ الْخِلْقَةُ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [30: 30]، وَرَوَى أَيْضًا تَفْسِيرَ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ بِوَشْمِ الْأَبْدَانِ وَوَشْرِ الْأَسْنَانِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَلَعَلَّ سَبَبَ التَّشْدِيدِ فِيهِ إِفْرَاطُهُمْ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى دَرَجَةِ التَّشْوِيهِ بِجَعْلِ مُعْظَمِ الْبَدَنِ وَلاسيما الظَّاهِرُ مِنْهُ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أَزْرَقَ بِهَذَا النَّقْشِ الْقَبِيحِ وَكَانَ النَّاسُ وَلَا يَزَالُونَ يَجْعَلُونَ مِنْهُ صُوَرًا لِلْمَعْبُودَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا يَرْسِمُ النَّصَارَى بِهِ الصَّلِيبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَصُدُورِهِمْ، وَأَمَّا وَشْرُ الْأَسْنَانِ بِتَحْدِيدِهَا وَأَخْذِ قَلِيلٍ مِنْ طُولِهَا إِذَا كَانَتْ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّغْيِيرِ الْمُشَوِّهِ، بَلْ هُوَ إِلَى تَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَتَقْصِيرِ الشَّعْرِ أَقْرَبُ، وَلَوْلَا أَنَّ الشَّعْرَ وَالْأَظَافِرَ تَطُولُ دَائِمًا وَلَا تَطُولُ الْأَسْنَانُ لِمَا كَانَ ثَمَّ فَرْقٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّغْيِيرَ الصُّورِيَّ الَّذِي يَجْدُرُ بِالذَّمِّ يُعَدُّ مِنْ إِغْرَاءِ الشَّيْطَانِ هُوَ مَا كَانَ فِيهِ تَشْوِيهٌ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ مِنَ السُّنَّةِ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَرَى قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ تَغْيِيرُ دِينِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ التَّغْيِيرُ الْحِسِّيُّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ التَّغْيِيرُ الْمَعْنَوِيُّ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى مَا يَشْمَلُهُمَا، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِتَحْوِيلِ النَّفْسِ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَطَلَبِ الْحَقِّ وَتَرْبِيَتِهَا عَلَى الْأَبَاطِيلِ وَالرَّذَائِلِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَهَؤُلَاءِ يُفْسِدُونَ مَا خَلَقَ وَيَطْمِسُونَ عُقُولَ النَّاسِ. اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالُوا إِنَّهُ تَغْيِيرُ الدِّينِ اسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ آنِفًا، وَالدِّينُ الْفِطْرِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَلْقِ اللهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ لَيْسَ هُوَ مَجْمُوعَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مِنْ كَلَامِ اللهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهُ وَيُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، لَا مِمَّا خَلَقَهُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الدِّينَ الْفِطْرِيَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَحَدِيثُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى ذَلِكَ بِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ فُطِرَ عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْأَخْذِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوِ الْخَيْرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بِالْبَدَاهَةِ، وَمِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأُسُسِهِ الْفِطْرِيَّةِ الْعُبُودِيَّةُ لِلسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ وَتَقِفُ دُونَ اكْتِنَاهِ حَقِيقَتِهَا الْعُقُولُ، أَيْ: لِمَصْدَرِ هَذِهِ السُّلْطَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ أَكْبَرُ وَأَشَدُّ مُفَسَّدَاتِ الْفِطْرَةِ حَصْرَ تِلْكَ السُّلْطَةِ الْعُلْيَا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يَسْتَكْبِرُهَا الْإِنْسَانُ وَيَعِيَا فِي فَهْمِ حَقِيقَتِهَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ فَهْمُهَا وَعِلْمُهَا مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ لَوْ جَاءَهُ طَالِبُهُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَقَدْ بَيَّنَاهُ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [4: 48]، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَيَتْلُو هَذَا الْفَسَادَ وَالْإِفْسَادَ التَّقْلِيدُ الَّذِي يَمُدُّهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْعُقُولِ الَّتِي كَمَّلَ اللهُ بِهَا فِطْرَةَ الْبَشَرِ وَبَيْنَ عَمَلِهَا الَّذِي خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ لِأَجْلِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَرْجِيحُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَتَى تَبَيَّنَا لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُمَا.
{وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}، أَيْ: مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا لَهُ وَتِلْكَ حَالُهُ فِي التَّمَرُّدِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ وَإِغْوَائِهِ لِلنَّاسِ وَتَزْيِينِهِ لَهُمُ الشُّرُورَ وَسُوءَ التَّصَرُّفِ فِي فِطْرَةِ اللهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهِ، بِأَنْ يُوَالِيَهُ وَيَتَّبِعَ وَسْوَسَتَهُ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا بَيِّنًا ظَاهِرًا فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ؛ إِذْ يَكُونُ أَسِيرَ الْأَوْهَامِ وَالْخُرَافَاتِ، يَتَخَبَّطُ فِي عَمَلِهِ عَلَى غَيْرِ هُدًى فَيَفُوتُهُ الِانْتِفَاعُ التَّامُّ بِمَا وَهَبَهُ اللهُ مِنَ الْعَقْلِ وَسَائِرِ الْقُوَى وَالْمَوَاهِبِ.
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [2: 268]، أَيْ: يَعِدُ النَّاسَ الْفَقْرَ إِذَا هُمْ أَنْفَقُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهَا هُنَا حَذْفُ مَفْعُولِ الْوَعْدِ فَهُوَ يَشْمَلُ الْوَعْدَ بِالْفَقْرِ وَيَشْمَلُ غَيْرَهُ مِنْ وُعُودِهِ الَّتِي يُوَسْوِسُ بِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَعِدُ مَنْ يُرِيدُ التَّصَدُّقَ الْفَقْرَ وَيُوَسْوِسُ إِلَيْهِ قَائِلًا: إِنْ مَالَكَ يَنْفَدُ أَوْ يِقِلُّ فَتَكُونُ فَقِيرًا ذَلِيلًا، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ فِي الْوَسْوَسَةِ إِلَى مَنْ يُغْرِيهِ بِالْقِمَارِ مَسْلَكًا آخَرَ فَيَعِدُهُ الْغِنَى وَالثَّرْوَةَ، وَكَذَلِكَ يَعِدُ مَنْ يُغْرِيهِ بِالتَّعَصُّبِ لِمَذْهَبِهِ وَإِيذَاءِ مُخَالِفِهِ فِيهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْجَاهَ وَالشُّهْرَةَ وَبُعْدَ الصِّيتِ، وَيُؤَيِّدُ وُعُودَهُ الْبَاطِلَةَ بِالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ يُلْقِيهَا إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا أَعَادَ ذِكْرَ الْأُمْنِيَةِ فِي مَقَامِ بَيَانِ خُسْرَانِ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ لِسَانِ الشَّيْطَانِ قَوْلَهُ: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ}، وَيَدْخُلُ فِي وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَتَمْنِيَتِهِ مَا يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُمْ قُرَنَاءُ السُّوءِ الَّذِينَ يُزَيِّنُونَ لِلنَّاسِ الضَّلَالَ وَالْمَعَاصِيَ وَيَعِدُونَهُمْ بِالْمَالِ وَالْجَاهَ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَوْلَا وُعُودُ الشَّيْطَانِ لَمَا عَنَى أَوْلِيَاؤُهُ بِنَشْرِ مَذَاهِبِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمْ وَأَضَالِيلِهِمْ، الَّتِي يَبْتَغُونَ بِهَا الرِّفْعَةَ وَالْجَاهَ وَالْمَالَ، وَهَؤُلَاءِ مَوْجُودُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيُعْرَفُونَ بِمَقَاصِدِهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا مَا قَبْلُهُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِيَصِلَ بِهِ قَوْلَهُ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أَيْ: إِلَّا بَاطِلًا يَغْتَرُّونَ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ مَا يُحِبُّونَ، وَأَقُولُ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْغُرُورَ بِأَنَّهُ إِظْهَارُ النَّفْعِ فِيمَا هُوَ ضَارٌّ، أَيْ: فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْبَثُ بِهِمُ الشَّيْطَانُ بِوَسْوَسَتِهِ أَوْ بِإِغْوَاءِ دُعَاةِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ لَا يَجِدُونَ مَعْدِلًا عَنْهَا يَفِرُّونَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُنْجَذِبُونَ إِلَيْهَا بِطَبْعِهِمْ يَتَهَافَتُونَ فِيهَا بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَتَهَافَتُ الْفَرَاشُ فِي النَّارِ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، هَؤُلَاءِ عِبَادُ اللهِ الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ وَلَا لِأَوْلِيَائِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، ذَكَرَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الشَّيْطَانَ وَيَتَّبِعُونَ إِغْوَاءَهُ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْوَعْدِ بِالْوَعِيدِ وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا أَيْ: لَا قِيلَ أَصْدُقُ مِنْ قِيلِهِ، وَلَا وَعْدَ أَحَقُّ مِنْ وَعْدِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ مَا وَعَدَ بِهِ، وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ الْوَفَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَاعُ لِقُدْرَتِهِ وَإِنَّمَا يُدَلِّي أَوْلِيَاءَهُ بِغُرُورٍ، فَوَعْدُهُ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُ كَذِبٌ وَزُورٌ، وَالْقِيلُ بِوَزْنِ الْفِعْلِ قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ الْكَرِيمَ بِالْجَنَّاتِ وَالْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ وَتَرْفَعُ النَّفْسَ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا مِرَارًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
يجوز في {والذين آمَنُواْ}: وجهان:
الرفع على الابتداءِ، والخبر: {سَنُدْخِلُهم}.
