فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

{إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} أي إن يكن المشهود عليه غنيًا أو فقيرًا فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير، فالله أولى بأمورهما ومصالحهما، وكان من حق الكلام أن يقال: فالله أولى به، لأن قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا} في معنى أن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ، أي الله أولى بالفقير والغني، وفي قراءة أُبي فالله أولى بهم، وهو راجع إلى قوله: {أَوِ الوالدين والأقربين}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} في الكلام إضمار وهو اسم كان؛ أي إن يكن الطالب أو المشهود عليه غنِيًا فلا يُراعى لغناه ولا يُخاف منه، وإن يكن فقيرًا فلا يُراعى إشفاقًا عليه.
{فالله أولى بِهِمَا} أي فيما اختار لهما من فقر وغِنى.
قال السدّيّ: اختصم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم غنيّ وفقير، فكان ضَلْعه صلى الله عليه وسلّم مع الفقير، ورأى أن الفقير لا يظلم الغنيّ؛ فنزلت الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {إن يكن غنيًا أو فقيرًا} استئناف واقع موقع العلّة لمجموع جملة {كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله}: أي إن يكن المُقْسَط في حقّه، أو المشهودُ له، غنيًّا أو فقيرًا، فلا يكن غناه ولا فقره سببًا للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه.
والمقصود من ذلك التحذير من التأثّر بأحوال يَلتبس فيها الباطل بالحقّ لما يحفّ بها من عوارض يتوهّم أنّ رعيها ضرب من إقامة المصالح، وحراسة العدالة، فلمّا أبطلت الآية التي قبلها التأثّر للحميّة أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثّر بالمظاهر التي تستجلب النفوسَ إلى مراعاتها فيتمحّض نظرها إليها.
وتُغضي بسببها عن تمييز الحقّ من الباطل.
وتذهل عنه، فمن النفوس من يَتوهّم أنّ الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حقّ غيره، يقول في نفسه: هذا في غنية عن أكل حقّ غيره، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة.
ومن الناس من يميل إلى الفقير رقّة له، فيحسبه مظلومًا، أو يحسب أنّ القضاء له بمال الغنيّ لا يضرّ الغنيّ شيئًا؛ فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة وهي قوله: {إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما}.
وهذا الترديد صالح لكلّ من أصحاب هذين التوهّمين، فالذي يعظّم الغنيّ يَدحض لأجله حقّ الفقير، والذي يَرقّ للفقير يَدحض لأجله حقّ الغنيّ، وكِلاَ ذلك باطل، فإنّ الذي يراعي حال الغنيّ والفقير ويقدّر إصلاح حال الفريقين هو الله تعالى.
فقوله: {فالله أولى بهما} ليس هو الجواب، ولكنّه دليله وعلّته، والتقدير: فلا يهمّكم أمرهما عند التقاضي، فالله أولى بالنظر في شأنهما، وإنّما عليكم النظر في الحقّ.
ولذلك فرّع عليه قوله: {فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى.
والغنيّ: ضد الفقير، فالغِنَى هو عدم إلى الاحتياج إلى شيء، وهو مقول عليه بالتفاوت، فيُعْرَف بالمتعلّق كقوله: «كلانا غَنيّ عَن أخيه حياتَه»، ويُعْرف بالعرف يقال: فلان غني، بمعنى له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه، فوجدان أجور الأجرَاء غنى، وإن كان المستأجر محتاجًا إلى الأجراء، لأنّ وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج، والغنى المطلق لا يكون إلاّ لله تعالى.
والفقير: هو المحتاج إلاّ أنه يقال افتقر إلى كذا، بالتخصيص، فإذا قيل: هو فقير، فمعناه في العرف أنّه كثير الاحتياج إلى فضل الناس، أو إلى الصبر على الحاجة لقلّة ثروته، وكلّ مخلوق فقيرٌ فقرًا نسبيًا، قال تعالى: {والله الغني وأنتم الفقراء} [محمد: 38].
واسم {يكن} ضمير مستتر عائد إلى معلوم من السياق، يدلّ عليه قوله: {قوّامين بالقسط شهداء لله} من معنى التخاصم والتقاضي.
والتقدير: إن يكن أحد الخصمين من أهل هذا الوصف أو هذا الوصف، والمراد الجنسان، و(أو) للتقسيم، وتثنية الضمير في قوله: {فالله أولى بهما} لأنّه عائد إلى «غنيًا وفقيرًا» باعتبار الجنس، إذ ليس القصد إلى فرد معيّن ذي غني، ولا إلى فرد معيّين ذي فقر، بل فرد شائع في هذا الجنس وفي ذلك الجنس. اهـ.

