فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعندما سمع الأغنياء هذا القول عرفوا سلوكهم، ولما سمع الفقراء هذا القول، كأنهم قالوا: نحن لا نملك ما نطعم به المسكين، فكان في قوله تعالى: {وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ما يوضح لهم الطريق إلى العطاء: أي حضوا غيركم على العطاء.
أي أن الذي لا يملك يمكنه أن يكلم الغني ليعطي المسكين، والحضُّ هو كلام. والكلام من العمل.
والحق سبحانه وتعالى يستنفر المؤمنين لينصروا دين الله فيقول: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91]
هو سبحانه أعفى الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون في القتال وأسقطه عنهم ولم يحاسبهم عليه، ولكن في الآية نفسها ما يُحدد المطلوب من هؤلاء، وهو أن ينصحوا لله ورسوله. إذن فغير القادر يمكنه أن يتكلم بفعل الخير ويذكِّر به الآخرين وينصح به، هذا هو معنى قول الحق: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} فسبحانه يسمع قول مّن لا يستطيع ولا يملك القدرة على سلوك ما، وسبحانه بصير يرى صاحب كل سلوك.
إذن فثواب الدنيا يحتاج إلى عمل، والعمل هو انفعال كل جارحة بمطلوبها، فاللسان جارحة تتكلم، واليد تعمل، وكل جوارح الإنسان تعمل، لكن ما عمل القلوب؟ عمل القلوب لا يُسمع ولا يُرى، ولذلك قال الحق عن إخلاص القلب في حديث قدسي: «الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي».
وهكذا نعرف أن نية القلوب خاصة بالله مباشرة ولا تدخل في اختصاص رقيب وعتيد وهما الملكان المختصان برقابة وكتابة سلوك وعمل الإنسان، ولذلك نجد الحق يصف ذاته في مواقع كثيرة من القرآن بأنه لطيف خبير، لطيف بعلم ما يدخل ويتغلغل في الأشياء، وخبير بكل شيء وقدير على كل شيء. ونجد الحديث الشريف يقول لنا: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
فالعمل يكون بالجوارح، ومن الجوارح اللسان، وحتى نضبط هذه المسألة لنفرق ما بين الفعل والعمل. نقرأ ونفهم هذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]
ونجد المقابل للقول هو الفعل. والكل عمل. ويأتي نوع آخر من الأعمال، لا هو قول ولا هو فعل، وهو «النية القلبية». وعندما يقول الحق: إنه كان سميعًا بصيرًا، فالمعنى سميع للقول، وبصير بالفعل. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ فِي تَرْتِيبِ كِتَابِهِ أَنْ يَجِيءَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي شُئُونِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى أَوْ بَعْدَهَا وَبَعْدَ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا، أَنْ يُعَقِّبَ عَلَيْهَا بِآيَاتٍ فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ تُذَكِّرُ الْمُخَاطَبِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ بِعَظَمَتِهِ وَسِعَةِ مُلْكِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ خَلْقِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ أَوْ إِثَابَتِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ فِيمَا شَرَعَهُ لَهُمْ لِخَيْرِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، تُذَكِّرُهُمْ بِذَلِكَ لِيَزْدَادُوا بِتَدَبُّرِهَا إِيمَانًا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهَا، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَاتُ:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مُلْكًا وَخَلْقًا وَعَبِيدًا، فَبِأَمْرِهِ وَحْدَهُ قَامَ نِظَامُ الْأَكْوَانِ، وَلَهُ وَحْدَهُ التَّدْبِيرُ وَالتَّكْلِيفُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ الْإِنْسَانِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ، فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، فَبِإِقَامَةِ السُّنَنِ تَعْلُو مَعَارِفُكُمُ الْإِلَهِيَّةُ، وَتَرْتَقِي مَرَافِقُكُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَبِإِقَامَةِ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، تَتَزَكَّى أَنْفُسُكُمْ وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحُكُمُ الْمَدَنِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ وَإِنْ تَكْفُرُوا، نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ وَتَتْرُكُوا تَقْوَاهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، لَا يَنْقُصُ كُفْرُكُمْ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا ضَرَرُهُ عَلَيْكُمْ، كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الشُّكْرِ خَاصَّةٌ بِكُمْ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ وَمِنْهُ، مَحْمُودًا بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ، مَحْمُودًا عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شُكْرِكُمْ لِتَكْمِيلِ نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى حَمْدِكُمْ لِتَحْقِيقِ حَمْدِهِ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [17: 44]، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ اكْتَفَيْنَا مِنْهُ بِمَحَلِّ الشَّاهِدِ فِي مَوْضُوعِنَا.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، أَعَادَ تَذْكِيرَهُمْ بِكَوْنِهِ مَالِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيِ الْعَوَالِمُ كُلُّهَا لِيَتَمَثَّلُوا عَظَمَتَهُ، وَيَسْتَحْضِرُوا الدَّلِيلَ عَلَى غِنَاهُ وَحَمْدِهِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ تَوَكَّلَ بِإِغْنَاءِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا أَقَامَا حُدُودَهُ فِي تَفَرُّقِهِمَا فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْجَازِ كُلِّ مَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ بِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكْتَفُوا بِهِ فِي التَّوَكُّلِ لَهُمْ، وَيُسْتَعْمَلُ الْوَكِيلُ بِمَعْنَى الْمُهَيْمِنِ وَالْمُسَيْطِرِ وَالرَّقِيبِ.