فصل: تفسير الآية رقم (139):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (139):

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى: {الذين يتخذون الكافرين} أي المجاهرين بالكفر {أولياء} أي يتعززون بهم تنفيرًا من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق، وبيانًا لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله: {من دون المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله: {أيبتغون} أي المنافقون يتطلبون، تطلبًا عظيمًا {عندهم} أي الكافرين {العزة} فكأنه قال: طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب، لأنه لا شيء من العزة عندهم.
ولما أنكر عليهم هذا الابتغاء علله بقوله: {فإن العزة لله} أي الذي لا كفوء له {جميعًا} أي وهم أعداء الله فإنما يترقب لهم ضرب الذلة والمسكنة، وما أحسن التفات هذه الآية إلى أول الآيات المحذرة من أهل الكتاب {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب} [النساء: 44] المختتمة بقوله: {وكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا} [النساء: 45]. اهـ.

.قال الفخر:

{الذين}: نصب على الذم، بمعنى أريد الذين، أو رفع بمعنى هم الذين، واتفق المفسرون على أن المراد بالذين يتخذون: المنافقون، وبالكافرين اليهود، وكان المنافقون يوالونهم ويقول بعضهم لبعض: إن أمر محمد لا يتم، فيقول اليهود بأن العزة والمنعة لهم.
ثم قال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة}
قال الواحدي: أصل العزة في اللغة الشدة، ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز، ويقال: قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه وكاد أن يهلك، وعز الهم اشتد، ومنه عز على أن يكون كذا بمعنى اشتد، وعز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد لأنه اشتد مطلبه، واعتز فلان بفلان إذا اشتد ظهره به، وشاة عزوز التي يشتد حلبها ويصعب والعزة القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما.
والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل.
إذا عرفت هذا فنقول: إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود، ثم إنه تعالى أبطل عليهم هذا الرأي بقوله: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعًا}.
فإن قيل: هذا كالمناقض لقوله: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقين: 8].
قلنا: القدرة الكاملة لله، وكل من سواه فباقداره صار قادرًا، وبإعزازه صار عزيزًا، فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله تعالى، فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعًا لله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {وقد نزّل عليكم في الكتاب} إلخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة {بشرّ المنافقين} تذكيرًا للمسلمين بما كانوا أعلموا به ممّا يؤكّد التحذير من مخالطتهم، فضمير الخطاب موجّه إلى المؤمنين، وضمائر الغيبة إلى المنافقين، ويجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير (يتّخذون)، فيكون ضمير الخطاب في قوله: {وقد نزّل عليكم} خطابًا لأصحاب الصلة من قوله: {الذين يتّخذون الكافرين أولياء} [النساء: 139] على طريقة الالتفات، كأنّهم بعد أن أجريت عليهم الصلة صاروا معيّنين معروفين، فالتُفت إليهم بالخطاب، لأنّهم يعرفون أنّهم أصحاب تلك الصلة، فلعلّهم أن يقلعوا عن موالاة الكافرين.
وعليه فضمير الخطاب للمنافقين، وضمائر الغيبة للكافرين، والذي نزّل في الكتاب هو آيات نزلت قبل نزول هذه السورة في القرآن: في شأن كفر الكافرين والمنافقين واستهزائهم.
قال المفسّرون: إنّ الذي أحيل عليه هنا هو قوله تعالى في سورة الأنعام: {وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعْرِضْ عنهم حتّى يخوضوا في حديث غيره} لأنّ شأن الكافرين يَسري إلى الذين يتُخذونهم أولياء، والظاهر أنّ الذي أحال الله عليه هو ما تكرّر في القرآن من قبل نزول هذه السورة نحو قوله في البقرة: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مشتهزءون} ممّا حصل من مجموعه تقرر هذا المعنى. اهـ.

.قال القرطبي:

