فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِهْرَانَ الدِّينَوَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَمْ يَرْفَعْ عَلَى الْآخَرِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} قَدْ أَفَادَ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إنْصَافَ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ لَهُمْ وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ وَمَنْعَ الظَّالِمِ مِنْ ظُلْمِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فِيمَا إذَا كَانَ الْوُصُولُ إلَى الْقِسْطِ مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ؛ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الظَّالِمِ الْمَانِعِ مِنْ الْحَقِّ لِلْمَظْلُومِ صَاحِبِ الْحَقِّ لِاسْتِخْرَاجِ حَقِّهِ مِنْهُ وَإِيصَالِهِ إلَيْهِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}، وَتَضَمَّنَ أَيْضًا الْأَمْرَ بِالِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِحَقِّهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} لِأَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ إقْرَارُهُ بِمَا عَلَيْهِ لِخَصْمِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ إذَا طَالَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ.
وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فِيهِ أَمْرٌ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى وَالِدَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ أَقْرِبَائِهِ؛ لِأَنَّهُمْ وَالْأَجْنبِيِّينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدَانِ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِمَا أَوْلَادُهُمَا رُبَّمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ حَبْسُهُمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعُقُوقٍ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا لِكَرَاهَتِهِمَا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْعٌ لَهُمَا مِنْ الظُّلْمِ وَهُوَ نُصْرَةٌ لَهُمَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَرُدُّهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرٌ مِنْك إيَّاهُ»، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَاعَةَ لَمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَةُ الْأَبَوَيْنِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَجُوزُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُمَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَهُ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا مَعَ كَرَاهَتِهِمَا لِذَلِكَ.
وقَوْله تَعَالَى: {إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاَللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أَمْرٌ لَنَا بِأَنْ لَا نَنْظُرَ إلَى فَقْرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إشْفَاقًا مِنَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِحُسْنِ النَّظَرِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَأَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْجَمِيعِ، فَعَلَيْكُمْ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِمَا عِنْدَكُمْ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} يَعْنِي لَا تَتْرُكُوا الْعَدْلَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَالْمَيْلِ إلَى الْأَقْرِبَاءِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى} وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الشَّاهِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِفَقْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ إقَامَتِهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْبِسَهُ الْقَاضِي لِفَقْدِ عِلْمِهِ بِعَدَمِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ فِي الْقَاضِي يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَيَكُونُ لَيُّهُ وَإِعْرَاضُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا».
وَاللَّيُّ هُوَ الدَّفْعُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»، يَعْنِي مَطْلَهُ وَدَفْعَ الطَّالِبِ عَنْ حَقِّهِ.
فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْقَاضِي كَانَ مَعْنَاهُ دَفْعُهُ الْخَصْمَ عَمَّا يَجِبُ لَهُ مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الشَّاهِدَ فِي أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَأَنْ لَا يَدْفَعَ صَاحِبَ الْحَقِّ عَنْهَا وَيُمْطِلَهُ بِهَا وَيَعْرِضَ عَنْهُ إذَا طَالَبَهُ بِإِقَامَتِهَا، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِلْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا، فَيُفِيدُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَجْلِسِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَتَرْكِ إسْرَارِ أَحَدِهِمَا وَالْخَلْوَةِ بِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ». اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاَللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ، فَكَانَ ضِلْعُهُ مَعَ الْفَقِيرِ، يَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَظْلِمُ الْغَنِيَّ، فَأَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ فِي الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِسْطُ: الْعَدْلُ.
بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ، وَالْقَسْطُ بِفَتْحِهَا: الْجَوْرُ وَيُقَالُ: أَقْسَطَ إذَا عَدَلَ، وَقَسَطَ إذَا جَارَ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ: قَسَطَ الْبَعِيرُ قَسْطًا إذَا يَبِسَتْ يَدُهُ، فَلَعَلَّ أَقْسَطَ سَلْبُ قَسَطَ، فَقَدْ يَأْتِي بِنَاءُ أَفْعَلَ لِلسَّلْبِ.