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا عَلِمْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِنْ يَشَأْ أَنْ يُذْهِبَكُمْ بِعَذَابٍ يُنْزِلُهُ بِكُمْ، أَوْ أُمَّةٍ قَوِيَّةٍ يُسَلِّطُهَا عَلَيْكُمْ فَتَسْلُبُ اسْتِقْلَالَكُمْ حَتَّى تَجْعَلَكُمْ عَبِيدًا أَوْ كَالْعَبِيدِ لَهَا، لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَقُومُوا بِمَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمُ الَّتِي بِهَا وِحْدَتُكُمْ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُكُمْ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ، يَحُلُّونَ مَحَلَّهُمْ فِي الْوُجُودِ أَوِ الْحُكْمِ وَالتَّصَرُّفِ، وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} [14: 19، 20]، وَفِي سُورَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [47: 38]، قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ مِنْ قَبِيلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُقَاوِمُونَ دَعْوَتَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ وَتَوْجِيهٌ لِأَفْكَارِهِمْ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي سُنَنِهِ تَعَالَى بِحَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَكَوْنِ هَذِهِ السُّنَنِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهَا الْمَشِيئَةُ لَا مَرَدَّ لَهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا؛ لِأَنَّ بِيَدِهِ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ، مِنْكُمْ بِسَعْيِهِ وَكَدْحِهِ وَجِهَادِهِ فِي حَيَاتِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا، وَنَعِيمَهَا بِالْمَالِ وَالْجَاهِ فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، جَمِيعًا وَقَدْ وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ وَهِدَايَةِ الْحَوَاسِ وَالْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ وَالدِّينِ مَا يُمْكِنُكُمْ بِهِ نَيْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا الثَّوَابَيْنِ جَمِيعًا وَلَا تَكْتَفُوا بِالْأَدْنَى الْفَانِي عَنِ الْأَعْلَى الْبَاقِي، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَيْسُورٌ لَكُمْ، وَمِمَّا تَنَالُهُ قُدْرَتُكُمْ، فَمِنْ سَفَهِ النَّفْسَ، وَأَفَنِ الرَّأْيِ، أَنْ تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِي أَهْلَهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ كُلًّا مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [2: 201].
وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، سَمِيعًا لِأَقْوَالِ الْعِبَادِ فِي مُخَاطِبَاتِهِمْ وَمُنَاجَاتِهِمْ، بَصِيرًا بِجَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاقِبُوهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَذَلِكَ الَّذِي يُعِينُهُمْ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ الَّتِي يَسْتَقِيمُ بِهَا أَمْرُ دُنْيَاهُمْ، وَيَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي آخِرَتِهِمْ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
أخرج الطيالسي والترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: «خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا...} الآية. قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز».
وأخرج ابن سعد وأبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا، وكان يطوف علينا يوميًا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله يومي هو لعائشة. فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: فأنزل الله في ذلك {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا...} الآية».
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن جرير وابن المنذر عن عائشة {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا...} الآية. قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس مستكثرًا منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل. فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن ماجة عن عائشة قالت: نزلت هذه الآية {والصلح خير} في رجل كانت تحته امرأة قد طالت صحبتها وولدت منه أولادًا، فأراد أن يستبدل بها، فراضته على أن يقيم عندها ولا يقيم لها.
وأخرج مالك وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن رافع بن خديج. أنه كانت تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة فآثرها عليها، فأبت الأولى أن تقر، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك؟ قالت: بل راجعني. فراجعا فلم تصبر على الأثرة، فطلقها أخرى وآثر عليها الشابة، فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا...} الآية.
وأخرج الشافعي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي عن سعيد ابن المسيب. أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمرًا، إما كبرًا أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني. واقسم لي ما بدا لك، فاصطلحا على صلح، فجرت السنة بذلك، ونزل القرآن {وإن امرأة خافت من بعلها...} الآية.
وأخرج ابن جرير عن عمر. أن رجلًا سأله عن آية؟ فكره ذلك وضربه بالدرة، فسأله آخر عن هذه الآية {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا} فقال: عن مثل هذا فسلوا، ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الثانية يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وأخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن علي بن أبي طالب. أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو الرجل عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به، فإن رجعت سوَّى بينهما.