فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم أردف الوعيد بالوعد على سنته المعهودة فقال: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا} قال أهل السنة: لو كان الخلود الدوام لزم التكرار فإذن هو طول المكث المطلق. وقوله: {أبدًا} مفيد للتأبيد. {وعد الله حقًا} مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره لأن قوله: {سندخلهم} وعد منه تعالى ومضمونه هو مضمون وعد الله، وأما {حقًا} فمضمونه أخص من مضمون الوعد لأن الوعد من حيث هو وعد يحتمل أن يكون حقًا وأن لا يكون فمضموناهما متغايران تغاير الجنس والنوع {ومن أصدق من الله قيلًا} توكيد ثالث بليغ من قبل الاستفهام المتضمن للإنكار. وفائدة هذه التوكيدات معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وإلقاء أمانية الفارغة والتنبيه على أن قول أصدق القائلين أولى بالقبول من قول من لا أحد أكذب منه.
والقيل: مصدر قال قولًا. وعن ابن السكيت أن القيل والقال اسمان لا مصدران. عن أبي صالح قال: جلس أهل الكتب أهل التوراة والإنجيل وأهل القرآن كل صنف يقول لصاحبه نحن خير منكم فنزلت: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} وقال مسروق وقتادة: احتج المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم؛ نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أهدى منكم وأولى بالله؛ نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب التي قبله فنزلت. ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناواهم من أهل الأديان بقوله: {ومن يعمل من الصالحات} وبقوله: {ومن أحسن دينًا} الآيتان. وقيل: الخطاب في: {أمانيكم} لعبدة الأوثان وأمانيهم أن لا يكون حشر ولا نشر ولا معاد ولا عقاب وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله. وقيل: الخطاب للمسلمين وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر، وأما أماني أهل الكتاب فقولهم: {لن يدخل الجنة إلاّ من كان هودًا أو نصارى} [البقرة: 111] {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] {ولن تمسنا النار إلاّ أيامًا معدودة} [البقرة: 80] واسم «ليس» مضمر فقيل: أي ليس وضع الدين على أمانيكم. وقيل: ليس الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله: {سندخلهم} وعن الحسن ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب أي أثر فيه وصدقه العمل، إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل. ويؤيد هذا المعنى قوله بيانًا للمذكور: {من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا} فمن هنا استدلت المعتزلة بالآية على القطع بوعيد الفساق ونفي الشفاعة، وأجيب بأنه مخصوص بالكفار لأنهم مخاطبون بالفروع عندنا. سلمنا أنه يعم المؤمن والكافر إلاّ أنه مخصوص في حق المؤمن بقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون جزاؤهم الآلام والأسقام والهموم والغموم الدنيوية؟ روي أنه لما نزلت الآية قال أبو بكر: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «غفر الله لك يا أبا بكر؛ ألست تمرض أليس يصيبك اللأواء؟ فهو ما تجزون» عن عائشة أن رجلًا قرأ هذه الآية فقال: أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فقال: «يجزي المؤمن في الدنيا بمصيبة في جسده وبما يؤذيه» وعن أبي هريرة لما نزلت الآية بكينا وحزنا وقلنا: «يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئًا، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشروا فإنه لا يصيب أحدًا منكم مصيبة في الدنيا إلاّ جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه».
، سلمنا أن الجزاء إنما يصل إليه في الأخرة لكنه روي عن ابن عباس «أنه لما نزلت الآية شقت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءًا فكيف الجزاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات، وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة، فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره» وأيضًا المؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات فوجب القطع بأنه يدخل الجنة. قالوا: إن صاحب الكبيرة غير مؤمن، وأجيب بنحو قوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] أما حديث نفي الشفاعة فإذا كانت شفاعة الملائكة والأنبياء بإذن الله صدق أنه لا ولي لأحد ولا نصيرًا إلاّ الله. قال في الكشاف: «من» في قوله: {من الصالحات} للتبعيض أراد ومن يعمل بعض الصالحات لان كلاّ لا يتمكن من كل الصالحات لاختلاف الأحوال، وإنما يعمل منها ما هو في وسعه، وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة ولا صلاة في بعض الأحوال. ومن في قوله: {من ذكر} لتبيين الإبهام في: {من يعمل} والضمير في: {لا يظلمون} عائد إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعًا، أو يعود إلى الصالحين فقط. وذكره عند أحد الفريقين يغني عن ذكره عند الآخر والمسيء مستغن عن هذا القيد، فمن المعلوم أن أرحم الراحمين لا يزيد في عقابه وأما نقصان الفضل في الثواب كان محتملًا فأزيل ذلك الوهم، ثم بين فضل الإيمان المشروط به الفوز بالجنة فقال: {ومن أحسن دينًا} وبيان الفضل من وجهين:
الأول أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والانقياد لله وإليه الإشارة بقوله: {أسلم وجهه لله} وهو راجع إلى الاعتقاد الحق وعلى إظهار كمال الطاعة وحسن العمل والإخلاص وإليه الإشارة بقوله: {وهو محسن} وهو عائد إلى فعل الخيرات وترك المنكرات بصفاء النيات وخلوص الطويات. وفيه تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلاّ عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق، وإظهار التبري من الحول والقوة، ومن الاستعانة بغير المعبود الحق من الأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها كائنًا من كان الوجه الثاني أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما دعا الخلق إلى ما يشبه دين أبيه إبراهيم عليه السلام، ومن المشهور فيما بين أهل الأديان أنه ما كان يدعو إلى عباده فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة، بل كان مائلًا عن الملل الباطلة بعيدًا عنها بعد المركز عن جميع أجزاء الدائرة ولهذا شرف بقوله: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا} وهذه جملة معترضة والسبب في إيرادها أن يعلم أن من كان في علو الدرجة بهذه الحيثية كان جديرًا بأن تتبع طريقته.
قال العلماء: إن خيل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره وقد دخل حبه في خلال قلبه، ولما أطلع الله تعالى إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة أخرى إلى توحيد الله ومنعهم عن عبادة النجوم والقمر والشمس وعن عبادة الأوثان، ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ثم جعله الله إمامًا للناس ورسولًا إليهم وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته إلى يوم الدين كان خليلًا لله، لأن خلته عبارة عن إرادة إيصال الخيرات والمنافع. وقيل: الخليل، هو الذي يوافقك في خلالك وقد قال صلى الله عليه وسلم: «تخلقوا بأخلاق الله» فلما بلغ إبراهيم عليه السلام في مكارم الأخلاق مبلغًا لم يبلغه من تقدمه فلا جرم استحق اسم الخليل. وقيل: الخليل الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل، فلما كان إبراهيم منقادًا لكل ما أمر به مجتنبًا عن كل ما نهى عنه فكأنه ساير ووافق أوامر الله تعالى ونواهيه فاستحق اسم الخليل لذلك. هذا من جهة الاشتقاق وأما من قبل أسباب النزول فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل بم اتخذ الله إبراهيم خليلًا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد» وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي: دخل إبراهيم فجأة فرأى ملك الموت في صورة شاب لا يعرفه، فقال إبراهيم عليه السلام: بإذن من دخلت؟ فقال: بإذن رب المنزل. فعرفه إبراهيم عليه السلام. فقال له ملك الموت: إن ربك اتخذ من عباده خليلًا. قال إبراهيم: ومن ذلك؟ قال: وما تصنع به؟ قال: أكون خادمًا له حتى أموت. قال: فإنه أنت. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أصاب الناس سنة جهدوا فيها فحشدوا إلى باب إبراهيم: ومن ذلك؟ قال: وما تصنع به؟ قال: أكون خادمًا له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى خليله بمصر يسأله الميرة، فقال خليله: لو كان إبراهيم إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له ولكنه يريد للأضياف وقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رسل إبراهيم فمروا ببطحاء فقالوا: لو أنا احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة إنا لنستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة، فملؤا تلك الغرائر. ثم إنهم أتوا إبراهيم وسارة نائمة فأعلموه ذلك فاهتم إبراهيم لمكان الناس فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود حوّاري تكون فأمرت الخازين فخبزوا وأطعموا الناس واستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال: يا سارة من أين هذا الطعام؟ فقالت: من عند خليلك المصري. فقال: هذا من عند خليلي الله فيومئذٍ اتخذه الله خليلًا.
وقال شهر بن حوشب: هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شج. فقال إبراهيم: اذكره مرة أخرى فقال: لا أذكره مجانًا. فقال: لك مالي كله. فذكره الملك بصوت أشجى من الأول. فقال: اذكره مرة ثالثة ولك أولادي. فقال الملك: أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك. فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله فلا جرم اتخذه الله خليلًا. وروى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلًا سمينًا وقربه إليهم وقال: كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره. فقال جبريل: أنت خليل الله. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذ الله إبراهيم خليلًا وموسى نجيًا واتخذني حبيبًا. ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي» قلت: ذكرت الفرق بين الخليل والحبيب في سورة البقرة في تفسير قوله: {إذ قال له ربه أسلم} [البقرة: 131] فتذكر، قال في التفسير الكبير: إذا استنار جوهر الروح بالمعارف القدسية الجلايا الإلهية صار الإنسان متوغلًا في عالم القدس فلا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا لله، ولا يسكن إلا لله، فهذا الشخص يستحق أن يسمى خليل الله لما أن محبة الله ونوره تخللت في جميع قواه. قال بعض النصارى: إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفًا فلم له يجز إطلاق الابن على آخر لمثل ذلك؟ والجواب أن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة وإنه سبحانه متعال عن مجانسة المحدثات. ولهذا قال بعد ذلك: {ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطًا} ليعلم أنه لم يتخذ إبراهيم خليلًا للمجانسة أو الاحتياج ولكنه اصطفاه لمجرد الفضل والأمتنان، وفيه أنه مع خلته لم يستنكف أن يكون عبدًا له داخلًا تحت ملكه وملكه، وفيه أن من كان في القهر والتسخير بهذه الحيثية وجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وينقاد لأوامره ونواهيه كما قال إبراهيم: {أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 131] وأيضًا إنه لما ذكر الوعد والوعيد وإنه لا يمكن الوفاء بهما إلاّ بالقدرة التامة على جميع الممكنات والعلم الكامل الشامل لجميع الكليات والجزئيات أشار إلى الأول بقوله: {ولله ما في السموات وما في الأرض} وإلى الثاني بقوله: {وكان الله بكل شيء محيطًا} وإنما قدم القدرة على العلم لأن الفعل بحدوثه يدل على القدرة وبما فيه من الإحكام والإتقان يدل على العلم، ولا ريب أن الاعتبار الأول مقدم على الثاني. وقال بعضهم: الإحاطة أيضًا هاهنا بمعنى القدرة كقوله تعالى: {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها} [الفتح: 21] ولا يلزم تكرار لأن الأول لا يدل إلا على مالك لكل ما في السموات والأرض قادر عليهما والثاني يفيد القدرة المطلقة على جميع الأشياء وإن فرضت خارج السموات والأرض، وعلى أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} إلى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
يتصل هذا الدرس بالدرس السابق، بأكثر من صلة. فهو أولًا نزلت بعض آياته تعليقًا وتعقيبًا على الأحداث التي تلت حادث اليهودي. من ارتداد «بشير بن أبيرق» ومشاقته للرسول صلى الله عليه وسلم وعودته إلى الجاهلية؛ التي تحدث هذا الدرس عنها، وعن تصوراتها وحماقاتها وعلاقاتها بالشيطان، ودور الشيطان فيها! ويقرر أن الله لا يغفر أن يشرك به. ويغفر ما دون ذلك- لمن يشاء. وهو ثانيًا يتحدث عن النجوى والتآمر؛ وأنه لا خير في كثير مما يتناجون به، من أمثال ما بيتوا في ذلك الحادث وتناجوا. ويحدد أنواع النجوى التي يحبها الله؛ وهي التناجي في فعل الخير والمعروف والإصلاح بين الناس. ويقرر جزاء هذه النجوى وتلك عند الله.. وأخيرًا يقرر القواعد العادلة التي يجازي بها الله على الأعمال؛ وأنها ليست تابعة لرغبات أحد من الناس وتمنياتهم. لا أماني المسلمين ولا أماني أهل الكتاب. إنما هي ترجع إلى عدل الله المطلق؛ وإلى الحق الذي لو اتبع أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.