كَقَوْلِهِ: أَعْجَمَ الْكِتَابُ إذَا سَلَبَ عُجْمَتَهُ بِالضَّبْطِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}: يَعْنِي فَعَّالِينَ، مِنْ قَامَ، وَاسْتَعَارَ الْقِيَامَ لِامْتِثَالِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يُفْعَلُ فِي مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ وَهِيَ غَايَةُ الْفِعْلِ لَنَا، وَمِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَالْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتِ فَضَرَبَهُ هَاهُنَا مَثَلًا لِغَايَةِ الْقِيَامِ بِالْعَدْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ}: كُونُوا مِمَّنْ يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وَلِوَجْهِهِ، فَيُبَادِرُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، وَيَقُولُ الْحَقَّ فِيهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ بِالْحَقِّ، وَالْمَلَائِكَةُ وَأَوَّلُو الْعِلْمِ وَعُدُولُ الْأُمَّةِ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِالْقِسْطِ فَقَدْ شَهِدَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْحَقِّ، وَكُلُّ مَنْ قَامَ لِلَّهِ فَقَدْ شَهِدَ بِالْقِسْطِ، وَلِهَذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي الْمَائِدَةِ بِمَقْلُوبِ هَذَا النَّظْمِ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَبْدَ بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ، وَيُسَمِّي الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةً، كَمَا تُسَمَّى الشَّهَادَةُ عَلَى الْغَيْرِ الْإِقْرَارَ.
وَفِي حديث: «مَاعِزٍ: فَلَمْ يَرْجُمْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ»، وَلَا يُبَالِي الْمَرْءُ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا فَاَللَّهُ يَفْتَحُ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} إلَّا أَنَّهُ فِي بَابِ الْحُدُودِ نَدَبَ إلَى أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَتُوبَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ؛ بَلْ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَدِّ إذَا رَأَى غَيْرَهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ وَهُوَ صَاحِبُهُ، فَيَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ لِيُخَلِّصَهُ وَيُبَرِّئَهُ.
رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ «عَنْ الْحَلَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ فِي السُّوقِ فَرَمَتْ امْرَأَةٌ صَبِيًّا.
قَالَ: فَثَارَ النَّاسُ وَثُرْت فِيمَنْ ثَارَ، فَانْتَهَيْت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ أَبُو هَذَا مَعَك؟ فَقَالَ فَتًى حِذَاءَهَا: أَنَا أَبُوهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: مَنْ أَبُو هَذَا مَعَك؟ فَسَكَتَتْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهَا حَدِيثَةُ السِّنِّ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِحُزْنٍ وَلَيْسَتْ تُكَلِّمُك، أَنَا أَبُوهُ؛ فَنَظَرَ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا إلَّا خَيْرًا.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْصَنْت.
قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.
قَالَ: فَخَرَجْنَا فَحَفَرْنَا لَهُ حَتَّى أَمْكَنَّاهُ ثُمَّ رَمَيْنَاهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى هَدَأَ مُحْتَضَرًا»
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ الْوَالِدَيْنِ}: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ: الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ بِرَّهُمَا، بَلْ مِنْ بِرِّهِمَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِالْحَقِّ، وَيُخْلِصَهُمَا مِنْ الْبَاطِلِ، وَهُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} فِي بَعْضِ مَعَانِيه.
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الِابْنِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُمَا أَوْ شَهِدَا لَهُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُجِيزُونَ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَالْأَخِ لِأَخِيهِ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}؛ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَّهِمُ فِي ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنْ النَّاسِ أُمُورٌ حَمَلَتْ الْوُلَاةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ، فَتُرِكَتْ شَهَادَةُ مِنْ يُتَّهَمُ، وَصَارَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَقَدْ أَجَازَ قَوْمٌ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إذَا كَانُوا عُدُولًا.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَجَازَهُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ شَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ إذَا كَانَ عَدْلًا إلَّا فِي النَّسَبِ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ فِي نَصِيبٍ مِنْ مَالٍ يَرِثُهُ، وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ شَهَادَةُ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ؛ وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ عِنْدَهُ، وَلَا إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ الشَّرِيعَةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَلَا الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ لِمَا بَيْنَهَا مِنْ الْبَعْضِيَّةِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا».
وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا تَجُوزُ، إلَّا أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ قَالَ: إنَّهُ كَانَ يُسَامِحُ فِيهِ.
وَمَا رَوَى قَطُّ أَحَدٌ أَنَّهُ نَفَذَ قَضَاءٌ بِشَهَادَةِ وَلَدٍ لِوَالِدِهِ وَلَا وَالِدٍ لِوَلَدِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْمُسَامَحَةِ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِرَدِّهَا، وَلَا يُحَذِّرُونَ مِنْهَا لِصَلَاحِ النَّاسِ، فَلَمَّا فَسَدُوا وَقَعَ التَّحْذِيرُ، وَنَبَّهَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْأَصْلِ، فَظَنَّ مَنْ تَغَافَلَ أَوْ غَفَلَ أَنَّ الْمَاضِينَ جَوَّزُوهَا، وَمَا كَانَ ذَلِكَ قَطُّ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ».
وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ جُزْءًا مِنْهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَتَبَعًا لَهُ فِي الْإِيمَانِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ بِإِجْمَاعٍ، وَمُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أُمِّهِ بِاخْتِلَافٍ، وَمَالُهُ لِأَبِيهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَهَكَذَا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا بَيَانَ فَوْقَ هَذَا.
وَالْأَخُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا بَعْضِيَّةٌ فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ حَقِيقَةً وَعَادَةً، فَجَوَّزَهَا الْعُلَمَاءُ فِي جَانِبِ الْأَخِ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ الْمُبَرِّرَةِ، مَا لَمْ تَجُرَّ نَفْعًا.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: يَجُوزُ شَهَادَةُ الزَّوْجَيْنِ بَعْضِهِمَا لِبَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَجْنَبِيَّانِ؛ وَإِنَّمَا بَيْنَهُمَا عَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ: فَإِنَّ الزَّوْجِيَّةَ تُوجِبُ الْحَنَانَ وَالتَّعَطُّفَ وَالْمُوَاصَلَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ، وَلَهُ حَقٌّ فِي مَالِهَا عِنْدَنَا، وَلِذَلِكَ لَا تَتَصَرَّفُ فِي الْهِبَةِ إلَّا فِي ثُلُثِهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَهَا فِي مَالِهِ حَقُّ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: أَلْحَقَ مَالِكٌ الصَّدِيقَ الْمُلَاطِفَ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ؛ فَهِيَ فِي الْعَادَةِ أَقْوَى مِنْهَا، وَهِيَ فِي الْمَوَدَّةِ؛ فَكَانَتْ مِثْلَهَا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاَللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}: الْمَعْنَى لَا تَمِيلُوا بِالْهَوَى مَعَ الْفَقِيرِ لِضَعْفِهِ، وَلَا عَلَى الْغَنِيِّ لِاسْتِغْنَائِهِ، وَكُونُوا مَعَ الْحَقِّ؛ فَاَللَّهُ الَّذِي أَغْنَى هَذَا وَأَفْقَرَ هَذَا أَوْلَى بِالْفَقِيرِ أَنْ يُغْنِيَهُ بِفَضْلِهِ بِالْحَقِّ لَا بِالْهَوَى وَالْبَاطِلِ، وَاَللَّهُ أَوْلَى بِالْغَنِيِّ أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي يَدِهِ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، لَا بِالتَّحَامُلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ عِيَارًا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْخُبْثِ وَمِيزَانًا لِمَا يَتَبَيَّنُ مِنْ الْمَيْلِ، عَلَيْهِ تَجْرِي الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُجْرِي الْمَقَادِيرَ بِحِكْمَتِهِ، وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُكْمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ جَمَاعَةٌ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فَسَوَّى بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَبَوَيْنِ فِي الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالْوَصِيَّةِ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الدَّرَجَةِ؛ كَمَا سَوَّى بَيْنَ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا أَيْضًا فِي الدَّرَجَةِ، وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: لَا تَلْتَفِتُوا فِي الرَّحِمِ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ فِي الْحَقِّ كُونُوا مَعَهُ عَلَيْهَا، وَلَوْلَا خَوْفُ الْعَدْلِ عَنْهُ لَهَا لَمَا خُصُّوا بِالْوَصِيَّةِ بِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}: مَعْنَاهُ لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَكُمْ فِي طَلَبِ الْعَدْلِ بِرَحْمَةِ الْفَقِيرِ وَالتَّحَامُلِ عَلَى الْغَنِيِّ، بَلْ ابْتَغَوْا الْحَقَّ فِيهِمَا، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}: الْمَعْنَى إنْ مَطَلْتُمْ حَقًّا فَلَمْ تُنَفِّذُوهُ إلَّا بَعْدَ بُطْءٍ، أَوْ عَرَضْتُمْ عَنْهُ جُمْلَةً فَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِعَمَلِكُمْ.
يُقَالُ لَوَيْت الْأَمْرَ أَلْوِيه لَيًّا وَلِيَّانًا، إذَا مَطَلْته قَالَ غَيْلَانُ: تُطِيلِينَ لَيَّانِي وَأَنْتِ مَلِيَّةٌ وَأُحْسِنُ يَا ذَاتَ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ: وَإِنْ تَلُوا، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ، وَأَكْثَرُ، وَقَدْ رُدَّ إلَى الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ عَرَبِيٍّ؛ وَذَلِكَ أَنْ تُبْدِلَ مِنْ الْوَاوِ الْآخِرَةِ هَمْزَةً فَتَكُونَ تَلْوُوا، ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةِ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْوَاوِ، وَالْعَرَبُ تَفْعَل ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ تَلُوا مِنْ الْوِلَايَةِ، أَيْ اسْتَقْلَلْتُمْ بِالْأَمْرِ أَوْ ضَعُفْتُمْ عَنْهُ فَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِذَلِكَ. اهـ.