وقوله تعالى: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين} {الذين} نعت للمنافقين.
وفي هذا دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق؛ لأنه لا يتولّى الكفار.
وتضمنت المنع من موالاة الكافر، وأن يتخذوا أعوانًا على الأعمال المتعلقة بالدين.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا من المشركين لحِق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يقاتل معه، فقال له: «ارجع فإنا لآ نستعين بمشرك». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {الَّذِين} يجُوز فيه النَّصْب والرَّفْع، فالنصب من وَجْهَيْن:
أحدهما: كونه نعتًا للمُنَافِقِين.
والثاني: أنه نَصْب بفعلٍ مُضْمَر، أي أذمُّ الَّذِين، والرَّفْع على خَبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: هم الَّذِين.
قوله: {أيبتغون عندهم العزة} أي: المَعُونة، والظُّهور على محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقيل: أيطلبون عندهُم القُوَّة، والغَلَبة، والقُدْرة.
قال الواحدي: أصَلُ العِزَّة في اللُّغَة: الشِّدَّة، ومنه: قيل: للأرْضِ [الصَّلْبَة] الشَّديدة: عزَاز ويقال: قد استَعَزَّ المرضُ على المَرِيضِ: إذا اشتدَّ مَرَضُه وكاد أن يَهْلَكَ وعَزَّ الهَمُّ إذا اشْتَدَّ، ومنه: [عَزَّ] عليَّ أن يكُون كذا بِمَعْنَى: اشتَدَّ، وعز الشَّيْء: إذا قلَّ حتى لا يَكُادُ يُوجَد؛ لأنه اشتدَّ مطلبُهُ، واعتز فلانٌ بفلان: إذا اشتَدَّ ظَهْرُه به، وشاةٌ عَزُوزٌ: إذا اشتَدَّ حَلْبُها، والعِزَّة: القُوَّة، منقولة عن الشِّدَّة؛ لتقارب مَعْنَيْهما، والعَزِيز: القوي المَنِيع بخلاف الذَّلِيل، فالمُنَافِقُون كانوا يَطْلبون العِزَّة والقُوَّة، بسبب اتِّصالهم باليَهُود، فأبطل اللَّه عَلَيْهم هذا الرَّأي بقوله: {فإن العزة لله جميعًا}.
والثاني: قوله: {فإن العزة} لِما في الكلام من معنى الشَّرْط، إذ المَعْنَى: إن إن تَبْتَغُوا من هَؤلاء عِزَّةً {فإن العزة لله جميعًا}، {جَمِيعًا}: حال من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في قوله: {لِلَّه} لوُقُوعهِ خَبَرًا، [والمعنى: أنَّ العِزَّة ثبتَتْ لِلَّه تعالى حالة كونها جَمِيعًا]. اهـ. بتصرف يسير.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}
من اعتصم بمخلوقٍ فقد التجأ إلى غير مُجير، واستند إلى غير كهفٍ، وسقط في مهواة من الغلط بعيد قعرها، شديد مكرها. أيبتغون العِزَّ عند الذي أصابه ذلّ التكوين؟! متى يكون له عزٌّ على التحقيق؟ ومَنْ لا عزَّ له يلزمه فكيف يكون له عز يتعدَّى إلى غيره؟
ويقال لا ندري أي حالتهم أقبح: طلب العز وهم في ذل القهر وأسر القبضة أم حسبان ذلك وتوهمه من غير الله؟
ويقال مَنْ طَلَبَ الشيء من غير وجهه فالإخفاق غاية جهده، ومن رام الغنى في مواطن الفاقة فالإملاق قصارى كدِّه.
ويقال لو هُدُوا بوجدان العِزِّ لما صُرِفَتْ قُصُودُهم إلى من ليس بيده شيء من الأمر.
قوله: {فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} العزُّ على قسمين: عزٌّ قديمٌ فهو لله وصفًا، وعزٌّ حادثٌ يختص به سبحانه من يشاء فهو له تعالى مِلْكًا ومنه لطفًا. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا}
وأول مظهر من مظاهر النفاق أن يتخذ المنافقُ الكافرَ وليًا له؛ يقرب منه ويوده، ويستمد منه النصرة والمعونة، والمؤانسة؛ والمجالسة، ويترك المؤمنين. وعرفنا أن كل فعل من الأفعال البشرية لابد أن يحدث لغاية تُطْلَب منه، ولا يتجرد الفعل عن الغاية إلا في المجنون الذي يفعل الأفعال بدون أي غاية، لكن العاقل يفعل الفعل لغاية، ولهذف يرجوه. والمنافقون يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لأي غاية ولأي هدف؟
ويكشف الحق هذه المسألة فيوضح: أنهم يبتغون العزة من الكافرين، ولذلك اتخذوهم أولياء من دون المؤمنين. ويلفتهم- جل شأنه- إلى جهلهم؛ لأنهم أخذوا طريقًا يوصلهم إلى ما هو ضد الغاية.