والنَّصْبُ على الاشْتِغَال، أي: سَنُدْخِل الذين آمَنُوا سَنُدخِلهم، وقرئ: {سيُدْخِلُهم} بياء الغيبة.
قوله: {وَعْدَ الله حَقًّا} هما مَصْدَران، الأول مُؤكِّد لنفسه؛ كأنه قال وَعَد وَعْدًا، وهو قوله: {سندخلهم} و{حقًّا}: مصدر مؤكِّد لغيره، وهو قوله: {وَعْد اللَّه} أي: حُقَّ ذلك حَقًّا.
قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا} وهو توكيد ثَالثٌ، و{قيلًا}: نَصْبٌ على التَّمْييز، والقِيلُ، والقَوْل، والقَالُ، مَصَادِرٌ بمعنًى واحدٍ؛ ومنه قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يارب} [الزخرف: 88].
وقال ابن السِّكِّيت: القِيلُ والقَالُ: اسمَان لا مَصْدَران، وفِائِدَة هذه التَّوْكِيدَات: معارضةُ ما ذَكَرَهُ الشَّيْطَان من المواعيد الكَاذِبَة والأماني الباطِلَةِ، والتنْبِيهُ على أن وَعْدَ اللَّه أولى بالقُبُول، وأحقُّ بالتَّصْدِيق من قوْلِ الشَّيْطَان.
وقرأ حَمْزة، والكَسَائِيُّ: بإشْمَام الصَّادِ، وكل صاد سَاكِنة بَعْدَها دال في القُرْآن. اهـ. بتصرف يسير.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}
أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن المنذر وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب {إن يدعون من دونه إلا إناثًا} قال: مع كل صنم جنية.
وأخرج عبد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مالك في قوله: {إن يدعون من دونه إلا إناثًا} قال: اللات والعزى ومنات، كلها مؤنث.
وأخرج ابن جرير عن السدي {إن يدعون من دونه إلا إناثًا} يقول: يسمونهم إناثًا، لات ومنات وعزى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {إن يدعون من دونه إلا إناثًا} قال: موتى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: الإناث، كل شيء ميت ليس فيه روح، مثل الخشبة اليابسة، ومثل الحجر اليابس.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: {إلا إناثًا} قال: ميتًا لا روح فيه.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها انثى بني فلان، فأنزل الله: {إن يدعون من دونه إلا إناثًا}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {إن يدعون من دونه إلا إناثًا} قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. قال اتخذوا أربابًا وصوروهن صور الجواري، فحلوا وقلدوا وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة.
وأخرج عبد بن حميد عن الكلبي أن ابن عباس كان يقرأ هذا الحرف {إن يدعون من دونه إلا أنثى وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا} قال: مع كل صنم شيطانة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {إلا إناثًا} قال: إلا أوثانًا.
وأخرج أبو عبيد في فضائل القرآن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن عائشة أنها كانت تقرأ {إن يدعون من دونه إلا أوثانًا} ولفظ ابن جرير كان في مصحف عائشة {إن يدعون من دونه إلا أوثانًا}.
وأخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن يدعون من دونه إلا أنثى}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان {وإن يدعون إلا شيطانًا} يعني إبليس.
وأخرج عن سفيان {وإن يدعون إلا شيطانًا} قال: ليس من صنم إلا فيه شيطان.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {مريدًا} قال: تمرد على معاصي الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان {وقال لأتَّخذن من عبادك} قال: هذا قول إبليس {نصيبًا مفروضًا} يقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة.