فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

في هذه الآية من الفقه الردّ على الرُّعْن الجهال الذين يَرَوْن أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنّت لا ينبغي أن يتبدّل بها.
قال ابن أبي مَليكة: إن سَوْدَة بنت زَمْعَة لما أسنّت أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطلِّقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني واجعل يومي لعائشة؛ ففعل صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي من أزواجه.
قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة؛ روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خَديج أنه تزوّج بنت محمد ابن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوّج عليها فتاة شابّة، فآثر الشابّة عليها، فناشدته الطلاق، فطلّقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحِلّ راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت إنما بقِيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما تَرَيْن من الأَثَرة، وإن شئت فارقتك.
قالت: بل أستقرّ على الأثرة.
فأمسكها على ذلك؛ ولم يَرَ رافِعٌ عليه إثْمًا حين قرّت عنده على الأثرة.
رواه مَعْمر عن الزهريّ بلفظه ومعناه وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا والصلح خَيْرٌ}.
قال أبو عمر بن عبد البر: قوله والله أعلم: «فآثر الشابَّة عليها» يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها؛ لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومَبِيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يُظَنّ بمثل رافع، والله أعلم.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا أبو الأحْوَص عن سِمَاك بن حرب عن خالد بن عَرْعَرَة عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلًا سأله عن هذه الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فَتَنْبُو عيناه عنها من دَمامتها أو فقرها أو كِبَرها أو سوء خُلُقها وتكره فراقه؛ فإن وضعت له من مهرها شيئًا حل له أن يأخذ وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.
وقال الضحاك: لا بأس أن ينقُصها من حقها إذا تزوّج من هي أشَبّ منها وأعجب إليه.
وقال مُقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوّج عليها شابّة؛ فيقول لهذه الكبيرة: أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار؛ فترضى الأُخرى بما اصطلحا عليه؛ وإن أبَتْ ألاّ ترضى فعليه أن يَعْدِل بينهما في القَسْم. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} المراد بالنشوز إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما، والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والمداعاة والإيذاء، وذلك لأن هذا الإعراض يدل دلالة قوية على النفرة والكراهة. اهـ.
قال الفخر:
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {يُصْلِحَا} بضم الياء وكسر اللام وحذف الألف من الإصلاح، والباقون {يصالحا} بفتح الياء والصاد، والألف بين الصاد واللام وتشديد الصاد من التصالح، ويصالحا في الأصل هو يتصالحا، فسكنت التاء وأدغمت في الصاد.
ونظيره قوله: {اداركوا فِيهَا} [الأعراف: 38] أصله تداركوا سكنت التاء وأبدلت بالدال لقرب المخرج وأدغمت في الدال، ثم اجتلبت الهمزة للابتداء بها فصار اداركوا.
إذا عرفت هذا فنقول: من قرأ {يُصْلِحَا} فوجهه أن الإصلاح عند التنازع والتشاجر مستعمل قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 182] وقال: {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} [النساء: 114] ومن قرأ {يصالحا} وهو الاختيار عند الأكثرين قال: أن يصالحا معناه يتوافقا، وهو أليق بهذا الموضع وفي حرف عبد الله: فلا جناح عليهما أن صالحا، وانتصب صلحًا في هذه القراءة على المصدر وكان الأصل أن يقال: تصالحا، ولكنه ورد كما في قوله: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17] وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] وقول الشاعر:
وبعد عطائك المائة الرتاعا

. اهـ.

.قال القرطبي:

قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلّها مباحة في هذه النازلة؛ بأن يُعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسّك بالعِصْمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء؛ فهذا كله مباح.
وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صَفِيّة، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبتُ يومي لكِ.
ذكره ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد في أحكامه عن عائشة قالت: وَجَد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفيّة في شيء، فقالت لي صفية: هل لكِ أن تُرضِين رسول الله صلى الله عليه وسلم عنِّي ولك يومي؟ قالت: فلبست خمارًا كان عندي مصبوغًا بزعفران ونضحته، ثم جئت فجلست إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إليكِ عني فإنه ليس بيومك».
فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ وأخبرته الخبر، فرضي عنها وفيه أن ترك التسوية بَيْن النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلاّ بإذن المفضولة ورضاها. اهـ.

.قال الفخر:

الصلح إنما يحصل في شيء يكون حقًا له، وحق المرأة على الزوج إما المهر أو النفقة أو القسم، فهذه الثلاثة هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى، أما الوطء فليس كذلك، لأن الزوج لا يجبر على الوطء.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا الصلح عبارة عما إذا بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة، أو أسقطت عنه القسم، وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها، فإذا وقعت المصالحة على ذلك كان جائزًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
عطف لبقية إفتاء الله تعالى.
وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين، وقد تقدّم بعضه في قوله: {واللاتي تخافون نشوزهنّ} [النساء: 34] الآية، في هذه السورة، فذلك حكم فصْل القضاء بينهما، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما، وذلك ذكر فيه نشوز المرأة، وهنا ذكر نشوز البعْل.
والبعل زوج المرأة.
وقد تقدّم وجه إطلاق هذا الاسم عليه في قوله: {وبعولتهنّ أحقّ بردهنّ في ذلك} في سورة [البقرة: 228].
وصيغة {فلا جناح} من صيغ الإباحة ظاهرًا، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما.
وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلاّ حيث يظنّ المنع، فالمقصود الإذن في صلح يكون بخلع: أي عوَض مالي تعطيه المرأة، أو تنازل عن بعض حقوقها، فيكون مفاد هذه الآية أعمّ من مفاد قوله تعالى: {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهن شيئًا إلاّ أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]، فسمّاه هناك افتداء، وسمّاه هنا صلحًا.
وقد شاع في الاستعمال إطلاق الصلح على التراضي بين الخصمين على إسقاط بعض الحقّ، وهو الأظهر هنا.
واصطلح الفقهاء من المالكية: على إطّلاق الافتداء على اختلاع المرأة من زوجها بمال تعطيه، وإطلاق الخلع على الاختلاع بإسقاطها عنه بقية الصداق، أو النفقة لها، أو لأولادها.
ويحتمل أن تكون صيغة {لا جناح} مستعملة في التحريض على الصلح، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحًا.
فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح.
والمقصود الأمر بأسباب الصلح، وهي: الإغضاء عن الهفوات، ومقابلة الغلظة باللين، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله: {وإن يتفرّقا يغن الله كلاّ من سعته}.
وللنشوز والإعراض أحوال كثيرة: تقوى وتضعف، وتختلف عواقبها،.
باختلاف أحوال الأنفس، ويجمعها قوله: {خافت من بِعَلها نشوزًا أو إعراضًا}.
وللصلح أحوال كثيرة: منها المخالعة، فيدخل في ذلك ما ورد من الآثار الدالّة على حوادث من هذا القبيل.
ففي صحيح البخاري، عن عائشة، قالت في قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا} قالت: الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول له أجعلك من شأني في حلّ.
فنزلت هذه الآية.
وروى الترمذي، بسند حسن عن ابن عباس، أنّ سودة أمّ المؤمنين وهبت يومها لعائشة، وفي أسباب النزول للواحدي: أنّ ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرًا، أيّ كِبَرًا فأراد طلاقها، فقالت له: أمسكني واقْسِم لي ما بدَا لك. اهـ.

.قال الفخر:

الصلح مفرد دخل فيه حرف التعريف، والمفرد الذي دخل فيه حرف التعريف هل يفيد العموم أم لا؟ والذي نصرناه في أصول الفقه أنه لا يفيده، وذكرنا الدلائل الكثيرة فيه.
وأما إذا قلنا: إنه يفيد العموم فهاهنا بحث، وهو أنه إذا حصل هناك معهود سابق فحمله على العموم أولى أم على المعهود السابق؟ الأصح أن حمله على المعهود السابق أولى، وذلك لأنا إنما حملناه على الاستغراق ضرورة أنا لو لم نقل ذلك لصار مجملًا ويخرج عن الإفادة، فإذا حصل هناك معهود سابق اندفع هذا المحذور فوجب حمله عليه.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: من الناس من حمل قوله: {والصلح خَيْرٌ} على الاستغراق، ومنهم من حمله على المعهود السابق، يعني الصلح بين الزوجين خير من الفرقة، والأولون تمسكوا به في مسألة أن الصلح على الإنكار جائز كما هو قول أبي حنيفة، وأما نحن فقد بينا أن حمل هذا اللفظ على المعهود السابق أولى، فاندفع استدلالهم. والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والصلح خَيْرٌ} لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق.
ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وَطْء أو غير ذلك.
{خَيْرٌ} أي خير من الفرقة؛ فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، وقال عليه السلام في البِغْضة: «إنها الحالقة» يعني حالقة الدِّين لا حالقة الشعر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والتعريف في قوله: {والصلح خير} تعريف الجنس وليس تعريف العهد، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير للناس، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه، وليس المقصود أنّ الصلح المذكورَ آنفًا، وهو الخلع، خير من النزاع بين الزوجين، لأنّ هذا، وإنّ صحّ معناه، ألاّ أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر، ولأنّ فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلًا.
ومن جعل الصلح الثاني عين الأوّل غرّته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة، وهي: أنّ لفظ النكرة إذا أعيد معرّفًا باللام فهو عين الأولى.