فصل: تفسير الآية رقم (134):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (134):

قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان في هذا تهديد بليغ وتعريف بسعة الملك وكمال التصرف، وكان مدار أحوال المتشاححين في الإرث وحقوق الأزواج وغيرها الأمرَ الدنيوي، وكان سبحانه وتعالى قد بين فيما مضى أن مبنى أحوال المنافقين على طلب العرض الفاني خصوصًا قصة طعمة بن أبيرق الراضي لنفسه بالفضيحة في نيل شيء تافه؛ قال تعالى تفييلًا لآرائهم وتخسيسًا لهممهم حيث نزلوا إلى الأدنى مع القوة على طلب الأعلى مع طلب الأدنى أيضًا منه تعالى، فلا يفوتهم شيء من معوّلهم مع إحراز الأنفس: {ما كان يريد ثواب الدنيا} لقصور نظره على المحسوس الحاضر مع خسته كالبهائم {فعند} أي فليقبل إلى الله فإنه عند {الله} أي الذي له الكمال المطلق {ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية {والآخرة} أي النفسية الباقية فليطلبها منه، فإنه يعطي من أراد ما شاء، ومن علت همته عن ذلك فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه فلم يطلب إلا الباقي جمع سبحانه وتعالى له بينهما، كمن يجاهد الله خالصًا، فإنه يجمع له بين الأجر والمغنم، وما أشد التئامها مع ذلك بما قبلها، لأن من كان تام القدرة واسع الملك كان كذلك.
ولما كان الناشيء عن الإرادة إما قولًا أو فعلًا، وكان الفعل قد يكون قلبيًا قال: {وكان الله} أي المختص بجميع صفات الكمال {سميعًا} أي بالغ السمع لكل قول وإن خفي، نفسيًا كان أو لسانيًا {بصيرًا} أي بالغ البصر لكل ما يمكن أن يبصر من الأفعال، والعلم بكل ما يبصر وما لا يبصر منها ومن غيرها فيكون من البصر ومن البصيرة، فليراقبه العبد قولًا وفعلًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{من كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة} والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون، وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة، ولو كان عاقلًا لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع.
فإن قيل كيف دخل الفاء في جوب الشرط وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل؟
قلنا: تقرير الكلام: فعند الله ثواب الدينا والآخرة له إن أراده الله تعالى، وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط.
ثم قال: {وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} يعني يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ويرى أنهم لا يسعون في الجهاد ولا يجتهدون فيه إلا عند توقع الفوز بالغنيمة، وهذا كالزجر منه تعالى لهم عن هذه الأعمال. اهـ.

.قال القرطبي:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} أي من عمل بما افترضه الله عليه طلبًا للآخرة أتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبًا للدنيا أتاه بما كتب له في الدنيا وليس له في الآخرة من ثواب؛ لأنه عمل لغير الله كما قال تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
وقال تعالى: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار} [هود: 16].
وهذا على أن يكون المراد بالآية المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري.
وروي أن المشركين كانوا لا يؤمنون بالقيامة، وإنما يتقربون إلى الله تعالى ليوسع عليهم في الدنيا ويرفع عنهم مكروهها؛ فأنزل الله عز وجل: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} أي يسمع ما يقولونه ويبصر ما يسرونه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{من كان يريد ثواب الدّنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} قال ابن عطية، أي من كان لا رغبة له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أنّ ثمّ سواه فليس كما ظن، بل عند الله ثواب الدّارين.
فمن قصد الآخرة أعطاه من ثواب الدنيا وأعطاه قصده، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له، وكان له في الآخرة العذاب.
وقال الماتريدي: يحتمل أن يكون المعنى من عبد الأصنام طلبًا للعز لا يحصل له ذلك، ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة، أو للتقريب والشفاعة أي: ليس له ذلك، ولكن اعبدوا الله فعنده ثواب الدنيا والآخرة، لا عند من تطلبون.
ويحتمل أن تكون في أهل النفاق الذين يراؤون بأعمالهم الصالحة في الدنيا لثواب الدنيا لا غير.
ومن يحتمل أن تكون موصولة والظاهر أنها شرط وجوابه الجملة المقرونة بفاء الجواب: ولابد في الجملة الواقعة جوابًا لاسم الشرط غير الظرف من ضمير عائد على اسم الشرط حتى يتعلق الجزاء بالشرط، والتقدير: ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، هكذا قدّره الزمخشري وغيره.
والذي يظهر أنّ جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه، وليطلب الثوابين، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة.
وقال الراغب: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسؤول مالكًا للثوابين، وحث على أن يطلب منه تعالى ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه، فمن طلب خسيسًا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسًا فهو دنيء الهمة.
قيل: والآية وعيد للمنافقين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة.
وقيل: هي حض على الجهاد.
{وكان الله سميعًا بصيرًا} أي سميعًا لأقوالهم، بصيرًا بأعمالهم ونياتهم. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي: يا من ليس هَمُّه إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك، كما قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200- 202]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: 18- 21].
وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي: من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك، {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا} وهو ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين. وقوله: {وَالآخِرَةِ} أي: وعند الله ثواب الآخرة، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم. وجعلها كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].
ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر؛ فإن قوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة، أي: بيده هذا وهذا، فلا يقْتَصِرَنَّ قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس، وعدل بينهم فيما علمه فيهم، ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا؛ ولهذا قال: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{من كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة} أي فعنده تعالى ثوابُهما له إن أراده فما له يطلُب أخسَّهما فليطلُبْهما كمن يقول: ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً أو لِيَطلُبْ أشرفَهما فإن من جاهد خالصًا لوجه الله تعالى لم تُخطِئْه الغنيمةُ وله في الآخرة ما هي في جنبه كَلاَ شيءٍ أي فعند الله ثوابُ الدارين فيعطي كلًا ما يريده كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ} الآية، {وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} عالمًا بجميع المسموعاتِ والمُبصَرات فيندرج فيها ما صدَر عنهم من الأقوال والأعمالِ المتعلقةِ بمراداتهم اندراجًا أوليًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{من كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية.
{فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة} جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي: من كان يريد ثواب الدنيا فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول: {رَبَّنَا ءاتِنَا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201]، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلًا خالصًا لوجه الله تعالى لم (تخطه) المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء، وفي «مسند أحمد» عن زيد بن ثابت «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران فيقال: من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد خسر وهلك، فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جرئ فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار»، وقيل: إنه الجزاء إلا أنه مؤل بما يجعله مرتبًا على الشرط لأن مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه، وقيل: المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلًا ما يريده كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ} [الشورى: 20] الآية.
{وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن الله تعالى سميع بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك، وقد يقال: ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي، والأول: مسموع، والثاني: مبصر، وقيل: السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء، ولا يخفى أنه وإن كان لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر في الكلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

لمّا كان شأن التقوى عظيمًا على النفوس، لأنّها يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة، نبّههم الله إلى أنّ خير الدنيا بيد الله، وخير الآخرة أيضًا، فإن اتقوه نالوا الخيرين.
ويجوز أن تكون الآية تعليمًا للمؤمنين أن لا يصدّهم الإيمان عن طلب ثواب الدنيا، إذ الكلّ من فضل الله.