فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِن يَشَأْ} إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين {يُذْهِبْكُمْ} يفنكم ويهلككم.
{أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِاخَرِينَ} أي يوجد مكانكم دفعة قومًا آخرين من البشر، فالخطاب لنوع من الناس، وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزل قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقال: إنهم قوم هذا» وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي، وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقًا آخرين أي جنسًا غير جنس الناس، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز كما قيل لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن غيرًا تقع على المغاير في جنس أو وصف، وآخر لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد.
وفي «درّة الغواص في أوهام الخواص» أنهم يقولون: ابتعت عبدًا وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] وقوله سبحانه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] فوصف جل اسمه مناة بالأخرى لما جانست العزى اللات ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت: قال: الفند الزماني، وقال آخر: كان تقدير الكلام، وقال آخر: من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها، وكثرة استعمال آخر في النطق، وفي «الدر المصون» إن هذا غير متفق عليه، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة؛ وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف وهنا ليست بخاصة فلابد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف؛ وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة: إن العرب لا تقول: مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعًا وإفرادًا، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم:
ولقد (شفعتهما بآخر ثالث) ** وأبى الفرار إلى الغداة تكرمى

وقال أبو حية النميري:
وكنت أمشي على ثنتين معتدلا ** فصرت أمشيء على (أخرى) من الشجر

وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في اللفظ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطؤ ولذلك لو قلت: جاءني زيد وآخر كان سائغًا لأن التقدير ورجل آخر، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى؛ وكذا اشتريت فرسًا ومركوبًا آخر سائغ، وإن كان المركوب الآخر جملًا لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على جهة الإشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو قام أحد الزيدين وقعد الآخر، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب، وبالآخر مقابل البائع، وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف، فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر، واشتراطه ابن جني، والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة:
والخيل تقتحم الغبار عوابسا ** من بين منظمة (وآخر ينظم)

وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلو قلت: جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز، ولو قلت: أكلت رغيفًا، وهذا قميص آخر لم يحسن، وأما قول الشاعر:
صلى على عزة الرحمن وابنتها ** ليلى وصلى على جاراتها (الأخر)

فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها، ولولا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات، بل كان يقول: وصلى على بناتها الأخر، وقد قوبل في البيت أيضًا أخر وهو جمع بابنتها وهو مفرد، وزعم السهيلي أن أخرى في قوله تعالى: {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20] استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير مناة الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد؛ فجعلها ثالثة اللاة والعزى، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى، ألا ترى أن كل واحدة منهنّ ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى.
وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها، وفي «المسائل الصغرى» للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله، فلو قلت: أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام، وهو يشبه سائر وبقية وبعض في أنه لا يستعمل إلا في جنسه، فلو قلت: ضربت رجلًا وتركت سائر النساء لم يكن كلامًا، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسًا وحمارًا آخر نظرًا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس:
إذا قلت: هذا صاحبي ورضيته ** وقرت به العينان بدلت (آخرا)

وفي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة في مرضه فقال: انظروا من أتكيء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما» وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلًا، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصًا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور {وَكَانَ الله على ذلك} أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين {قَدِيرًا} بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. اهـ.

.قال ابن كثير:

قال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره! وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19، 20] أي: ما هو عليه بممتنع. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه إن شاء أذهب الناس الموجودين وقت نزولها، وأتى بغيرهم بدلًا منهم، وأقام الدليل على ذلك في موضع آخر، وذلك الدليل هو أنه أذهب من كان قبلهم وجاء بهم بدلًا منهم وهو قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133].
وذكر في موضع آخر: أنهم إن تولوا أبدل غيرهم وأن أولئك المبدلين لا يكونون مثل المبدل منهم بل يكونون خيرًا منهم، وهو قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38].
وذكر في موضع آخر: أن ذلك هين عليه غير صعب وهو قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19- 20] أي: ليس بممتنع ولا صعب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {بآخرين}: آخرين صِفَةٌ لموصوفٍ محذُوف من جنسِ ما تقدَّمه تقديرُه: بناسٍ آخرين يعبدون الله، ويجُوز أن يكونَ المَحْذُوف من غير جنس ما تقدَّمه.
قال ابن عطية: «يُحْتَمل أن يكون وَعِيدًا لجميع بني آدم، ويكونُ الآخرُون من غير نَوْعِهم، كما رُوي: أنه كان ملائكةٌ في الأرْضِ يَعْبدُون الله».
وقال الزَّمخْشَرِي: «أو خلقًا آخرين غير الإنس» وكذلك قال غيرهما.
وردّ أبو حيان هذا الوجه: بأنَّ مدلولَ آخر، وأخْرَى، وتَثْنِيتَهُمَا، وجَمْعهُمَا، نحو مدلول «غير» إلا أنه خاصٌّ بجنسِ ما تقدَّمه.
فإذا قلت: «اشتريت فرسًا وأخرَ، أو: ثوبًا وآخر، أو: جاريَة وأخْرى، أو: جاريتين وأخريين، أو جواري وأُخَرَ» لم يكن ذلك كُلُّه إلا من جِنْس ما تقدم، حتى لو عنيت «وحمارًا آخر» في الأمثلة السابقة لم يَجُزْ، وهذا بخلاف «غير» فإنَّها تكون من جِنْسِ ما تقدَّم ومن غيره، تقول «اشتريْتُ ثوبًا وغيره» لو عَنَيْت: «وفرسًا غيره» جاز.
قال: «وقَلَّ مَنْ يَعْرِف هذا الفرق».
وهذا الفرقُ الذي ذكره وردَّ به على هؤلاء الأكابر غيرُ موافقٍ عليه، لم يستند فيه إلى نَقْل، ولكن قد يُرَدُّ عليهم ذلك من طريقٍ أخْرَى، وهو أنَّ {آخرين} صِفَةٌ لموصوف محذوف، والصِّفَةُ لا تقوم مقام موصوفها، إلا إذا كانت خاصَّة بالموصوف، نحو: «مررت بكاتبٍ»، أو يدلُّ عليه دَلِيل، وهنا ليست بِخَاصَّةٍ، فلابد وأن تكونَ من جِنْسِ الأوَّلِ؛ لتحصُلَ بذلك الدِّلالةُ على الموصُوفِ المَحْذُوف.
وقال القرطبي: وهذا كقوله في آية أخرى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)}
من استغنى عنه في آزاله فلا حاجة له إليه في آباده. ويقال لا يحتاج إلى أحدٍ والعبد لا يستغني عنه في نَفَسٍ.
ويقال لا نهاية للمقدورات فإن لم يكن عمرو فَزَيْدٌ، وإن لم يكن عبدٌ فعبيد، والذي لا بَدَلَ عنه ولا خَلَفَ فهو الواحد أحد. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيرًا}
وبعض الفاقدين للبصيرة من الفلاسفة قالوا: صحيح أن الله قد خلقنا ولكنا خرجنا من دائرة نفوذه. لا، بل سبحانه إن شاء لذهب بكم جميعًا وأتى بآخرين، وما ذلك على الله بعزيز، وهو القائل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيرًا}.
حين نقرأ «كان» بجانب كلمة «الله» فهي لا تحمل معنى الزمن؛ فالله قدير حتى قبل أن يوجد مقدور عليه، فلم يكن قديرًا فقط عندما خلق الإنسان، بل بصفة القدرة خلق الإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس أغيار؛ لذلك يظل قديرًا وموجودا في كل لحظة، وهو كان ولا يزال. اهـ.