.قال الفخر:

{فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل، وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر، فتقدير الآية: فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} نهي، فإن اتباع الهوى مُرْدٍ، أي مهلك؛ قال الله تعالى: {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} [ص: 26] فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، إلى غير ذلك.
وقال الشعبيّ: أخذ الله عزّ وجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألاّ يتّبعوا الهوى، وألاّ يخشَوا الناسَ ويخشوه، وألاّ يشتروا بآياته ثمنًا قليلًا. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضَة الناس إليكم، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]
ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم. فقالوا: «بهذا قامت السماوات والأرض». اهـ.

.قال الفخر:

وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور {وَإِن تَلْوُواْ} بواوين، وقرأ ابن عامر وحمزة {تلوا} وأما قراءة تلووا ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى الدفع والإعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه.
الثاني: أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم: لوى الشيء إذا فتله، ومنه يقال: التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيهًا بالشيء المنفتل، وأما {تلوا} ففيه وجهان: الأول: أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به، والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعلمون خبيرًا فيجازى المسحن المقبل بإحسانه والمسيء المعرض بإساءته، والحاصل: إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها، والثاني: قال الفرّاء والزجاج: يجوز أن يقال: {تلوا} أصله تلووا ثم قلبت الواو همزة، ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار {تَلْوُواْ} وهذا أضعف الوجهين، وأما قوله: {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرًا} فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين. اهـ.

.قال القرطبي:

وقد استدل بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية؛ فقال: جعل الله تعالى الحاكم شاهدًا في هذه الآية، وذلك أدل دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة؛ لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلًا فلذلك ردّت الشهادة. اهـ.

.قال ابن عطية:

ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة والتوسط بين الناس، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة فتأمله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} وفى المائدة: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} فقدم في آية النساء قوله: {بالقسط} وأخر في المائدة فيسأل عن وجه ذلك.
والجواب عنه والله أعلم: أن الآيات المتصلة بآية سورة النساء مبنية على الأمر بالعدل والقسط قال تعالى: {من يعمل سوءا يجز به...} الآية وقال بعد: {ويستفتونك في النساء} ثم قال: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط} وتوالت الآى بعد على هذا المعنى فقدم قوله بالقسط ليناسب ما ذكر.
وأما آية المائدة فثبت قبلها الأمر بالطهارة ثم تذكيره سبحانه بتذكر نعمه والوقوف مع ما عهد به إلى عباده والأمر بتقواه فناسبه قوله: {كونوا قوامين لله} ثم أتبع بما بنى على ذلك من الشهادة بالقسط فتأمل ما بنى على هذه وما بنى على آية النساء يتضح لك ما قلته والله أعلم بما أراد. اهـ.

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن فقيرًا وغنيًا اختصما إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صَغْوُه مع الفقير يرى أن الفقير لا يَظلم الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي.
والثاني: أنها متعلقة بقصّة ابن أُبيرق، فهي خطاب للذين جادلوا عنه، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
و«القوّام» مبالغة مِن قائِم.
و«القسط» العدل.
قال ابن عباس: كونوا قوّالين بالعدل في الشهادة على من كانت، ولو على أنفسكم.
وقال الزجاج: معنى الكلام: قوموا بالعدل، واشهدوا لله بالحق، وإِن كان الحق على الشاهد، أو على والديه، أو قريبه، {إِن يكن} المشهود له {غنيًا} فالله أولى به، وإِن يكن {فقيرًا} فالله أولى به.
فأما الشهادة على النفس، فهي إِقرار الإِنسان بما عليه من حق.
وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إِلى فقر المشهود عليه، ولا إِلى غناه، فإن الله تعالى أولى بالنظر إِليهما.
قال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني، فتمسكوا عن القول فيه.
وممن قال: إِن الآية نزلت في الشهادات، ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والزهري، وقتادة، والضحاك.
قوله تعالى: {فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن معناه: فلا تتبعوا الهوى، واتقوا الله أن تعدِلوا عن الحق، قاله مقاتل.
والثاني: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، قاله الزجاج.
والثالث: فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق.
والرابع: فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: {وإِن تلووا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والكسائي: تلووا، بواوين، الأولى مضمومة، واللام ساكنة.
وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إِلى غير الحق.
قال ابن عباس: يلوي لسانه بغير الحق، ولا يقيم الشهادة على وجهها، أو يعرض عنها ويتركها.
وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
والثاني: أن يلوي الحاكم وجهه إِلى بعض الخصوم، أو يُعرِضَ عن بعضهم، روي عن ابن عباس أيضًا.
والثالث: أن يلوي الإِنسان عنقه إِعراضًا عن أمر الله لكبره وعتوِّه.
ويكون: {أو تعرضوا} بمعنى: وتعرضوا، ذكره الماوردي.
وقرأ الأعمش، وحمزة، وابن عامر: {تلوا} بواو واحدة، واللاّم مضمومة.
والمعنى: أن تلوا أمور الناس، أو تتركوا فيكون الخطاب للحكام. اهـ.