فماداموا يبتغون العزة فليعرفوا أولًا: ما العزّة؟. العزة مأخوذة من معنى مادي وهو الصلابة والشدة. فالأرض العَزَاز أي الصلبة التي لا ينال منها المعول، ثم نقلت إلى كل شديد، فكل شيء شديد فيه عِزّة. والمراد بها هنا: الغلبة والنصر، وكل هذه المعاني تتضمنها العزة.
فإذا قيل: الله عزيز.. أي أنه سبحانه وتعالى غالب على أمره شديد لا يمكن أن يقدر على مِحاله أو مكره أو قوته أو عقابه أحد. وإذا قيل: فلان عزيز أي لا يُغلب، وإذا قيل: هذا الشيء عزيز أي نادر، ومادام الشيء نادرأً فهو نفيس، والمعادن النفيسة كلها أخذت حظها من ندرتها وقلتها.
وما دمتم أيها المنافقون تطلبون العزة، ألا تطلبونها ممن عنده؟. أتطلبونها من نظائركم؟. وعندما تطلبون العزة فذلك لأنكم لا تملكون عزة ذاتية، فلو كانت عندكم عزة ذاتية لما طلبتم العزة من عند الكافرين. وهذا دليل على فقدانهم العزة لأنهم طلبوها من مساوٍ لهم من الأغيار، فالمنافقون بشر، والكفار بشر، وبما أن كل البشر أغيار، فمن الممكن أن يكونوا أعزاء اليوم وأذلاء غدًا؛ لأن أسباب العزة هي غنىً أو قوة أو جاه، وكل هذه من الأغيار.
فأنتم أيها المنافقون قد طلبتم العزة ممن لم يزد عليكم، وهو من الأغيار مثلكم، ولم تطلبوها من صاحب العزة الذاتية الأزلية الأبدية وهو الحق سبحانه وتعالى، ولو أردتم العزة الحقيقية التي تغنيكم عن الطلب من الأغيار مثلكم فلتذهبوا إلى مصدر العزة الذي لا تناله الأغيار وهو الحق سبحانه وتعالى.
لذلك أوضح لهم الحق: إن أردتم أن تتعلموا طلب العزة فعليكم أن تغيروا من أسلوبكم في طلبها، فأنتم تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتبتغون عندهم العزة وهم من أهل الأغيار، والأغيار تتبدل من يوم إلى يوم، فإن كان الكفار أغنياء اليوم، فغدًا لن يكونوا كذلك، ولقد رأيتم كبشر ان الغَنَّي يفتقر، ورأيتم قويًا قد ضعف، وطلب العزة من الأغيار يعني أنكم غير أعزاء، ومع ذلك فأنتم تطلبون العزة من غير موصعها.
فإن أردتم عزة حقيقية فاطلبوها ممن لا تتغير عزته وهو الحق سبحانه وتعالى: {فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا}.
وفي هذا القول تصويب لطلب العزة. وليطلب كل إنسان العزة إيمانا بالله؛ فسبحانه الذي يهب العزة ولا تتغير عزته: {فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا}. وكلمة {جميعًا} هذه دلت على أن العزة لها أفراد شتى: عزة غني، عزة سلطان، عزة جاه، فإن أراد واحد أن يعرفها ويعلمها فهي- جميعا- في الحق سبحانه وتعالى.
والمؤمنون في عبوديتهم لله عبيد لإله واحد؛ وقد أغنانا الله بالعبودبة له عن أن نذل لأناس كثيرين. وسبحانه قد أنقذ المؤمن بالإيمان من أن يذل نفسه لأي مصدر من مصادر القوة، أنقذ الضعيف من أن يذل نفسه لقوي، وأنقذ الفقير من أن يذل نفسه لغني، وأنقذ المريض من أن يذل نفسه لصحيح.
إذن ساعة يَقول الحق: {فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعًا} فمعناها: إن أردت أيها الإنسان عزًا ينتظم ويفوق كل عز فاذهب إلى الله؛ لأنه سبحانه أعزنا فنحن خلقه، وعلى سبيل المثال نجد أن الحق لم يجعل الفقير يقترض، بل قال: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245]
وهنا يرفع الله عبده الفقير إلى أعلى درجات العزة. العبد الفقير لا يقترض، ولكن القرض مطلوب لله، ولذلك قال أحدهم لأحد الضعفاء: إنك تسأل الناس، ألا تعف ولا تسأل؟. فقال: أنا سألت الناس بأمر الله، فالسائل يسأل بالله، أي أن يتخذ الله شفيعًا ويسأل به. وعندما يطلب الإنسان العزة من مثيل له، فهو يعتز بقوة هذا الكائن وهي قوة ممنوحة له من الله وقد يستردها سبحانه منه. فما بالنا بالقوة اللانهائية لله، وكل قوة في الدنيا موهوبة من الله، المال موهوب منه، والجاه موهوب منه، وكل عزة هي لله. اهـ.